البيت السعيد وتقوى الله في الطلاق
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الذي جعل من أنفس الناس أزواجا، وجعل بينهما مودة ورحمة وإبهاجا، غلظ ميثاقه بكلمة منه وأمانة إدخالا وإخراجا، وشرع ما يوجب ديمومته بمعروف لا إن لزم الفراق فلم يحتمه إحراجا، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن نبينا محمدا، رغب في الزواج، ونهى عن التبل وبين أن ذلك المنهاج، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى صحبه وأتباعهم على الهدي سبيلا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم وأهليكم بفعل المأمور واجتناب المحذور { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
عباد لله.. إنه ميثاق غليظ يوجب أحسن التعامل، وألطف التواصل، إبقاءً للأواصر، وتوطيدا لعلاقة لا كالعلاقات، فيُحْتَمَلُ لأجلها العثرات، وتُغفر الزلات، ويُتغافل عن الهنات، كلُّ ذلك وأنت في عبودية لله، الذي أمرك به مع من جعل تحت يدك تأمر بمعروف وتبني بناءً لا يتم بدونه.
إنه عقد الزوجية، الذي له الإنسان محتاج، لتسْكُنَ نفسه وتطمئن، ويطلب من ربه أن يجعل بينهما مودةً ويرحم، {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، إن الإِلْفَ والأُنسَ والسعدَ والهناء مما لا تُنال بالسواعد، وإنما بفضل الله ورحمته، فكم من غني لم ينل مودة حصلت بين زوجين مُعدَمَين، وكم من ذكي لم تثبت معه زوجة، وكم من قوي لم يَقْوَ دخول هذه الحياة، ثم ما يكون بعدُ من الولد الذي يكتب الله بين الزوجين {من مني يمنى} {من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون}، فكله بفضل الله وإنعامه فاشكروه.
عباد الله.. يا من حباهم الله بهذه النعمة، وحمّلهم هذه الأمانة، تذكروا وصية النبي ﷺ : «إنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، لقد أمر الله بحُسْنِ صحبة النِّساء بالمعروف، {وعاشروهن بالمعروف}، كما نهى سبحانه الأزواج عن التعجّل في مفارقتِهنَّ إنْ كَرِهُوهنَّ؛ فعسى اللهُ أنْ يَجعلَ في إمساكهنَّ مع ذلك خيرًا كثيرًا في الدُّنيا والآخِرة، ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فوعد الله مَن صَبَر على ما يكره ابتغاءَ وجه الله، واحتسابًا لثواب الله، بأن يجعَلَ الله فيه خيرًا كثيرًا، فإنَّه يتحقَّق له هذا الوعدُ، فإنْ تخلَّفَ هذا الوعدُ فلوجودِ مانعٍ، وإلَّا فإنَّ وعْدَ الله حقٌّ.
عباد الله.. إن العلاقة بين الزوجين علاقة روحية كريمة، تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾، وهذه وصايا تُبقي على البيت السعيد بإذن الله الحميد:
الوصية الأولى: الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من المطَّلع على ما تكنُهّ الضمائر، ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
الوصية الثانية: الاجتهاد في الطاعة والعبادة والحرص عليها والتواصي بها بين الزوجين، تأمَّلوا قوله- ﷺ: «رِحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء - يعني: رشَّ عليها الماء رشَّا رفيقًا- ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء».
الوصية الثالثة: المعاشرة بالمعروف، الرجل- وهو رب الأسرة- مطالب بتصبير نفسه أكثر من المرأة، فهي ضعيفة في خَلْقها وخُلُقها، إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء، والمبالغة في تقويمها يقود إلى كسرها وكسرها طلاقُها، يقول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى- ﷺ: «واستوصُوا بالنساء خيرًا فإنهن خُلِقْنَ من ضلع، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا».
الوصية الرابعة: التريث وعدم التعجل، إن تصور حياة كاملة بلا منغصات وهم، فالواجب توطين النفس على ما يعرض من كدر، لكن الواجب عدم الاسترسال مع مشاعر الضيق والكدر، بل لِينْصرف النظر إلى الصفات الجميلة فإنها كثيرة، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً ؛ إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخرَ"، فعلى الزوج أن يتذكَّر جوانب الخير وإنه لواجدٌ من ذلك الكثير، طلبًا لرضا الله الآمر بذلك في كتابه وبما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقينًا بموعود الله، ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ومن ذلك الخير: امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور.
الوصية الخامسة: التَّغاضي، فإن رجع الصفو فلا تستدعي الماضي ولا تدقق في المستقبل، { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
الوصية السادسة: عدم التعالي على الزوجة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو العُلوِّ المطلَقِ بذاته وصِفاتِه سبحانه، فلا تتعالَوْا على نسائِكم؛ فإنَّ علوَّكم هذا يوجَدُ فوقه ما هو أعلى منه، وهو علوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ بذاتِه وصفاتِه، وهو الكبيرُ بذاته وصفاتِه سبحانه.
عباد الله.. وإذا عَظُم الخلاف واشتد، ولم يكن سبيل لإصلاحهما فيما بينهما، {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} فإن قصَد الحَكَمانِ الإصلاحَ بين الزَّوجين، يوفِّقِ اللهُ بين الحكَمينِ، بأن يصادفا الحقَّ، ويوفِّق اللهُ أيضًا بين الزَّوجين، فييسِّر رجوعَهما إلى المعاشَرة الحسَنة، ويجب الحذر من تَدخُّل غيرِ الحكيم من أولياء الزوجين أو أقاربهما.
بارك الله لي ولكم في الوحيين وأقام على هديهما كلَّ زوجين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وسائر المؤمنين فاستغفروه إن ربي رؤوف رحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المؤمنين، كفل حقوق الزوجين، وحث على إصلاح ذات البين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، حصل من زوجاته ما يسلي المُبتَلَين، والقائل: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله" فكونا به مأتسين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله في جميع أموركم وفي خصوص بيوتاتكم، وما أكثر أمر الله بالتقوى في سورة الطلاق، ذلك أن الله أحاط هذا الميثاق، فجعل مفتاحه بكلمة الله وأُخذن الزوجات بأمانة الله، فتطلب الفراق قبل لزومه لطمع أو انحراف، أو إصغاء للمخبِّبِين وانجراف، فإن المرأة متوعَّدة بطلبها الخلع من غير بأس أن الجنة عليها حرام، فإنه ميثاق غليظ، كما نهى الله سبحانه عن قَهْرِ الزوجات والتضييقِ عليهنَّ من أجل أن يفتدينَ أنفُسَهنَّ منهم بمقابِلٍ، إلَّا إذا وقعْنَ في الزنا أو النُّشوز والتعالي على الزوج عمَّا أوجَب اللهُ عليهنَّ من طاعة {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، فلا يحلُّ للزوجِ أن يأخُذَ مِن مهرِ زوجتِه التي يُريد طلاقَها شيئًا، ولو أمْهَرَها مهرًا كثيرًا؛ فإنَّ أخْذَهُ فهو بهتانٌ وظُلْم وإثمٌ ظاهر.
والله سبحانه قد وصف الصالحات انهن { قَانِتَاتٌ} أي: مطيعاتٌ لله تعالى، ولأزواجِهنَّ {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}، فالمرأة العاقلة الرشيدة تَحرِص على أداء حقوق زوجها، فلمَّا سُئل -صلى الله عليه وسلم- عن خيرِ النِّساءِ؟ قالَ: "الَّتي تُطيعُ زوجَها إذا أَمَرَ، وتَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتحفظُهُ في نفسِها ومالِهِ". وَليَحْذَر الزوجان ما يُفسِد العشرةَ بينَهما، وألَّا يكونَا سمّاعَينِ لمن يريد الوقيعةَ بينَهما؛ فإنَّ المخبِّبِينَ جندٌ لإبليس، وما أشد فرحه بمن يفرق من جنوده بين المرء وزوجه.
عباد الله.. إن لم يكن إلا الفراق ورأى الزوجان الخير والصلاح في ذلك واحتكما لمن به يثقان، فإن الله يغني كلا من سعته، وذلك كما قال الله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}، فيطلق طلاق السنة، طلقة واحدة في طهر لم يأتها فيه، فتجد في هذا التريث فإن الرفق يزن الأمور ويزينها، ويسرح فكر الزوج ويحسب العواقب ونطفئ غضبه وتحسن حال زوجه، بل لو طلقها فلا يجوز له أن يخرجها من بيتها وبيته ولا أن تخرج هي، بل هي في العدة زوجة، وبقاؤها مع ما يقتضيه وصف الزوجية مما يكون أدعى للرَّجعة، دعك ممن يطلق كيف كان ولو غضبان وبلا حسبان، عدا ما يكون من اتِّخَاذ آيات الله هزوًا من التهديد بالطلاق، أو التلفظ به في مخاطبات الرجل في الأمر والنهي والحث والمنع، يأثم بفعله ويهدم بيته ويخسر أهله.
المرفقات
1668740551_البيت السعيد وتقوى الله في الطلاق.docx