التحذير من الرشوة

محمد بن عبدالله التميمي
1444/10/27 - 2023/05/17 09:55AM

الخطبة الأولى

الحمد لله العليمِ الخلَّاق، أَمَرَ بعبادته وهو الغنيُّ المتينُ ذو القوَّةِ الرزَّاق، لا تَنْفَعُه الطَّاعةُ كما لا تَضُرُّه المعصيةُ وإنما نَفْعُ ذلك وضَرَرُه على العبد المأخوذِ عليه الميثاق، أشهدُ ألّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له توحيدًا وبراءةً من الشركِ والنفاق، وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه دلَّنا عليه وهدانا إليه وألّفَ بيننا بعدَ افتراق، صلى الله وسلَّم عليه وعلى المصطَفَينَ من أمَّتِه من الصحبِ والآلِ وتابعيهم إلى يوم التلاق، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى واعبدوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه، وأَحْسِنُوا العملَ وارجوه، وأَقْصِرُوا عن الإثم وخافوه، فإنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين، وبعيدَةٌ عن المعتدين الآثمين، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

عباد الله.. لقد خلقَ اللهُ الخلقَ وقدّر آجالَهم، وقسَم بينهم معيشتهم وتَكفَّل بأرزاقهم، وجعل لكَسْبِ الرزق الأسباب، فالمؤمن يقتصر على كسب الحلال لحضور إيمانه بعلم الله بعمله فلا خَفاءَ منها ولا غياب، ولِتَذَكُّرِ حال البعثِ للجزاء والحساب، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ{، فهو يَعْلَمُ أن هذا أمرُ اللهِ للمؤمنينَ كما هو أمرُه للمرسلين، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ النبيُّ ﷺ الرَّجُلَ يُطيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!  «فبعيدٌ أن يستجيبَ اللهُ دعاءَ مَنْ محرَّمٌ كَسْبُه، ولو قد أَلحَّ أن يُجاب سُؤْلُه.

أيها المؤمنون.. إن الله نادى بوصف الإيمان ناهيًا عن اتِّباعِ خُطواتِ الشيطان، فإنه يُوْرِدُ موارِدَ العَطَبِ والخُسران، وإنَّ مِنْ شَرِّ المكاسب وأخبثِ الأموال، جريمةٌ عواقبُها سيئةٌ في العاجلة والآخرة، ماحقةٌ للبركة، مبعِدَةٌ عن الرحمة، تُحِلُّ عُقَدَ القلوب، ولا يسلم صاحبُها من مغبَّةِ الذنوب، تُعْوِرُ عينَ الحكيم، وتَطمسُ قلبَ العليم، إنها الرِّشوة، وما أدراك ما الرِّشوة؟! هي: مالٌ أو مصلحةٌ تُقدَّم لمسؤولٍ عن عَمَلٍ يُتوصَّل به لإحقاق باطل أو إبطال حق، فهي أكلٌ لأموال الناس بالباطل، سُحتٌ وحرام، وإيغال في الآثام، من الـمُعْطِين لها والقابضين، فكلاهما لمقت الله وسَخَطِه متعرِّضين، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فنهى الله أن يأكل بعضُنا مالَ بعضٍ بسببٍ باطلٍ، كاليمينِ الكاذبة، والغَصْبِ، والسرقةِ، والرشوة، كما أنَّ الرِّشوةَ مِن خِصالِ اليهودِ التي بها عُرفوا، وبها وبغيرها لأموال الناس أكلوا، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

