التحذير من الظلم في توزيع الميراث. 1446/7/3
عبد الله بن علي الطريف
التحذير من الظلم في توزيع الميراث. 1446/7/3هـ
الحمد لله وارث السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، المبدئ المعيد الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الحكيم القدير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي العزم والتشمير والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا. أما بعد أيها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ فهي وصيتُه للأولين والآخرين فقد قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ..) [النساء:131].
واعلموا أن الله تعالى اعتنى بحفظ حقوق العباد عناية فائقة، وتتجلى هذه العنايةُ بما شرعه لهم من أحكامٍ تضمنُ لهم صلاحَ دينِهم ودنياهم، ومن الحقوق التي رعاها الإسلام حق الرعاية، وتولى تعالى تفاصيل التشريع فيها في كتابه العزيز بعدما ساد طغيان الجاهلية وعبثهم فيها؛ "قسمة الميراث" فقد أنزل تبارك وتعالى فيها آيات بيناتٍ في كتابه هي أساس الأحكام، وَصَدَّرَها بقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء:7].. قال الشيخ السعدي رحمه الله: كان من جبروت وقسوة العرب في الجاهلية أنهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب، فأراد الربُ الرحيمُ الحكيمُ أن يُشَرِّعَ لعبادِه شَرعًا، يستوي فيه رجالُهم ونساؤُهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وَقَدَّمَ بين يدي ذلك هذه الآيةُ، وفيها أمرٌ مُجملٌ لتتوطَّنَ على ذلك النفوس.. ثم يأتي التفصيل بعد الإجمال، وقد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ) أي: قِسْطٌ وحصةٌ (مِمَّا تَرَكَ) أي: مما خَلَّفَ (الْوَالِدَان) أي: الأبُ والأم (وَالأقْرَبُونَ) هذا عمومٌ بعد خصوص (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ). فكأنه قيل: هل ذلك النصيبَ راجعٌ إلى العرفِ والعادةِ، بأن يَرْضَخَ الأقوياءُ لهم ما يشاءون؟ أو شيءٌ مُقدرًا؟ فقال تعالى: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) أي: قد قَدَّرَهُ العليمُ الحكيمُ.. وأزالَ ما يُظَنُّ من توهم من أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) فتبارك الله أحسن الحاكمين" انتهى بتصرف بسيط.
أيها الإخوة: ومن فضلِ اللهِ تعالى أنه فَصَّلَ أحكام المواريث في كتابه الكريم لعظم شأنها أدق تفصيل، وأعطى كلَّ ذي حق حقه، قال سبحانه بعد أن بين أحكامَها: (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:11]. وَحَذَّرَ سبحانه من التحايلِ في قسمة المواريث لأكلِ أموالِ الورثة بالباطل، لعلمه تعالى بشُحِّ بعض النفوسِ وعدمِ مراعاتها لأمرِ الله وتحذيره، ولقد تنوعت صُورُ التحايلِ عند بعض الورثة كأن لم تلامس أسماعَهم التحذيراتُ الشديدة من أكل أموالِ الناس ظُلمًا في الكتاب والسنة وخُصوصًا الضُعفاءِ منهم من الشيوخِ، والنساءِ، والأطفالِ، واليتامى.. فعموا وصموا عن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء:10] وقد ذكر الله تعالى هذه الآية في آيات قسمة المواريث، وتضمنت أنَّ مَنْ أكلَ أموالَ اليتامى ظلمًا سواء من التركة أو غيرها فـ (إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) أي: فإن الذي أكلوه نارًا تتأججُ في أجوافِهم، وهم الذين أدخلوها في بطونهم. (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) أي: نارًا محرقةً متوقدةً. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "وهذا أعظمُ وعيدٍ وَرَدَ في الذنوب، يدلُ على شناعةِ أكلِ أموالِ اليتامى وقُبحها، وأنها موجبةٌ لدخول النَارِ، فدَلَّ ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.." أهـ. وكذلك حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ من أكلِ أو إضاعةِ حقوقِ الضعفاء، وَحَرَّجَهُ تحريجًا بليغًا، وزَجَرَ عنه زجرًا أكيدًا فَقَالَ ﷺ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ" رواه أحمد في مسنده وابن ماجة والنسائي في الكبرى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وحسنه الألباني.
ومعنى: أُحَرِّجُ: أي أُلْحِقُ الحرجَ، وهو الإثم بمن ضيع حقهما، وأُحذرُ من ذلك تحذيرًا بليغًا، وأزجر عنه زجرًا أكيدًا.
