التحذير من الاغترار بالدنيا

محمد بن خالد الخضير
1442/06/29 - 2021/02/11 11:27AM

الخطبة الأولى

 ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" أَمَّا بَعْدُ :بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ بِأَحَدِ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، إِذْ مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ -أي مقطوعُ الأُذُنِ - فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: «فَوَ اللهِ لَدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» رواه مسلم.

عِبَادَ اللهِ:بَيَّنَ لَنَا اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا، العَالِمُ بِهَا الخَبِيرُ بِصِفَاتِهَا -جَلَّ جَلَالُهُ-.

هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا نُفُوسُنَا وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، مَا حَقِيقَتُها؟ وَمَا مِقْدَارُهَا؟

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوٰلِ وَٱلأَوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ}، فما الظن بما نهايته اصفرارٌ وحطامٌ، مهما سبقهما من زينة وتفاخر وتكاثر، وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، وصدق الله: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَـاقِيَاتُ الصَّـالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف:45، 46].

عبادَ اللهِ: إنَّ المرءَ في حياته ومعاشه، يتقلَّب بين خيرٍ وشرٍّ، ورخاءٍ وشظَفٍ، وعُسْرٍ ويُسْرٍ، هكذا هي الحياة، تتقلَّب فلا تدوم على حال، فإن مَنْ سرَّتْه حالٌ ساءته أحوالٌ، ولو نظَر إلى أمسه فسيراه قد فات، فلا يستطيع ردَّه، ولا يشعر بلذَّتِه التي مضَتْ، وينسي ألمَ حزنه الذي انقضى، ولو نظَر إلى غده فسيراه مجهولًا، فهو ليس على ثقة منه؛ لأنه لا يدري ما الله قاضٍ له فيه، فلا يرى حينئذ بين يديه إلا يومَه الذي يتنفَّس فيه ويسمع ويُبصِر، فصارَت محصِّلتُه من ذلكم أنَّ أمسَه أَجَلٌ، ويومَه عملٌ، ومستقبلَه أملٌ، وهو في مثل هذه الحال أحوجُ ما يكون إلى أن يستحضِر في نفسه وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمرَ حينَ قال له: "كُنْ في الدنيا كأنَّكَ غريبٌ، أو عابرُ سبيلٍ"، ويستحضر في نفسه أيضا وصيةَ ابن عمر بعد تنفيذه وصيةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حياتكَ لموتكَ"(رواهما البخاري).

هذه هي حقيقة الحياة -عبادَ اللهِ-؛ تقلُّبٌ وغِيَرٌ ونوائبُ وزوالٌ، لا دوامَ فيها ولا بقاء، فما جعَل اللهُ الخُلْدَ فيها لبَشَر قطُّ، وإن دنيا هذه صفتُها ليست جديرةً بأن يشغل العبدُ نفسَه بها، عمَّا هي أدومُ منها وأبقى، ولا أن يُطلِق لعينيه العِنانَ، يمدُّهما إلى ما متَّع الله به أزواجًا منهم، زهرةَ الحياة الدنيا ليفتنهم فيه، ولا تستحقُّ أن يوالي عليها أو يعادِي، ولا أن يخاصِم ويناكِف، ولا أن يتحسَّر عليها حتى يكونَ حَرَضًا أو يكون مِنَ الهالِكينَ؛ فإنَّها -واللهِ وباللهِ وتاللهِ- ما كَمُلَتْ لأحدٍ إلا نَقَصَتْ، ولا اتسعت له إلا ضاقت، وما سرت أحدا إلا أحزنته، وما أضحكته إلا أبكته، وإنها مهما كبرت فهي صغيرةٌ، ومهما طالَت فهي قصيرةٌ، إنها كما قال عنها نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تَعدِل عندَ اللهِ جناحَ بعوضة ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ" رواه الترمذي وصححه الألباني. وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "وَاللهِ مَا الدُّنيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ مِثلُ مَا يَجعَلُ أَحَدُكُم إِصبَعَهُ هَذِهِ- وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ فَلْيَنظُرْ بِمَ يَرجِعُ"(رَوَاهُ مُسلِمٌ).

تمسكوا بأحبتكم جيداً، وعبروا لهم عن حبكم، واغفروا زلاتهم فقد ترحلون أو يرحلون يوماً وفي القلب لهم حديث وشوق،فالحياة قصيرة جداً لا تستحق الحقد، ولا الحسد، ولا البغض، ولا قطع الرحم

غداً سنكون ذكرى فقط والموت لا يستأذن أحد.. ابتسموا واسمحوا وسامحوا من أساء إليكم.

احذر أن تفتن بها وأن تنقاد لزهرتها، وكن من الذين فطنوا لحالها، والتزموا بأوامر خالقها وباريها.

إن لله عباداً فطّنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا

بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارًا

الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..

أَمَّا بَعْدُ: عباد الله لا يُقصد بذم الدنيا تركُها بالكلية، والتجافي عنها تماماً، وإنما القصد من ذلك تركُ بهرجها الزائف، وبريقها الخادع، وعدم الاغترار بها، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالمؤمن يتخذها طريقاً للجنة، ومزرعة للآخرة، وتزوداً للتقوى، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [(77) سورة القصص] قال: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) [رواه البخاري].

 أيها الكرام: يَعْرِفُ قَدْرَ الدُّنْيَا مَنْ جَعَلَهَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ, مَنْ جَعَلَهَا شَجَرَةً يَسْتَظِلُّ بِهَا سَاعَةً ثُمَّ يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ.

عَرَفَ قَدْرَ الدُّنْيَا مَنْ هَجَرَ لَذَّةَ النَّومِ وَمُتْعَتَهُ، لِيَنْطَلِقَ لِإِجَابَةِ نِدَاءِ رَبِّهِ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ.

عَرَفَ قَدْرَ الآخِرَةِ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ أَنْ تَقَعَ عَينُهُ أَوْ تَسْمَعَ أُذُنُهُ مَا يُغْضِبُ رَبَّهُ وَمَوْلَاهُ.عَرَفَ قَدْرَ الآخِرَةِ مَنْ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ الْحَدِيثِ عَنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانَةٍ.

عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على حُدود بلادِنا، اللهم كُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا يا رب العالمين.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعهم واحفظ ديارهم، واجمعهم على الحق والهدى

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا .. اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم نوّر على أهل القبور قبورهم

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1613042828_التحذير من الاغترار بالدنيا 30-6-1442.pdf

المشاهدات 1294 | التعليقات 0