لقد جاءت الشريعةُ بتحريم الرشوة والنهي عنها وعن السُبُلِ المؤدية لها ولو صحَّت نيةُ المعطي وحَسُنَ قَصْدُ الآخِذ، فنبيُّنا ﷺ حذّر مِن هدايا العمال، وهي ما يأخذه صاحب العمل في أيِّ عمل كان، من المصالح والأثمان، فوقَ ما سُمِّيَ له فتكون العطية مِن نفسِه بمكان، في الصحيحين أن النبيَّ ﷺ بعث ابنَ اللُّتْبِيَّة على الصدقة فَجَاءَهُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ ﷺ: «أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ؟» ثُمَّ قَامَ ﷺ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ العَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ: هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ»، وفي صحيح مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: «وَمَا لَكَ؟» قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى»، هكذا أدَّبَ النبيُّ ﷺ أهلَ الوظائف، ليحذروا من استغلال مناصبِهم، مع ما جاء عنه ﷺ من وعيدٍ شديد رواه عنه أبوهريرةَ وثوبانُ وعبدُالله بنُ عَمْرٍو قالوا: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ» يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا، فإنه شريكٌ لهما في الإثم، مَجْزِيٌّ معهما باللعنة، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وفي حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» والغُلولُ إثمُه عظيم فقد قال النبيُّ ﷺ في رجلٍ غلَّ «إِنِّي رَأَيْتُهُ يُجَرُّ إِلَى النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ، غَلَّهَا»، فالغُلول بالانتهاب من مال المسلمين غنيمةً أو بيتَ مال، وبأخذ ما لا يَحِلُّ كالرُّشا، سواءٌ كانت رِشوةٌ في التعليم والشهادات، أو في الوظائف والترقِيات، أو في المُعاملات بتضييع حقوق الدولة أو الشركات، وما أعظمَ فتكَ ذلك بالمجتمعات.

وهذا يستوجب تمتين وازِع الدين، بالخوفِ من اللهِ ذي القوةِ المتين، وتقويةَ الإيمان واليقين، بأنْ لنْ تَموتَ نَفْسٌ حتى تَستَكمِلَ رِزقَها، فاتَّقوا اللهَ ولا يَحمِلَنَّكمُ استِبْطاءُ الرزقِ على أنْ تَطلُبوه بمَعْصيةِ اللهِ-كما قال النبيُّ ﷺ-.

عباد الله.. إنَّ الرِّشوة وإن زُخرِفَت المناظِر، وتلوَّنَت المظاهِر، واختلفَت الأسماء،

كانْ سُميت هديةً، أو إكراميةً، أو نحو ذلك، فإن حقيقتَها لا تتغير، فدفعُها وأخذُها موجبٌ للعنة وحلول سخَطِ اللهِ وعقوبته، وليأخذ كلٌّ على نفسِه بحزم، أن يَبعُدَ عن الحرام والإثم، وذلك من تحقيقِ التقوى، فاتقوا الله فإنَّ أجسادَكم على النارِ لا تَقْوَى. 

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك، وهبْ لنا غِنًى لا يُطغِينا، وصحةً لا تُلهِينا، وأغنِنا الله بفضلِك عمَّن أغنَيتَه عنَّا، يا جوادُ يا كريمُ.

باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا ورفعَنا بما فيهما من الآيات البيِّنات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، منَّ علينا فهدانا، وكفانا وآوانا، فله الحمدُ غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مودَّعٍ ولا مستَغنًى عنه رَبَّنَا، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمدٍ سيدِ المرسلين، أما بعد:

فاتقوا الله ربَّ العالمين، ويا بُشرى للمُوظَّفِ الأمين، الذي اجتنبَ الحرام واحتمى، واستبرأ لدينه وعرضه بالحِمى، فأبعد عن مواطن الشُّبَه والهوى، ونأى عن لُعاعةٍ من الدنيا تورِثَ الحَسْرةَ والردى، {وما يُغني عنه مالُه إذا تردَى} {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، ويا مَن بُلِي فيما مضى أقْصِر، ولما في الذِّمَّة انظر، فله رُدَّ ولِرَبِّكَ تُبْ ولا تُؤَخِّر، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبُوا، وزِنُوها قبل أنْ تُوزَنُوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر ﴿يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية﴾، ولا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ فالعاقل يعِدُّ للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.

المرفقات

1684306519_جريمة الرشوة.docx

1684306519_جريمة الرشوة.pdf

المشاهدات 837 | التعليقات 0