البيت النبوي من نافذة خديجة!
د. محمد بن سعود
...................
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، نحمدُه - سبحانه - حمدًا يتردَّدُ أنفاسَ الصدور والمكنون، ويتكرَّرُ عددَ لحظات العيون. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريمُ الوهاب، منَّ علينا بدينٍ حفيٍّ بالنشءِ والشباب، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى الأوَّاب، خيرُ قُدوةٍ للمُتقين الفرائِد، وأمثَلُ أُسوةٍ للسالِكين وقائِد، صلواتُ ربي عليه، وعلى آله وصحبِه الخِيَرة الأماجِد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الجديدان وأضاءَت الفراقِد، أما بعد:-
فإن أهل الحِجَى يأتون ما هو أحرَى بهم وأحجَى، ألا وإن الأجدَى أن يلُوذَ المرءُ بالرُّكن الأقوَى، ولا رُكنَ أقوَى من رُكنِ التقوَى؛ (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].
وَليس على عَبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ *** إِذَا صحَّح التَّقوَى وإِن حَاكَ أَو حَجَمُ
أيها المسلمون:
من استكنَهَ حِقَبَ التأريخ تحقيقًا، وسبَرَ أغوارَه فهمًا وتدقيقًا، وشدَّ إليه الركائِبَ والرِّحال، ونافسَ فيه العلماءَ الأقيال، ألفَى حقيقةً شاخِصة، باسِمةً غيرَ عابِسَة، وهي: أن العظماءَ لا يرتبطون إلا بعظيم، وأشرافُ الرجال لا يتزوجون إلا خيرَ النساء. ولما زكِمت أنوفنا من مراهقي مواقعِ التواصل، الذين أعشوا عيونَنا بيومياتهمُ الهزيلة، حتى صار السفهاءُ قدرةً للبسطاء، فدعوني أجولُ بكم داخلَ أعظمِ بيتٍ في تاريخ البشرية كلّْها، علّنا نستلهم من عبَقه دروسا وعِبرا، بها نقتدي لنهتدي. وذلك من خلال نافذة واحدة من نوافذ هذا البيت المجيد.
عليك الخال إن الخال يسري *** إلى ابن الأخت بالشبه المبينِ
هذه النافذة: هي أكبر نافذة في البيت النبوي، وأجملُه وأحسنُه؛ لاختصاصها بامرأة كاملة، هي خيرُ نساء الأرض في زمانها، كما أثبتَ ذلك لها النبيُّ r.
كانت هذه المرأة تمشي على الأرض وهي تعلم أنها من أهل الجنة؛ فقد أمر الله سبحانه نبيَّه r أن يبشرها بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ. رواه البخاري.
كَانَتْ عَاقِلَةً، جَلِيْلَةً، دَيِّنَةً، مَصُوْنَةً، كَرِيْمَةً،. وَكَانَ النَّبِيُّ -r- يُثْنِي عَلَيْهَا، وَيُفَضِّلُهَا عَلَى سَائِرِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَيُبَالِغُ فِي تَعْظِيْمِهَا، حتى كان جليلُ نسائه يغرن منها. وكَانَتْ تُدْعَى فِي الجَاهِلِيَّةِ، الطَّاهِرَةَ.
ولو كُنَّ النساءُ كمن سمعنا *** لفُضّلت النساءُ على الرجالِ
قَالَ العلامة ابنُ الأَثِيْرِ: هي أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ أَسْلَمَ، بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ. وقال حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «كَانَ عُمُرُ رَسُولِ اللَّهِ r يَوْمَ تَزَوَّجَها خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعُمُرُهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً» وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ عُمُرُهَا ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وقيل: غيرُ ذلك.
عباد الله: لقد كان لخديجةَ بنتِ خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدٍ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبٍ القُرَشِيَّةُ. موقفٌ عظيم لا ينسى، وذلك حين بدأ الوحيُ برسول الله r، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. ثم غطّه ثلاث مرات، حتى بلغ منه الجهد، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ r تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، قَالَ لِخَدِيجَةَ: «أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ rخَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى. الحديث. متفق عليه.
نعم أيها المؤمنون: هكذا المرأة الصالحة، تراها واقفة مع بعلها وقتَ الشدائد والمحن. تعينه وتثبّت جأشه.
