التحذير من التكفير والخروج على إمام المسلمين
سلطان الحصين
الحَمْدُ لله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَأَشْهَدُ أن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة:197]
.عِبَادَ الله: فِتْنَةٌ خَطِيرَةٌ، طَلَّتْ بِرَأْسِهَا وَحَذَّرَ مِنْهَا السَّلَفُ رَحِمَهُمُ الله، وَبَيَّنُوا خَطَرَهَا وَعُوَارَهَا، إِنَّهَا مَسْأَلَةُ: تَكْفِيرِ المُسْلِمِ لِأَخِيهِ الُمسْلِمِ، وَالمُجَازَفَةُ بِالْحُكْمِ عَلَى المُسْلِمِ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلَّةِ الإِسْلَامِ، وَعَدِّهِ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله
أَيُّهَا المُؤْمِنُون: مَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ مِنَ المَسَائِلِ الِكبَارِ وَالقَضَايَا العِظَام، لَهاَ آثَارُهَا الوَخِيمَة، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهَا إِلَّا بِبُرْهَانٍ وَلَقَدْ نَبَّهَ أَهْلُ العِلْمِ سَلَفاً وَخَلَفاً إِلَى خُطُورَةِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَعِظَمِ شَأْنِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ آثَارٍ وَتَبِعَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، يَقُولُ الإِمَامُ الشَّوْكَانيّ رحمه الله: "اعْلَمْ أَنَّ الحُكْمَ عَلَى الرَّجُلِ المُسْلِمِ بِخُرُوجِهِ مِنْ دِينِ الإِسْلَامِ وَدُخُولِهِ فِي الكُفْر،ِ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ يُؤْمِنُ باِللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِلَّا بِبُرْهَانٍ أَوْضَح مِنَ الشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَار
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ الله ِصلى الله عليه وسلم قاَلَ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ»، أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَر: «مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» أخرجه الطبراني
أُمَّةَ الإِسْلَام: الكُفْرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالكَافِرُ هُوَ مَنْ كَفَّرَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، فَلَيْسَ الكُفْرُ حَقّاً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، بَلْ هُوَ حَقٌّ للهِ وَحْدَهُ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله بِقَوْلِهِ: "فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ العِلْمِ وَالسُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ المُخَالِفُ يُكَفِّرُهُمْ؛ لِأَنّ الكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِهِ، كَمَنْ كَذَبَ عَلَيْكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الكَذِبَ حَرَامٌ لِحَقِّ الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ حَقٌّ لله، فَلَا يُكَفَّرُ إِلَّا مَنْ كَفَّرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ "، وَقَالَ أَيْضًا: "وَالخَوَارِجُ المَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ، قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَأَئِمَّةُ الدِّينِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ أَيْ: الخَوَارِجُ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَإِنَّماَ قَاتَلُوهُمْ لِبَغْيِهِمْ"، وَقَالَ رحمه الله: "إِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ صَلَّى خَلْفَ الجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى قَوْلِهِمْ وَامْتَحَنُوا النَّاسَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بِالعُقُوبَاتِ الغَلِيظَةِ، لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحْمَدُ وَأَمْثَالُهُ، بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِيمَانَهُمْ وَإِمَامَتَهُمْ، وَيَدْعُو لَهُمْ، وَيَرَى الائْتِمَامَ بِهِمْ وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُم وَالمَنْعَ مِنَ الخُرُوجِ عَلَيْهِمْ
أيُّهَا المُؤْمِنُون: فِي مَسْأَلَةِ التَّكْفِيرِ زَلَّتْ أَقْدَامٌ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَزِل، وَضَلَّتْ أَفْهَامٌ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَضِل، وَخَاضَتْ أَلْسِنَةٌ وَأَقْلَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُرْهَان، فَيَنْبَغِي الحَذَرُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ، كَمَا يَنْبَغِي الحِرْصُ عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ المُسْلِمِين، فَحِينَ تَحْصُلُ الفُرْقَةُ وَالنُّفْرَةُ وَشَتَاتُ الكَلِمَةِ يَسْتَبِدُّ كُلُّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَيَدَّعِي كُلٌّ الكَمَالَ لِنَفْسِهِ، وَيَحْصُرُ الحَقَّ وَالغِيْرَةَ فِي نَفْسِهِ وَفِئَتِه، فَيَحْتَقِرُ إِخْوَانَهُ، وَيَزْدَرِي مَسْلَكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ تَتَنَافَرُ القُلُوبُ، وَيَقَعُ التَّهَاجُرُ وَالتَّقَاطُعُ، وَتَضْعُفُ الدَّعْوَةُ إِلَى الله، وَيَتَغَلْغَلُ الأَعْدَاءُ، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ بُغْيَةُ الأَعْدَاءِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله
.نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ وَبِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وِلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخطبة الثانية
.الحَمْدُ لله فَالِقِ الإِصْبَاح، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ تَتَوَالَى وَتَتَجَدَّدُ فِي المَسَاءِ وَالصَّبَاح، وَأَشْهَدُ أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، أَمَّا بَعْدُ
أَيُّهَا المُسْلِمُون: عِنْدَمَا تَتَقَرَّر خُطُورَةُ التَّكْفِيرِ وَعِظَمُ شَأْنِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْنِي التَّسَاهُلَ وَتَمْيِيعَ القَضَايَا وَإِغْلَاقَ بَابِ الرِّدَّةِ عِيَاذاً بِاللهِ، وَالحُكْمَ بِالْإِيمَانِ لِمَنْ ظَهَرَ كُفْرُهُ بِالدَّلِيلِ وَالبُرْهَانِ، وَلَكِنَّ المَقْصُودَ بَيَانُ خَطَرِ المَسْأَلَةِ وَالحَذَرُ مِنَ الجُرْأَةِ فِي اقْتِحَامِ أَبْوَابِ التَّكْفِيرِ وَالخُرُوجِ عَلَى الإمَامِ الُمْسْلِمِ المُبَايِعِ بَيْعَةً شَرْعِيَّة
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَاجْتَمِعُوا عَلَى الحَقِّ، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ، وَٱتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ، ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ المَوْلَى جَلَّ وَعَلَا، فَقَالَ قَوْلاً كَرِيماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب:56]
___
المرفقات
1624113012_التحذير من التكفير والخروج على امام المسلمين.docx