التحذير من أكل الحرام

التحذير من أكل المال الحرام

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي الجلال والإكرام ، أحمده سبحانه هو الملك القدُّوس السلام ، وأشكره على ما حبانا به من الفضل والإنعام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أوضح الأحكام ، وبيَّن الحلال والحرام ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتمُ النبيين وسيدُ الأنام ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام . أما بعد :-

 فاتقوا الله عباد الله ، فالتقوى خيرُ زاد السالكين ، وعُدَّة السائرين إلى رب العالمين .

عباد الله : كسب الأرزاق وطلب العيش أمر حث عليه الشرع ، فالله جعل النهار معاشاً ، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً ، أمرهم بالسعي والمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه . وقرن سبحانه بين المجاهدين في سبيله ، وبين الساعين في أرضه يبتغون من فضله ، فقال : ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) . وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه : " ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ ، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ " (رواه البخاري)  .

عباد الله : حُبُّ المال والتعلُّق بطلبِه ، والشَّغَفُ بجمعه ، والحِرصُ على تنميته ، وداومُ العملِ على حراستِهِ ، طبيعةٌ في البشر ، وجِبِلَّةٌ في الإنسان ، قال تعالى : ( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ) . وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا ، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَنْ تَابَ » ( البخاري ومسلم ) . فإن طمع ابن آدم لا ينقطع من حب المال . ولايزال حريصًا على الدنيا حتى الموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره ، فإذا مات ودخل قبره ، تنقطع حينئذ أمانيه ، وينقطع طمعه . وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : « يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ : الْحِرْصُ علَى الْمَالِ ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ » ( البخاري ومسلم ) .

عباد الله : الناس في حبهم للمال والحرص على جمعه أنواع ، النوع الأول من يحب المال ويحرص على جمعه ، لكن بالطرق المباحة شرعاً . من الحلال الواضح الذي لا شبهة فيه ، فهو يخاف الله ويتقيه في جمعه للمال وإنفاقه . فيبتعد عن الحرام وعن كل ما فيه شبهة . فهذا كسبه طيب ، وهو مِنْ أسلمِ الناس دينًا ، وأعفُّهم نفسًا ، وأهدؤُهم بالاً . وأشرحُهم صدرًا ، وأهنؤُهم عيشًا ، عِرْضُه مُصان ، ويديه نزيهة ،  ورِزقُهُ مُبارَك ، وذِكرُهُ في الناس جميل . إن دعا استجيب له ، ، وإن تصدق قُبِل منه واُجِر ، لأنه طيب وماله من كسب طيب ، وإن الله طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا ، فهنيئاً له ما أسعده . وتحرِّي أكلِ الحلال من أعظم الخِصال التي تحلَّى بها النبي  صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم ، وكان أهلُ الصلاح والتُّقى يتواصَون بالتعفُّف في المآكِل والمشارِب والمكاسِب : قال صلى الله عليه وسلم : ( أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ) .

عباد الله : إن طلبَ الحلال وتحرِّيه ليس مُجرَّد خُلُقٍ فاضلٍ ، بل هو أمرٌ واجبٌ ، فلن تزولَ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه ؟ فالواجب على كل مسلمٍ أن يتحرَّى الطيبَ من الكسب ، والنَّزيهَ من العمل ، ليأكُلَ حلالاً ، ويُنفِقَ في حلال . ومن عوَّد نفسَه الورعَ والـمُحاسبَة ، والعِفَّةَ والقناعةَ ، صارَ له ذلك خُلُقًا وطبعًا ، فلنحرص جميعاً على طلبَ الحلال الطيبَ من الكسب .