أيها الإخوة: ومن أساليبِ بعض الورثة الظالمة: إسقاط حق أحد الورثة أو بعضهم، بأن يتعمدوا إسقاطه من وثيقة حصر الورثة، وهذا فوق أنَّهُ خيانةٌ للأمانة فهو كذبٌ وشهادةُ زُوْرٍ، وقد حَذَّرَ منها رَسُولُ اللهِ ﷺ فيما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْكَبَائِرَ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَالَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَهَادَةُ الزُّورِ» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند الترمذي «فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ». عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وصححه الألباني. وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» -وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ- فَقَالَ: «أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. رواه البخاري. وقولُ الراوي عَنْ النَّبِيِّ ﷺ "وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ" أي جلس ﷺ عند ذكر هذه الكبيرة؛ لأن ضررَها عظيم، وعاقبتَها وخيمة.. ولو قال قائل كيف جعل رَسُوْلُ الله ﷺ شهادةَ الزورِ رابعةً لهذه الكبائر، أجاب ابنُ هبيرة رحمه الله بقوله: "إذا شهدَ الرجلُ على الرجل المسلم بما لا علم له عنده منه، باهتًا له فيه، كاذبًا عليه، فإنه قد جمع في ذلك بين الكذبِ في خبره، والخيانةِ في أمانتِه والظلمِ لأخيه، والإعانةِ على الباطل، وإطعامِ رجلٍ مسلمٍ مالَ رجلٍ مسلمٍ بغير حق، وغَرَّ الحاكمَ الذي حكمَ بشهادته. فكان كلُ واحدٍ من هؤلاء خصمَه إلى الله تعالى، فلذلك كانت شهادةُ الزور رابعة هذه الخلال". الإفصاح عن معاني الصحاح. والتزوير وشهادة الزور يُعَدانِ مخالفةٌ شرعيةٌ ونظاميةٌ يُوقَعُ على مرتكبها عقوبةٌ صارمةٌ من السجن والغرامات الباهظة..
ومن الأساليب السيئة التي يفعلها بعضُ الورثة المتنفذين كذلك: تأخيرُ قسمةِ الميراث، والمماطلةُ في ذلك لانتفاعِهم بالتركة، سواءً بسكنهم في العقارات، أو استعمال السيارات، أو الاستفادة من المزارع والاستراحات، أو غيرها من أموال المورث؛ متجاهلين حقوقَ الآخرين الذين يردهم عن المطالبة بحقوقِهم ضعفٌ، أو جهلٌ، أو حياءٌ، أو خوفٌ من بطش المستفيدين.. ومن الأساليب السيئة التي يفعلها بعض الورثة المتنفذين أيضًا: إِلْجَاءُ بعضَ الورثة إلى التنازل عن حقوقهم في التركة أو بعض حقوقهم، وتعظم المصيبة إذا كان الْمُلْجَأُ ضعيفًا كالمرأة والطفل والشيخ الكبير.. أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتسمع القولَ ويتبعُ أحسنه وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، أعطى فأجزل ومنحَ فتفَضَّل.. وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسولُه ومصطفاهُ وخليلُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.. أيها الإخوة يقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة:2] واعلموا أن من التعاون على البر الذي أمر الله به تذكيرُ الناس بمنعِ المعتدي على أموالِ الضعفاء من الورثة، سواء كان الاعتداء بجحد حقوقهم من التركة، أو تأخيرِ قسمتها وذلك بنصحهم وتذكيرهم بعواقب فعلهم في الدنيا والآخرة، وإخبارِهم أن التركات من الأمور التي يكثُر فيها النزاع وتكون سببًا في خصومة وقطيعة بين الورثة، خصوصًا إذا أُخْرَت قسمتُها.. وأن التأخرَ في القسمةِ يكون سببًا في ضياع الحقوق وشغل الذمم.. وفيه حرمانٌ لذوي الحقوق من حقوقهم، ومن فوائد قسمة التركة التخلص من قيد الشركة، وقدرة الوارث على التصرف بالمال الخاص بحرية.. وإذا لم يمتثلوا، يصار إلى إبلاغ الجهات المعنية بشأنهم لكفهم عن الظلم.. وقال أهل العلم ويستثنى من ذلك: إذا وجد عذرٌ شرعي كأن يكون فيه كساد وينتظر تحسن السوق، أو رضيَ الورثة بالتأخير؛ فلا بأس ولو بقيت الشراكة سنوات أو لأجيال.. لكن لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو مديون وغلبه الحياء فلا يجوز منعه حقه.. اللهم فقهنا في ديننا..