التحذير من الفكر التكفيري
عايد القزلان التميمي
1436/03/25 - 2015/01/16 03:41AM
الحمدُ لله العليِّ الكبير، المتفرِّد بالخلْق والملك والتدبير، أحمده تعالى حمدًا يليق بجلاله وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله الهادي البشير والسراج المنير، أبان لأمَّته خطورةَ الكلمَة وحذّرها من المجازفة في التكفير، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آل بيته وصحابته والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم المرجع والمصير.
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، أيّها المسلمونَ، اتّفَقتِ الشرائعُ والملَل علَى حِفظ حقوقِ الإنسَان وتقريرِ كرامته، فالخلقُ سواسيَة في التكاليفِ والمسؤوليات، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
عباد الله دينُ الله الذي جاءَت به الرّسُل عليهم السلام دعَا إلى ترابُط البشَر فيما بينهم وتعاوُنهم على الخيرِ والبرّ والعدلِ والصلاح: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ)
أمّا في دين الإسلام فإنّ السماحةَ والرحمةَ تأتي في أصولِ مبادئه وتعاليمه وفي أحكامه وتشريعاته، فرحمةُ ربّنا وسِعت كلَّ شيء، وهي قريبٌ من المحسنين، ومحمّد صلى الله عليه وسلم هو رحمةُ الله للعالمين أجمعين، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
عباد الله :
ومن أجل أن يَسودَ الصلاح والإعمار في الأرض فقد اشتدَّ النكير على من سَعَى في الأرض ليُفسدَ فيها ويهلِكَ حرثَها ونسلَها: قال سبحانه (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)
أيها المؤمنون : ومِن أجل ذلك كذلك فإنَّ من أعظم الذنوب وأكبرِ الكبائر سفكَ الدم الحرام وقصدَ المعصومين بالتخويفِ والتّرويع والإيذاءِ والقتل، واستخدامِ وسائل التفجيرِ والتخريب، فكلّ ذلك من أشدِّ أنواع الفساد والإفساد في الأرض .
عباد الله : إن أولئك الصِّغار الأغرار الذين هاجموا بلادَهم، وقتَّلوا أهليهم ورجالهم، وروَّعوا الآمنين، وفتحوا الأبوابَ لتمكين المنافقين. ، هل يريدون جرَّ الأمّة إلى مصائب تُزَعزع الأمنَ وتشيع الفوضَى وتعطِّل مشاريعَ الخير ومسيرةَ الإصلاح؟! هل يريدون أن يُذلَّ الأحرار وتُدَنَّس الحرائِر ويخرجَ النّاس من ديارهم؟! هل يريدون أن يكثرَ القتل وتنتهَكَ الحرُمات
إنهم يريدون إثارةَ فِتن وقودُها الناس والأموال والثّمرات، ونِتاجُها نَقص الدّين ونشر الخوفِ والجوع والفُرقة.
أيّها المسلمون، إنَّ المخاطر كثيرة، وإنَّ مكرَ الأعداء كبير، وهذا كلُّه يستوجِب يقظةَ الجميعِ في مواجهةِ كلِّ فكرٍ ضالّ أو تصرُّف عنيف أو سلوكٍ إرهابيّ.
عباد الله: إنّ مما ابتليت به مجتمعاتنا في هذه العصور تغلغل فكر التكفير والتفجير، حتى انغمس فيه عدد من شباب الأمة الإسلامية يحسبونه هدى وهو ضلال، ويظنونه حقاً وهو باطل، انغمسوا في مستنقعات الهوى وفي أحضان أئمة الضلال فضلّوا وأضلّوا، مع جهل عاطل، وعاطفة هوجاء بدون علم وتحكيم عقل .
كل هذه الأسباب جعلتهم لا يلتفتون إلى نداءات العلماء وصيحات الناصحين، بأن ما يفعلونه ليس بصواب، وأنهم على خطر عظيم فكان حالهم كقول الله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
حسبوا أن تكفير المجتمعات الإسلامية وتكفير حكامها هو من لوازم الإيمان ومن أصول الولاء والبراء، وما علموا أنّ القرآن والسنة جاء فيهما النهي الواضح والصريح عن تكفير المسلمين بغير مكفّر يفعلونه وأنه جعل للتكفير ضوابط مهمة لابد منها كاشتراط توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، كالجهل والإكراه والخطأ والنسيان.
