التَّحبُّبُ إلى الناسِ؛ مِنْ شِيَمِ العقلاءِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1445/06/29 - 2024/01/11 14:30PM

الحَمْدُ للهِ مُقرّبِ المَحبُوبِ، ومُؤلِّفِ القلوبِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ علّامُ الغيوبِ، وأشهدُ أنَّ مُحمّداً عبدُه ورسولُه، المُنجّى مِنَ الخطوبِ والكُروبِ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آلِه وصَحْبِه كلَّ شروقٍ وغروبٍ، وعلى من اتّبَعهم بإحسانٍ إلى يومِ العناءِ واللّغُوبِ

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فالمتقونَ أحبابُ اللهِ، وهمُ الفائزونَ بالجنّاتِ، وعالي الدّرجاتِ: " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا* وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا"

معاشرَ المؤمنينَ: مَحَبَّةُ الناسِ مِنَ الغاياتِ التي يسعى إليها العقلاءُ، ويُدْرِكُها النُّبَلاءُ، ويَنْعَمُ بها الفضلاءُ، ويُحافِظُ عليها ذوو المرؤةِ والشّهامَةِ؛ قالَ ميمونُ بنُ مَهْرَانَ رضيَ اللهُ عنه: (التّوَدُّدُ إلى النّاسِ نِصْفُ العَقْلِ)  ومحبَّةُ النّاسِ لا تُشْترى بالمالِ، ولا تُنَالُ بالسُؤالِ، ولا تُوْرَّثُ للعيالِ؛ قالَ أَبُو حاتم رحِمَه اللهُ (حَاجَةُ المَرءِ إلى النَّاسِ مَعَ مَحَبَّتِهمْ إيَّاهُ؛ خَيْرٌ مِنْ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَعَ بُغْضِهمْ إيَّاهُ)

 وكانَ الصّحابَةُ الأجلّاءُ يَنشُدُونَ هذه المَحبَةَ، ويسألونَ النّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أسبَابِها؛ طلباً لتحصيلِها، ونيلِ فضْلِها؛ فهذا أبو هريرةَ رضيَ اللهُ عنه يقولُ: "قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إلى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إلَيْنَا، قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إلى عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إلَيْهِمِ المُؤْمِنِينَ، فَما خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بي وَلَا يَرَانِي إلَّا أَحَبَّنِي"

رواهُ مسلمٌ.  

وعنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: "جاءَ رجلٌ إلى النّبيِّ صلّى اللُه عليهِ وآلهِ وسلمَ فَقالَ: يا رسولَ اللهِ دُلَّنِي على عملٍ إذا عَمِلْتُهُ أحبَّني اللهُ وأحبَّنِي النَّاسُ، فقالَ ازْهَدْ في الدُّنيا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ" رواه ابنُ ماجه، وحسَّنه النّووي وغيرُه.

وأسبابُها شَرْعيةٌ دِيْنِيَّةٌ بالمقامِ الأوَّلِ، ومِنْ ثَمَّ يَتْبعُها أسبابٌ دُنْيَويَّةٌ، وقدْ حَرِصَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ على انتشارِ المحبَّةِ بينَ أفرادِ أُمّتِه، وأرشَدَهم إلى أسبابِ ذلكَ؛ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وإلى العَمَلِ الذي يفعلونَه لتحْصِيلِها؛ فحثَّ على مَكارِمِ الأخلاقِ، وفضائلِ السُّلوكِ، ومَحاسِنِ الأعمالِ؛ فمرّةً بَيّنَ أهميّةَ بَسْطِ الوجهِ وحُسْنِ الخُلُقِ في تحصيلِ المَحبَّةِ، وإيجادِ الموَدَّةِ؛ فقالَ عليه الصلاةُ والسّلامُ: " إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ" رواهُ البزّارُ وحسّنَه الألبانيُّ.

قال أَبُو حاتم رحمه الله: (حُسْنُ الخُلُقِ بَذْرُ اكْتِسَابِ المحبةِ؛ كما أنَّ سوءَ الخُلُقِ بَذْرُ اسْتِجْلابِ البُغْضَةِ، وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ صَانَ عِرْضَهُ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُه هَتَكَ عِرْضَهُ)

ومرّةً بيّنَ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ أهميَّةَ المَحبَّةِ بَيْنَ المسلمينَ، وأنّها مِنْ كمالِ إيمانِ المؤمنينَ؛ وبيّنَ لهمْ عَمَلاً إذا عَمِلُوهُ حصلتْ المَحبَّةُ بينَهم؛ فقالَ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ" رواهُ مُسلِمٌ.

ومرَّةً رَغّبَهم ببعضِ الصّفاتِ التي تُوْرِثُ المَحبَّةَ، وتَجْلِبُ المودّةَ؛ فقالَ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكم بمَن يَحْرُمُ على النَّارِ، وبمَن تَحْرُمُ عليه النَّارُ؟ على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهْلٍ" رواهُ التّرمِذيُّ وحسَّنه الألبانيُّ.

ومرّةً أخرى أرشدَ إلى كثرةِ التَّهادِي بين المسلمينَ، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ:"  تَهادَوا تحابُّوا" رواه البخاريُّ في الأدبِ المفردِ، وحسّنَه الألبانيُّ.

