التحذير من هم الدين واستغلال المدين
د صالح بن مقبل العصيمي
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ ...
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؛ فَإِنَّ الْمَالَ قِيَامُ الْحَيَاةِ، تَقُومُ عَلَيْهِ مَعَايشُ النَّاسِ، وَمَصَالِحُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعالَى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَالٍ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، أَوْ حَاجَةِ عِيَالِهِ، أَوْ إِقَامَةِ تِجَارَتِهِ، أَوْ زِرَاعَتِهِ، وَلَا يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ قَرْضًا حَسَنًا، فَيَلْجَأُ إِلَى الدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَمِ، أَوِ الشِّرَاءِ بِأَجَلٍ، أَوْ بِالتَّقْسِيطِ، أَوِ التَّوَرُّقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الدَّيْنِ.
وَهَكَذَا التُّجَّارُ، قَدْ لَا تَرُوجُ بَضَائِعُهُمْ بِالْبَيْعِ الْحَاضِرِ، فَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُدَايَنَةِ، وَالْبُيُوعِ الْآَجِلَةِ؛ لِتَسْوِيقِ تِجَارَتِهِمْ وَتَحْرِيكِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ أَبَاحَ اللهُ تَعَالَى الدَّيْنَ، وَجَعَلَ لَهُ شُرُوطًا وَآدَابًا، تَحْفَظُ الدَّائِنَ وَالْمَدِينَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَخْطَارٍ وَمَفَاسِدَ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى... ﴾.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ شُرُوطَ الدَّيْنِ وَآدَابَهُ، وَيَحْذَرَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِأَنْوَاعِهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، لَقَدْ تَسَاهَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ فَاسْتَدَانُوا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمَاطَلُوا فِي الْقَضَاءِ، أَوِ اسْتَدَانُوا مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ.
وَكَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يَسْتَدِينُونَ لِلضَّرُورَةِ، أَوِ الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ، كَقُوتِ عِيَالِهِمْ، أَوْ بِنَاءِ بُيُوتِهِمْ، أَوْ إِصْلَاحِ مَزَارِعِهِمْ، أَوْ بَضَائِعَ دَكَاكِينِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، أَمَّا الْيَوْمَ فَأَصْبَحَتْ مُعْظَمُ الدُّيُونِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْكَمَالِيَّاتِ مِنْ أَثَاثٍ فَاخِرٍ، أَوْ سَيَّارَاتٍ غَالِيَةٍ، أَوْ أَسْفَارٍ سِيَاحِيَّةٍ، أَوْ حَفَلَاتٍ بَاذِخَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ إِغْرَاءَاتِ الْمُمَوِّلِينَ، وَتَبْسِيطِهِمْ إِجْرَاءَاتِ التَّمْوِيلِ.
وَمِنْهُمْ يَسْتَدِينُ لِلدُّخُولِ فِي مُغَامَرَاتٍ تِجَارِيَّةٍ غَيْرِ مَدْرُوسَةٍ؛ اسْتِعْجَالًا لِلثَّرَاءِ، وَلِذَلِكَ قَلَّ الْيَوْمَ أَنْ تَجِدَ بَيْتًا لَمْ يَدْخُلْهُ الدَّيْنُ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ عَظَّمَ الْإِسْلَامُ شَأْنَ الدَّيْنِ، وَحَذَّرَ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي قَضَائِهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، فَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ مَسْتُورٍ افْتَقَرَ، وَتَعَرَّضَ لِإِيقَافِ الْخِدْمَاتِ أَوِ الْحَبْسِ، بِسَبَبِ تَرَاكُمِ دَيْنِهِ، وَكَانَ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ، لَوْ قَنِع بِمَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَتَسَاهَلْ فِي الدَّيْنِ، وَقَدْ يَطَالُ الضَّرَرُ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ، وَأَغْنَانَا بِفَضْلِهِ عَمَّا سِوَاهُ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أُبو قَتَادَةَ: عَلِيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ خُطُورَةَ التَّسَاهُلِ فِي الدَّيْنِ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ صَاِحبَهُ قَدْ يُمْنَعُ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يُقضَ عَنْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: "أَهَا هُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟" قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مَنَعَكَ فِي الْمَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ أَنْ تَكُونَ أَجَبْتَنِي؟ أَمَا إِنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكَ إِلَّا لِخَيْرٍ، إِنَّ فُلَانًا، لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مَاتَ، إِنَّهُ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ"، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَهْلَهُ، وَمَنْ يَتَحَزَّنُ، قَضُوا عَنْهُ حَتَّى مَا جَاءَ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ بِشَيْءٍ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودُ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ أَبِي هَرْيْرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانٍ.