لا تنكحنّ سوى كريمة معشر *** فالعرق دسّاسٌ من الطرفين
وهكذا البيت النبوي، وحيٌ وعبادةٌ وتألُّه، والملائكة حافّةٌ به، أما بيوت المعاصي والأغاني فالشياطين بها قد عشعشت؛ فترى أهلَها في فرقة وشتات واختلاف وضيق.
إخوة الإيمان:
ومن كرامتها عليه r أنه لم يتزوج امرأة قبلها، ولم يتزوج عليها ولا تسرّى حتى ماتت. ولقد قال r عنها: (إني قد رُزقت حبَّها). رواه مسلم. حتى كانت عائشة رضي الله عنها تغار منها، فقالت للنبي r يوما: قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهَا خَيْراً مِنْهَا. فقَالَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْراً مِنْهَا، لَقَدْ آمَنَتْ بِي حِيْنَ كَفَرَ النَّاسُ، وَأَشْرَكَتْنِي فِي مَالِهَا حِيْنَ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ وَلَدَهَا، وَحَرَمَنِي وَلَدَ غَيْرِهَا). رواه الإمام أحمد. وأصله في الصحيح.
الود لا يخفى وإن أخفيتَه *** والبغضُ تبديه لك العينانِ
ومن بركاتها رضي الله عنها أنها أُمُّ أَوْلَادِ النبي r كُلِّهِمْ، سِوَى إِبْرَاهِيمَ فهو ابنُ مَارِيَةَ، حيث وَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَالطَّيِّبَ، وَالطَّاهِرَ، وَزَيْنَبَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ.
قال الإمام في البخاري في صحيحه: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ:، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا t، يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ r، يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ».
جبريلُ بشّرها بقصر فاخر *** بالخلد تسكن روضةً خضراءَ
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم،
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائِر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةً لهجَت بها الألسنُ والضمائِر، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، أزكَى الأوائِل والأواخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحابتِه البالِغينَ أسمَى البشائِر، أما بعد:-
فلو أُرسل لأكثر الناس سلامٌ من ملِكٍ معظّم، أو مسؤول مبجّل، لربما غاب النوم عن جفنيه فرحا، فصِفوا لي مشاعر خديجة، حين أَتَى جِبْرِيلُ إلى النَّبِي r، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ خَدِيجَةُ ... فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي. رواه البخاري.
وما أرسل الله سبحانه سلاما لامرأة غير خديجة. فليذهب الناس بالدنيا ومناصبها وزخرفها، ولتهنأ خديجةُ بهذا السبق التأريخي الذي يُسطّر بماء العيون.
أولئك قوم شيّد الله فخرهم *** فما فوقه فخر وإن عظم الفخرُ
إنها المرأة الصالحة خيرُ متاع الدنيا، وأعظم ما تكنـزه، فاظفر بها تربت يداك، إن رأيتَها سرّتك، وإن أمرْتها أطاعتك، وإن غبتَ عنها حفظتْك. وتعينك في أولادم ومالك.
تهون علينا في المعالي نفوسُنا *** ومن خَطب الحسناءَ لم يُغْلِهُ المهرُ
عباد الله: ومن مزايا خديجة رضي الله عنها أنها اختارت رسولَ الله r، لِمَا حباه الله سبحانه من صفات ليست في غيره، وهي تعلم أنه ما كان غنيا r. ورغم أن كلّ شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، ولهذا قالت لمّا خطبها: إني قد رغبت فيك لحسن خلقك، وصدقِ حديثك. وكان ذلك قبل البعثة.
فينبغي لحفيدات خديجة ألا يكون المال ولا الجاه، مقياسا وحيدا لاختيار الزوج.
ماتت خديجة رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاثِ سنين. وحزِن عليها r حتى خُشي عليه. ثم بقِي r وفيّا لزوجته العظيمةِ حتى بعد وفاتها، حيث كَانَ r إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، يَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ». رواه مسلم.
و«لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ يوم بدر، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ rفِي فِدَاءِ زوجها أَبِي الْعَاصِ، وَبَعَثَتْ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا. فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ r رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا، فَافْعَلُوا، قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا».
إنه سيد الوفاء وزجُ خير النساء r.
أمي وأم المؤمنين جميعِهم *** واسأل هنا عن فضلها الأنحاءَ
سنظل نذكرها ونقرأُ سيرةً *** عُظمى تُسابقُ في الذرا العلياءَ
اللهم صل على نبيك، وعلى زوجته خديجة وسائر أمهات المؤمنين، وبقية الصحابة أجمعين.
..
المرفقات
333304
333304