معاشرَ المؤمنينَ: لقدْ امتدَحَ اللهُ مجتَمَعَ الأنصارِ بمَحَبّتِهم لِمَنْ هاجرَ إليهم فقالَ عزَّ وجلَّ: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ"

وأكدَ تعالى أنّه سَيجازي المؤمنينَ العاملينَ الصّالحاتِ بجَعْلِ الموَدَّةِ والمَحبَّةِ لهم في قلوبِ المؤمنين؛ يجعَلُها لهم من دونِ أن يَطْلُبُوها بالأسبابِ التي توجِبُ ذلك؛ فقالَ سبحانَه: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا"

وذكرَ تعالى في بيانِ صِفةِ المحبِّينَ له سُبحانَه أنَّ مِنْ لوازِمِها مَحَبَّةَ المُؤمِنين والرَّأفةَ بهم فقالَ:" فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ" قال ابنُ رجَبٍ: (فوصف اللهُ سُبحانَه المحبِّين له بأوصافٍ: أحدِها: الذِّلَّةُ على المُؤمِنين، والمرادُ لِينُ الجانِبِ وخَفضُ الجَناحِ والرَّأفةُ والرَّحمةُ للمُؤمِنين، وهذا يرجِعُ إلى أنَّ المحبِّين للهِ يحبُّون أحبَّاءَه ويَعُوْدُوْنَ عليهم بالعَطفِ والرَّأفةِ والرَّحمةِ)

معاشرَ المؤمنينَ: بالتّحبُبِ إلى الناسِ، تُتَبَادَلُ المَحبَّةُ، ويتعاونونَ، ويَعْمَلونَ، ويَعْمُرونَ، ويُعَمَّرونَ، وتَحِلُّ لهمُ البَرَكَةُ؛ قالَ الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: (كُلُّ قومٍ إذا تحابُّوا تواصَلوا، وإذا تواصَلوا تعاوَنوا، وإذا تعاوَنوا عَمِلوا، وإذا عَمِلوا عَمَروا، وإذا عَمَروا عُمِّروا وبوركَ لهم) وقالَ أيضاً: (لو تحابَّ النَّاسُ وتعامَلوا بالمَحَبَّةِ لاستغنَوا بها عن العَدْلِ؛ فقد قيل: العَدلُ خَليفةُ المَحَبَّةِ، يُستعمَلُ حيثُ لا توجَدُ المَحَبَّةُ)

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسّنة ...

أقولُ قولي هذا ...

 

الخطبةُ الثاانيةُ:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحْدَه لا شريْكَ له تعظِيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه الدّاعي إلى رضوانِه؛ صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه.

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"

 معاشرَ المؤمنينَ: أعظمُ سببٍ تُسْتَجْلَبُ به محبةُ الخلْقِ هو: محبّةُ اللهِ؛ قالَ يَحيى بنُ مُعاذٍ: (على قَدْرِ حُبِّك للهِ يُحِبُّك الخَلقُ)

وقالَ هَرَمُ بنُ سِنانٍ: (ما أقبَلَ عبدٌ بقلبِه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ إلَّا أقبَلَ اللهُ بقلوبِ أهل ِالإيمانِ إليه، حتَّى يرزُقَه مودَّتَهم ورحمَتَهم)

وإذا أطاعَ العبدُ ربَّه، وأخْلَصَ له التّوحيدَ، والعبادَةَ، وأصْلَحَ نيّتَه للهِ؛ أحَبَّهُ اللهُ، وَوَضعَ له المحبَّةَ في أهلِ السّمَاءِ وَأَهْلِ ألأرضِ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

وبَعْدُ عبادَ اللهِ: مما تُستَجْلبُ بِهِ مَحبَّةُ النّاسِ؛ صِدْقُ التّعامُلِ، وإخلاصُ النُّصحِ، وإرادةُ الخيرِ لهم، وبذْلُ المَعْرُوفِ، وتوقيرُ الكبيرِ، ورَحمَةُ الصّغيرِ، وكَفُّ الأذى، وصِدْقُ الوَعْدِ، ووفاءُ الدَّيْنِ، وسَمَاحَةُ البيْعِ والشِّراءِ، وحُسْنُ الجوارِ، والْتِمَاسُ الْعُذْرِ للمخطئِ والمُقَصِّرِ في حَقٍّ مِنَ الحقوقِ الظّاهِرَةِ، وتَجَنُّبُ العِتَابِ والّلومِ، ومُجانَبَةُ التّوبيخِ بينَ النّاسِ، وخفضُ الصّوتِ عندَ المُنَاقَشَةِ والحوارِ، وعَدَمُ الاستئثارِ بالحديثِ، وغَضُّ البصرِ عن المحارِمِ في البيوتِ والأسواقِ، واحْتِرامُ الخصوصياتِ، وعدَمُ الفُحْشِ في القولِ والفِعْلِ، وعَدَمُ مُخالَفَةِ الفعلِ القولَ،  وغيرُها مِنْ فضائلِ السّلوكِ، وفُنُونِ التّعامُلِ، وآدابِ المُخالَطةِ.

هذا وصلّوا وسلموا على مَنْ أمَرِكم اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليه فقالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"

المشاهدات 1419 | التعليقات 0