وَقَدْ بَلَغَ التَّشْدِيدُ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ إِلَّا الدَّيْنَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْروٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ النَّوِويُّ: "وَأَمَّا قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِلَّا الدَّيْنَ)، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّ الْجِهَادَ وَالشَّهَادَةَ وَغْيرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، لَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ اللهِ تَعَالَى".
وَلِعِظَمِ أَمْرِ الدَّيْنِ -عِبَادَ اللهِ- وَخُطُورَةِ عَوَاقِبِهِ، كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ! فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَدْيُونِينَ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَا يَجِدْ قَضَاءً يَلْجَأُ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى الدَّائِنِ، وَيَعِدُهُ بِالْوَفَاءِ وَلَا يُوَفِّي، عَافَانَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله، وَاحْذَرُوا مِنَ التَّسَاهُلِ فِي الدُّيُونِ، وَاعْرِفُوا آثَارَهَا، وَإِذَا اضْطَرَرْتُمْ إِلَيْهَا؛ فَلْتَكُنْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَبِقَدْرِ مَا تَسْتَطِيعُونَ الْوَفَاءَ بِهِ، وَبِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ الْجَائِزَةِ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْوَفَاءِ فِي الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ حَرِيٌّ أَنْ يُعِينَهُ اللهُ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَدْ كَانَ الْحَدِيثُ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى عَنِ الْمَدِينِينَ، وَهُنَا أُوَجِّهُ كَلِمَةً لِلدَّائِنِينَ، فَأَقُولُ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى فِي مُدَايَنَاتِكُمْ، وَاحْذَرُوا الْبُيُوعَ الْمُحَرَّمَةَ كَالرِّبَا وَبَيْعِ الْعِينَةِ، وَبَيْعِ مَا لَا تَمْلِكُونَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى تَسْلَمُوا مِنَ الْإِثْمِ، وَيُبَارِكَ لَكُمْ فِي تِجَارَتِكُمْ، وَكَسْبِكُمْ، ثُمَّ ارْفُقُوا بِالْمَدِينِينَ، وَلَا تُحَمِّلُوهُمْ مَا لَا يَطِيقُونَ، وَتَثَبَّتُوا مِنْ حَالِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْوَفَاءِ، وَلَا يَكُنْ هَمُّكُمْ تَوْثِيقَ حُقُوقِكُمْ فَحَسْب.
وَإِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا أَوْ فَقِيرًا، فَأَنْظِرُوهُ، وَلَا تُرْهِقُوهُ، وَتُطَالِبُوا بِإِيقَافِ خِدْمَاتِهِ، وَحَبْسِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمْرٌ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَتَرْغيِبٌ فِي الْوَضْعِ عَنْهُ، حَيْثُ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صَدَقَةً.
أَمَّا إِذَا كَانَ غَنِيًّا قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ؛ وَلَكِنَّهُ مُمَاطِلٌ، أَوْ جَحَودٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ وَيُطَالَبَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ". أَخْرَجَهُ أَبْو دَاودَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانٍ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "مَطَلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَا يَجُوزُ لِلْمَدِينِ أَنْ يَتَأَخَّرَ يَوْمًا وَاحِدًا عَنِ الْوَفَاءِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّي بِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مَالَهُ فِي الْكَمَالِيَّاتِ وَالسَّفَرِيَّاتِ وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ لِلنَّاسِ؛ بَلْ لَيْسَ الْحَجُّ إِلَّا بِإِذْنِ الدَّائِنِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ وَرَدَ فَضْلٌ عَظِيمٌ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَوَضْعِ دَيْنِهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِصِبْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ". وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
كَذَلِكَ يَنْبَغِي -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- الاحْتِسَابُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ عَنِ الْمُعْسِرِينَ الَّذِينَ ثَبَتَ إِعْسَارُهُمْ، وَلَا سِيَّما مَنِ اسْتَدَانَ لِحَاجَةٍ، أَوْ ضَرُورَةٍ، وَيَجُوزُ إِعْطَاؤُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلدَّائِنِ، أَوِ الْغَرِيمِ مُبَاشَرَةً، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الْمَدِينُ، مَعَ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَالتَّثَبُّتِ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.
المرفقات
1665090800_خُطبة الجمعة بعنوان التحذير من هم الدين واستغلال المدين.docx
1665090820_خُطبة الجمعة بعنوان التحذير من هم الدين واستغلال المدين.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق