التدبر في سورة العصر
إبراهيم بن سلطان العريفان
بسم الله الرحمن الرحيم
معاشر المؤمنين عباد الله اتقوا الله تعالى، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه.
إخوة الإيمان والعقيدة .. سورة في القرآن الكريم وجيزةٌ ألفاظها وكلماتها، بليغةٌ معانيها ودلالاتها، مع وجازتها أتت على الخير بحذافيره، وجمعت البرَّ بأنواعه، فما أعظم شأنها وما أرفع مكانتها وأجزل دلالاتها ومعانيها، سورة اشتملت على موعظة مؤثرة، قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو فكَّر الناس في هذه السورة لكفتهم. أي: لكفتهم واعظاً وزاجراً وسائقاً الخير والبر بأنواعه. فحقيق بكلِّ مؤمن أن يتأمَّلها وأن يتدبر دلالاتها، وأن يقف عند وعظها وزجرها، وأن تكون له سائقاً إلى الخير بأبوابه المتنوعة ومجالاته الفسيحة.
إنها سورة العصر، التي صدّر الله جلّ وعلا هذه السورة المباركة بالقسم، فأقسم جلَّ شأنه بالعصر، وهو الزمان الذي هو ميدان الأعمال ومجال الطاعات العبادات، والناس مع العصر والزمان بين محافظٍ ومضيّع، وحال الناس مع الزمان والعصر إمَّا في غنيمة وربح، وإما في إضاعةٍ وخسران، والليالي والأيام تمضي والشهور والأعوام تمر، وكل ما يمر من الزمان والوقت محسوبٌ على الإنسان، ومعدودٌ في عمره وهو فيه بين خاسر ورابح.
قال الله ]وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[ هذا المقسَم عليه وهو أن الإنسان خاسر، والمعنى: أي كلُّ الناس خاسرين إلا من استثناهم الله جلّ وعلا في هذه السورة.
قال ]إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[ ولم يقل إن الإنسان لخاسر لأن قوله ]لَفِي خُسْرٍ[ أبلغ، لأن جميع الناس منغمسون في الخسران، والخسران محيطٌ بهم من كل جانب إلا من استثناهم الله جلَّ وعلا بقوله ]إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[ ألا ما أجدر الإنسان أن يُقْبِل على هذه الأوصافِ الكاملة، والنعوتِ العظيمة، ليكون من أهلها، ولينجو بذلك من سبيل الخاسرين.
]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[ أي آمنوا بالله جلّ وعلا، وبكلِّ ما أمرهم سبحانه بالإيمان به، ويدخل في ذلك أصول الإيمان وقواعد الدّين، قال ﷺ (الإيمان: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
ثم قال ]وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[ أي الطّاعات الزاكيات، والقربات العظيمات، التي يتقرب بها أهلُ الإيمان إلى الله، والأعمال لا تكون صالحة إلا إذا كانت لله خالصة، ولسنة نبيه محمد ﷺ موافقة؛ فإن العمل إن لم يكن خالصاً ولم يكن صواباً على السنة فإنه لا يكون عملاً صالحًا، بل يُردّ على صاحبه ولا يُقبل منه، لقول النبي ﷺ (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) أي مردود عليه؛ لمخالفته هديه وسنته ﷺ.
ثم قال جل وعلا ]وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[ أي أوصى بعضُهم بعضاً بالحقّ، والحق - عباد الله - يشمل التوحيد والإيمان، ويشمل العناية بالقرآن والسنة، ويشمل الاهتمام بالفرائض والواجبات، ويشمل البعد عن النواهي والمحرمات؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله جلّ وعلا كلُّ ذلكم من التواصي بالحق.
وفي قوله جلّ وعلا ]وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[ أي أوصى بعضُهم بعضاً بالصبر، وأمّةُ الإسلام وأفراد أهل الإيمان في حاجة ماسة إلى الصبر في شؤونهم كلها؛ فالطاعات تحتاج إلى صبر، والمعاصي يحتاج تركها إلى صبر، والأقدار المؤلمة تحتاج إلى صبر، والدّعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى صبر، وتعلُّم العلوم النافعة يحتاج إلى صبر، فالصبر - عباد الله - مقام عظيم من مقامات الدِّين يحتاج إليه المؤمن في عباداته وشؤونه وأحواله؛ ولهذا كان من أوصاف النّاجين الرابحين أن يوصي بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة.
عباد الله .. وبهذا نعلم أن هذه السورة الوجيزة البليغة اشتملت على قواعد الإيمان وأصول الدّين وشرائع الإسلام والوصايا العظيمة المرضية، قما أحرانا - عباد الله - أن نُعنى بهذه السورة تفكّراً وتدبّراً لتكون لنا إماماً في السّير في طاعة الله وفراراً من الخسران والعواقب.
وإنا لنسأل الله جلّ وعزّ أن يعيننا على طاعته وأن لا يجعلنا من الخاسرين، وأن يجعلنا بمنّه وكرمه من أهل الإيمان والأعمال الصالحات من المتواصين بالحقّ ومن المتواصين بالصبر.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين .. اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ الإنسان له في هذه الحياة مدّة محدودة وزمن محدود، لا يتقدم عنه ساعة ولا يتأخر، فإذا انتهى زمان الإنسان في هذه الحياة انتهت فرصته في تحقيق سبيل الرِّبح والسلامة من سبيل الخسران؛ فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فنسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يتوفانا وهو راض عنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها ، اللهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك وشكر نعمتك وحسن عبادتك، ونسألك اللهم قلباً سليماً ولساناً صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شرِّ ما تعلم، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النّار ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله وسلّم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبيّنا محمّد وآله وصحبه أجمعين.
المرفقات
1724399132_تأملات في سورة العصر.pdf
1724399140_تأملات في سورة العصر.docx