والنوع الثاني من الناس ، هو من همه جمع المال وكسبه من أي طريق كان ، من حلال أو من حرام . فالحلال عنده هو ماحلَّ في يده . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ ) رواه البخاري . رِباً وسرقة ، تطفيف في الكيل والميزان . غشّ في البيع ، وكتم لعيوب السّلع . أكل لأموال الناس واليتامى بالباطل ، وغدر وخيانة . إضاعة للوظائف والأعمال ، وغياب لأتفه وأوهى الأسباب ، وتلاعب بالإجازات المرضية ، وسرقة من ساعات العمل ، ثمّ في النّهاية عندما يُبتلى الواحد بمرض أو همّ أو مصيبة يقول : أنّى هذا ؟ ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، وقد يكون هذا الرجل الذي يأكل الحرام ولا يبالي ، عنده أعمال صالحة ، لكنه يتهاوَنُ في أكل الحرام ، فيخسرُ الدنيا والآخرة ، فلا يُقبَلُ عملُه ولا تُستجابُ دعوتُه ، ولا يُبارَكُ له في كسبِه . اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبفضلك عمن سواك ، يا واسع الفضل والإحسان ، يا أكرم الأكرمين .. أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يحبُّ الطيبَ الحلال ، ويُبغِضُ الخبيثَ الحرام ، أحمده سبحانه حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإكرام والإنعام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ، صلّى الله وسلِّم عليه ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام . أما بعد :-

فإنَّ أكل المال الحرام داء خطير ومرض عضال ، خطرُه على الأفراد عظيم وفساده للمجتمع كبير ، ما وقع فيه امرؤ إلّا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وأسرته وعمره ، وما تدنَّس به أحد إلّا وحُجبت دعوته ، وذهبت مروءته ، وفسدت أخلاقه ، ونُزع حياؤه ، وخسرَ في دنياه وفي أخراه . وديننا الإسلامي يُحذّر من خطورة الحصول على المال الحرام بأيّ طريقة ،  فعن كَعْبِ بنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه قَالَ : سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقُولُ : " إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فتنةً ، وفِتنَةُ أُمَّتي المَالُ " رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . ولقد وردت آيات وأحاديث تحذّر من أكل المال الحرام ، قال تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : "... كل المسلم على المسلم حرام ، دمُه وماله وعِرْضُه " . والّذي يأكل المال الحرام يعّرض نفسه للعقوبة في الدّنيا ويوم القيامة ، أمّا في الدّنيا ، فقد تكون العقوبة خسارة في ماله أو نزع البركة منه أو مصيبة في جسده ، قال تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } ، وأمّا في الآخرة ، فعن كعب بن عجرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : " يا كعب لا يربو لحم نبت من سُحت إلّا كانت النّار أولى به " . ومن عقوبة أكل المال الحرام في الدّنيا ، عدم إجابة الدّعاء ، وعدم قبول العبادة ، قال صلّى الله عليه وسلّم : " يا أيّها النّاس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبًا ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيَّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، ثمّ ذكر الرجل يطيل السّفر أشعث أغْبَر يمُدّ يديه إلى السّماء ويقول : يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك " . ومن صور أكل المال الحرام الرّبا الّذي حرّمه الله ورسوله ، ولعن آكله وكاتبه وشاهديه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، والاعتداء على أجور العمال وعدم إعطائهم حقوقهم في أوقاتها امتثالًا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه " ، والحلف على السّلعة باليمين الكاذب ، والغشّ في المعاملات التجارية  ، وأخذ الرّشوة ، وغصْبُ الأرض والاستيلاءُ عليها ، وقد توعّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غصبَ أرضًا وانتزعها من صاحبه بأشدّ الوعيد ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : " مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . ومن المال الحرام أكل مال اليتيم ، فمن كان عنده مال ليتيم من ضمان أو إرث أو غيره فأكله أو جحده فهو آكل لأموال النّاس بالباطل ، وقد توعّد الله تعالى عليه بأشدّ الوعيد ، فقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } ، فاحذروا المال الحرام بكل صوره ، وشتى أنواعه وأشكاله ، فهو سبيل إلى الهلاك ، ومركب إلى الهاوية ، وخبيث ، والله تعالى لا يحب الخبيث ، قال تعالى : ( قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) . فاتقوا الله عباد الله ، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 10/3/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1726087152_التحذير من أكل المال الحرام.docx

المشاهدات 269 | التعليقات 0