كما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: ((أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ )) ، وفي لفظ: ((وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ )) رواهما مسلم. حار عليه أي رجعت عليه .
فالتكفير -بغير دليل وقبل النظر في أحوال من قام به الكفر- خطره عظيم، فعلى المسلم أن يحرص على سلامة دينه، فلا يكفر مسلماً ليس أهلاً لذلك.
والتكفير بغير دليل من علامات أهل البدع والأهواء، ومن سمات الخوارج في القديم والحديث، بخلاف أهل السنّة فهم أرحم الخلق بالخلق، ولا يكفرون مسلماً ثبت إسلامه بيقين، إلا بدليل قاطع كالشمس.
والتكفير حق لله ورسوله، ثم العلماء الراسخين هم أهل النظر في الاجتهاد فيه، وليس لأهل الجهل والتعالم ، خاصة إذا كان يترتب على هذا الحكم، دماء وأعراض وأموال.
عباد الله : يجب توعيةُ النّاشئة وتذكيرهم ليعظِّموا أوامرَ الله وحرماتِه، ويحذَروا سخطَه ونواهيَه، وكما يُدرك الجميع عِظمَ ذَنب تارك الصلاةِ يجب أن تدركُوا عِظَمَ جُرم هذا الإفسادِ والتكفير وخطَره على الدّين والدّنيا، فنبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم الذي قال: " العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركَها فقد كفر " هو الذي قال: " لزَوال الدّنيا أهونُ عند الله من إراقة دمِ مسلمٍ"، وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام: " لا يَزال المرءُ في فسحةٍ من دينِه ما لم يصِب دمًا حرامًا " ، وهو الذي قال ـ بأبي هو وأمي ـ عليه الصلاة والسلام: " وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ " ، وهو الذي قال: " مَن رفَع علينا السلاح فليسَ منّا ".
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أحمده سبحانه وأشكُره، أفاض علينَا من النِّعَم والإحسان ما لا تبلُغه مسائل السائلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبيَّنا محمّدا عبد الله ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بحسان إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون، إنّ المخاطرَ كثيرةٌ، وإنّ مكرَ الأعداء كبير، وإن المستهدَفَ هو الإسلام وأهل الإسلام، وبخاصّة دار الإسلام الأولى بلادُ الحرمين الشريفين، يريدون ضربَ دورِها الرئيس في محيطِها العربيّ والإسلاميّ والدّوليّ، غيرَ أنَّ الحقَّ وأهلَه ودولتَه تقِف في مثل هذا مواقفَ حازِمَة، وتتعامل معها بمسؤوليّةٍ حِمايةً للدّين والدّار والنّاس، ولقد برهَنَت هذه الأحداثُ على اليَقَظة والكفَاءة والأداء الرفيع ودِقّة التّعامل، ممّا يسجِّل إنجازاتٍ أمنيّةً وقوّة إدارية ورؤيَة بعيدَة في كلِّ الظروف الزّمانيّة والمكانيّة، فلله الحمد والمنّة.
موقفٌ حازم تتّخذُه الدولةُ ضدَّ الإرهاب والفوضى والفتنة في جهدٍ أمنيّ وتوجيهٍ تربويّ وخِطاب توعويٍّ لمنع هذا الفكرِ الشاذِّ، وبخاصّةٍ في أوساطِ الشباب وأصحابِ المعارف القليلة والإدراكِ المحدود.
ومع كلِّ هذه الإنجازاتِ المشكورة والثّقَةِ الواثقةِ فمطلوبٌ مزيدٌ من اليقَظَة، وبخاصّةٍ على المستوى الفرديّ والأسريّ، في تنبيهِ الأبناء وتحذيرِهم من هذه المخاطِر والانزلاقاتِ في الأفكار الضالّة غلوًّا وجفاءً، حمَى الله هذه الديارَ وديارَ المسلمين من كلِّ سوء، وجنَّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحفِظ علينا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا وآخرتَنا التي إليها معادنا، إنه سميعٌ مجيب.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداةِ