البيت الحرام والعمل في الأيام العشر
صالح العويد
1436/11/27 - 2015/09/11 06:50AM
الحمد لله الذي أمر خليله ببناء البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مبرأةً من الشركِ والشك والجهل وتطرق الأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، هداة الأنام وسلم تسليماً كثيراً.
فاتقوا الله – عباد الله - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
قف بالأباطح تسري فـي مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفًا
من كـل فـج أتـت لله طـائعة *** أفـواجها ترتجي عفو الكريم عفا
إخوة الإيمان والعقيدة ... في هذه الأيام تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق
في كل عام نرى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبون نداء الله بالحج إلى بيته الأمين، أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية، تريد رضا ربها، ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبون بقلوبهم، ويتطلعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
تعالوا بنا إلى حدث من أعظم الأحداث للمسلمين، ونحن نتأمل تلك الوفود الزائرة المحرمة، نتذكر عند مرأى الحجيج قدوم ذلك الركب الصغير الذي يقطع صحراء لا نهاية لها، موكب من شيخ كبير وامرأته التي وضعت ولدها توًا، وهي تحمل رضيعها بين يديها، ما معهم إلا شنة فيها ماء، وتجعل الأم تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، تُرى أي أمر حدا بهذا الركب إلى قطع هذه الصحاري والقفار، ويخلف وراءه أرض الماء والأكل والكلأ؟!أما الركب فإنه ركب الشيخ الأُمّة القانت أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، ومعه هاجر تحمل ابنها إسماعيل -عليه السلام-، وما حدا بهم إلى قطع هذه المسافات إلا أمر الله -جل وعلا- لإبراهيم بالتوجه إلى تلك البقعة وسط الجبال في جزيرة العرب، إنها مكة، أم القرى، البلد الأمين.
سار إبراهيم -عليه السلام- وزوجه وابنه حتى بلغوا مكة، فوضعهما تحت دوحة فوق زمزم، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، وضعها هناك طائعًا أمر ربه، ويضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء وقَفَل راجعًا إلى الشام، مضحيا لله -عز وجل- بزوجته وابنه الذي جاءه بعد كبر، وتتجه هاجر إليه تناديه ولا يلتفت إليها، حتى إذا بلغوا كداء نادته من ورائه فقالت: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، خشي أن ينظر إليها فيقرأ الحزن في قسمات وجهها فيرق لها أو لغلامها الذي يتركه، فقالت له بعد أن رأت منه ذلك: آلله أمرك بهذا؟! قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا.
هذا ما قالته السيدة هاجر الزوجة المؤمنة لزوجها إبراهيم عليه السلام .. كلمات نستشف منها متانة العقيدة التي تكنها تلك المرأة العظيمة، نرى فيها جميل رسوخ الإيمان في قلبها، تأبى أن تتعلق ببشر ولا تتعلق إلا برب البشر - نرى كيف كان ظنها بربها - أنها في وسط جبال لا زرع فيها ولا ماء، صحراء قاحلة يتركها ابراهيم عليه السلام ورضيعها فيها. ثم ينطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية دعا بدعوة المضطر ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) ورجعت أم إسماعيل تشرب مما معها من ماء، وترضع وليدها، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وتنظر إليه يتلوى من الجوع والعطش، فانطلقت هائمة على وجهها كراهية أن تنظر إليه، فذهبت تصعد الصفا هل تحس من أحد؟! فلم تر شيئًا، فنزلت حتى بلغت الوادي، ورفعت طرف درعها، وسعت وأتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل الصبي، فذهبت فإذا هو على حاله كأنه يصارع الموت، فلم تقرها نفسها، فذهبت إلى أعلى الصفا فلم تر أحدًا - لكن الله سبحانه الرحيم بعباده يراها - فإذا بصوت فأرهفت سمعها عله أن يكون المنقذ، فإذا جبريل -عليه السلام- عند موضع زمزم، فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: إِلَى اللَّـهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ- فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ -، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» فشربت أم إسماعيل وأرضعت وليدها، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، - وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَخَافِي عَلَى أَهْلِ هَذَا الْوَادِي ظَمَأً فَإِنَّهَا عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا ضِيفَانُ اللَّـهِ، فَقَالَتْ: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ – قال: فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّـهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ وجاء إبراهيم – بعد مدة من الزمن - بعد أن سكنت مكة وماتت هاجر وشب إسماعيل وتزوج فقال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال: وتعينني؟! قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا هنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة.
لقد أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنًا، وليكون قبلة للمؤمنين الموحدين ومنارة لنداء التوحيد فكان إبراهيم يبني ويرفع القواعد من البيت ومعه ولده إسماعيل وهما يدعوان الله تعالى ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) وهذا الدعاء منهما عليهما السلام وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله تعالى، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وأراد الله تعالى أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام موضعاً للمناسك، ومكاناً للطواف، وأمر سبحانه بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد ثم قام ولدهما نبينا صلى الله عليه وسلم محمد الخليل الثاني بتطهير البيت من الأصنام والأوثان يوم فتح مكة وهو يتلو قول الله تعالى ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس مناسكهم ومشاعرهم ليبقي البيت منارة للتوحيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجعل يقول للناس «خذوا عني مناسككم» ويقول «قفوا على مشاعر أبيكم إبراهيم»
إخوة الإيمان .. بعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن بالناس بالحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ونادى إبراهيم في الناس: يا أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم -عليه السلام- حين نادى بالحج كل مكان، وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات، ويتلى في المحاريب، وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا إلى أن تقوم الساعة على سنن الأنبياء والمرسلين، فإن هذا البيت كان وبقي مثابة للناس وأمنًا، منذ أن طاف به إبراهيم أبو الحنفاء الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض، فدبت الحياة في هذه الأرض القحلة الجرداء، وأجاب الله دعاء نبيه، فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم، وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضًا مباركة ومحط أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
أَيُ لحظةٍ تلكَ اللحظةُ التاريخيةُ المحفورة في عمق الزمن، المسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف وحرمة الزمن وعظمة المكان وتؤسس ركن الحج إلى قيام الساعة، يوم أن قال الله جل وعلا لخليله إبراهيم ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) فإذا المواكب تتدفّق بالحَجيج مِن كلّ فجٍّ عميق، ما أجملَ أصوات التلبيةِ تعُجّ بها الطائراتُ في الأجواء، والمواخِر في عُباب البحار، والمراكِب التي تلتهِمُ الطريقَ وتغُذّ السيرَ آمّين البيت الحرام، كلُّهم مستجيبون، ثمّ في حرَمِ الله يلتقون. إنها قوافِلُ الإيمان، ورِحلةُ الحياة إلى مَهوَى الأفئِدَة، ورمزِ الإسلام، وقِبلة المسلمين.
جهتهم واحدة، وهدَفهم واحِد، ربهم واحد، نبيهم واحد، دينهم واحد، كتابهم واحد، لباسهم واحد، صوتهم بالتلبية واحد لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله الواحد القهار.
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفرالله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الحمد لله الذي بيده الأمر، فضل أيام العشر، وخصها بمزيد الأجر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الخلق والأمرعالم الغيب ووسواس الصدر وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، دائم البشراصطفاه ربنامن سائرالبشر صلى الله وسلم عليه صلاة دائمة إلى يوم الحشر
أمابعد اتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فمن رحمة الله (تبارك وتعالى) أن فاضل بـيـن الأزمـنــة، فـاصـطـفـى واجتبى منها ما شاء بحـكـمـتــه، ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.) فأعظم الأشهرعند الله تعالى الأشهر الحرم ، وأعظمها شهر ذي الحجة ، وأفضل أيام ذي الحجة العشرالأول منها حيث قال سبحانه: ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فإن المراد بها عشر ذي الحجة. أقسم الله بها تعظيماً لشأنها وتنبيها على فضلها, وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام, _ يعني أيام العشر _ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ). فدلَّ هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحبّ إلى الله من العمل أيام الدنيا من غير استثناء, وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله, إلا جهاداً واحداً, وهو من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء. وإنك لتعجب من كثيرمن الناس حتى أهل الصلاح منهم كيف يحرصون ويجتهدون في العشرالأواخرمن رمضان ويفرطون في أفضل أيام العام أفضل أيام الدنيا فترى التباين الكبير بين كـــون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمــر عنده ولم يقعد،فحريٌّ بالمسلم أن يستغل هذه الأيام بما يليق بها, وذلك بأن يستقبل هذه العشر بالتوبة النصوح, والإقلاع عن الذنوب والمعاصي, ثم بالإقبال على فعل ما أوجب الله تعالى عليه من الفرائض ؛ إذ لا أحب إلى الله منها وذلك في كل وقت، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ . وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))
ومن أعظم الفرائض الصلاة فالصلاة خيرموضوع وإن الناظرفي حالنا اليوم وحال المساجدوبالأخص صلاة الفجرليعلم تفريط وتهاون كثيرمن الناس في هذه الصلاة فاتقواالله عبادالله واستقيموا ولن تحصواواعلمواأن خيرأعمالكم الصلاة ولايحافظ على الوضوءإلامؤمن ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود)
ومن الفرائض الزكاة قرينة الصلاة فأدوهاطيبة بهانفوسكم فالمال مال الله فأنفقواوتصدقوا
ومن الفرائض الحج قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) وقال الحج المبرورليس له جزاءإلاالجنة فمن استطاع الحج فليعجل به فإن أحدكم لايدري مايعرض له وكذلك الصيام لهذه الأيام فقدذكرابن كثيررحمه الله استحباب العلماءصيامهاخاصة يوم عرفة لغير الحاج يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ).
ثم بإشغال وقته فيما يقربه إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة المتنوعة والتي يُتأكد منها ما يلي:التكبير والتهليل والتحميد قال ابن رجب :" و أما استحباب الإكثار من الذكر فيها – في أيام العشر - فقد دلَّ عليه قول الله عز و جل:}وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ{ ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء "ومنه التكبير والتهليل والتحميد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ))
ومن الأعمال التي تتأكد في هذه العشر:
الأضحية, وهي سنة مؤكدة, وقال بعض أهل العلم: بوجوبها على الموسر. وأما غير الموسر ومن لم يجد سعة في ماله فلا ينبغي أن يشق على نفسه. فإذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته.ومن نوى في أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته, ولا إثم عليه فيما أخذ قبل ذلك. وهذا الحكم خاص بالمضحي فقط, حتى لو كان لا يتولى الذبح بنفسه فإنه يمسك عن شعره وأظفاره.وإذا أخذ شيئاً من شعره وأظفاره أو بشرته متعمداً فعليه أن يتوب ولا كفارة عليه. فاتقواالله عباد الله وخافوه وراقبوه واعلموا أن من آكد الأمور في هذه العشر البعد الشديد عن طريق المعصية وسبيل السيئة ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عزّ من قائلٍ كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياءِ والمرسلين ورحمةِ الله للعالمين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أعِز الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وديننا بسوءٍ فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يارب العالمين. اللهم آمِنّا في أوطاننا وأصلِحْ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة.. اللهم كن لهم جميعاً موفقاً مسدداً لكل خير وصلاح. اللهم احفظ رجال الأمن، اللهم احفظ رجال الأمن وحراس الثغور وانصرهم على من بغى عليهم ياعزيز ياغفور.اللهم احفظ الحجاج والمعتمرين، ويسِّر نسكهم، وأتم حجهم، وتقبل منا ومنهم يارب العالمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يارب العالمين، اللهم اجمعهم على الحق والهدى والكتاب والسنة، اللهم احْقِنْ دماءَهم وآمنهم في ديارهم، وأرغِد عيشهم وأصلح أحوالهم، واكْبِتْ عدوهم.اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.اللهم انصر المستضعفين من المسلمين ، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي سوريا والعراق وفي اليمن وفي كل مكان اللهم عليك بكل عدو للإسلام والمسلمين.اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسِّرْ أمورنا وبلِّغْنا فيما يرضيك آمالنا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم وأهلنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءمنهم والأموات سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ *وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون0
فاتقوا الله – عباد الله - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
قف بالأباطح تسري فـي مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفًا
من كـل فـج أتـت لله طـائعة *** أفـواجها ترتجي عفو الكريم عفا
إخوة الإيمان والعقيدة ... في هذه الأيام تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق
في كل عام نرى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبون نداء الله بالحج إلى بيته الأمين، أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية، تريد رضا ربها، ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبون بقلوبهم، ويتطلعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
تعالوا بنا إلى حدث من أعظم الأحداث للمسلمين، ونحن نتأمل تلك الوفود الزائرة المحرمة، نتذكر عند مرأى الحجيج قدوم ذلك الركب الصغير الذي يقطع صحراء لا نهاية لها، موكب من شيخ كبير وامرأته التي وضعت ولدها توًا، وهي تحمل رضيعها بين يديها، ما معهم إلا شنة فيها ماء، وتجعل الأم تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، تُرى أي أمر حدا بهذا الركب إلى قطع هذه الصحاري والقفار، ويخلف وراءه أرض الماء والأكل والكلأ؟!أما الركب فإنه ركب الشيخ الأُمّة القانت أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، ومعه هاجر تحمل ابنها إسماعيل -عليه السلام-، وما حدا بهم إلى قطع هذه المسافات إلا أمر الله -جل وعلا- لإبراهيم بالتوجه إلى تلك البقعة وسط الجبال في جزيرة العرب، إنها مكة، أم القرى، البلد الأمين.
سار إبراهيم -عليه السلام- وزوجه وابنه حتى بلغوا مكة، فوضعهما تحت دوحة فوق زمزم، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، وضعها هناك طائعًا أمر ربه، ويضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء وقَفَل راجعًا إلى الشام، مضحيا لله -عز وجل- بزوجته وابنه الذي جاءه بعد كبر، وتتجه هاجر إليه تناديه ولا يلتفت إليها، حتى إذا بلغوا كداء نادته من ورائه فقالت: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، خشي أن ينظر إليها فيقرأ الحزن في قسمات وجهها فيرق لها أو لغلامها الذي يتركه، فقالت له بعد أن رأت منه ذلك: آلله أمرك بهذا؟! قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا.
هذا ما قالته السيدة هاجر الزوجة المؤمنة لزوجها إبراهيم عليه السلام .. كلمات نستشف منها متانة العقيدة التي تكنها تلك المرأة العظيمة، نرى فيها جميل رسوخ الإيمان في قلبها، تأبى أن تتعلق ببشر ولا تتعلق إلا برب البشر - نرى كيف كان ظنها بربها - أنها في وسط جبال لا زرع فيها ولا ماء، صحراء قاحلة يتركها ابراهيم عليه السلام ورضيعها فيها. ثم ينطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية دعا بدعوة المضطر ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) ورجعت أم إسماعيل تشرب مما معها من ماء، وترضع وليدها، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وتنظر إليه يتلوى من الجوع والعطش، فانطلقت هائمة على وجهها كراهية أن تنظر إليه، فذهبت تصعد الصفا هل تحس من أحد؟! فلم تر شيئًا، فنزلت حتى بلغت الوادي، ورفعت طرف درعها، وسعت وأتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل الصبي، فذهبت فإذا هو على حاله كأنه يصارع الموت، فلم تقرها نفسها، فذهبت إلى أعلى الصفا فلم تر أحدًا - لكن الله سبحانه الرحيم بعباده يراها - فإذا بصوت فأرهفت سمعها عله أن يكون المنقذ، فإذا جبريل -عليه السلام- عند موضع زمزم، فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: إِلَى اللَّـهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ- فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ -، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» فشربت أم إسماعيل وأرضعت وليدها، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، - وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَخَافِي عَلَى أَهْلِ هَذَا الْوَادِي ظَمَأً فَإِنَّهَا عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا ضِيفَانُ اللَّـهِ، فَقَالَتْ: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ – قال: فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّـهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ وجاء إبراهيم – بعد مدة من الزمن - بعد أن سكنت مكة وماتت هاجر وشب إسماعيل وتزوج فقال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال: وتعينني؟! قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا هنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة.
لقد أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنًا، وليكون قبلة للمؤمنين الموحدين ومنارة لنداء التوحيد فكان إبراهيم يبني ويرفع القواعد من البيت ومعه ولده إسماعيل وهما يدعوان الله تعالى ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) وهذا الدعاء منهما عليهما السلام وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله تعالى، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وأراد الله تعالى أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام موضعاً للمناسك، ومكاناً للطواف، وأمر سبحانه بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد ثم قام ولدهما نبينا صلى الله عليه وسلم محمد الخليل الثاني بتطهير البيت من الأصنام والأوثان يوم فتح مكة وهو يتلو قول الله تعالى ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس مناسكهم ومشاعرهم ليبقي البيت منارة للتوحيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجعل يقول للناس «خذوا عني مناسككم» ويقول «قفوا على مشاعر أبيكم إبراهيم»
إخوة الإيمان .. بعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن بالناس بالحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ونادى إبراهيم في الناس: يا أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم -عليه السلام- حين نادى بالحج كل مكان، وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات، ويتلى في المحاريب، وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا إلى أن تقوم الساعة على سنن الأنبياء والمرسلين، فإن هذا البيت كان وبقي مثابة للناس وأمنًا، منذ أن طاف به إبراهيم أبو الحنفاء الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض، فدبت الحياة في هذه الأرض القحلة الجرداء، وأجاب الله دعاء نبيه، فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم، وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضًا مباركة ومحط أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
أَيُ لحظةٍ تلكَ اللحظةُ التاريخيةُ المحفورة في عمق الزمن، المسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف وحرمة الزمن وعظمة المكان وتؤسس ركن الحج إلى قيام الساعة، يوم أن قال الله جل وعلا لخليله إبراهيم ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) فإذا المواكب تتدفّق بالحَجيج مِن كلّ فجٍّ عميق، ما أجملَ أصوات التلبيةِ تعُجّ بها الطائراتُ في الأجواء، والمواخِر في عُباب البحار، والمراكِب التي تلتهِمُ الطريقَ وتغُذّ السيرَ آمّين البيت الحرام، كلُّهم مستجيبون، ثمّ في حرَمِ الله يلتقون. إنها قوافِلُ الإيمان، ورِحلةُ الحياة إلى مَهوَى الأفئِدَة، ورمزِ الإسلام، وقِبلة المسلمين.
جهتهم واحدة، وهدَفهم واحِد، ربهم واحد، نبيهم واحد، دينهم واحد، كتابهم واحد، لباسهم واحد، صوتهم بالتلبية واحد لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله الواحد القهار.
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفرالله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الحمد لله الذي بيده الأمر، فضل أيام العشر، وخصها بمزيد الأجر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الخلق والأمرعالم الغيب ووسواس الصدر وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، دائم البشراصطفاه ربنامن سائرالبشر صلى الله وسلم عليه صلاة دائمة إلى يوم الحشر
أمابعد اتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فمن رحمة الله (تبارك وتعالى) أن فاضل بـيـن الأزمـنــة، فـاصـطـفـى واجتبى منها ما شاء بحـكـمـتــه، ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.) فأعظم الأشهرعند الله تعالى الأشهر الحرم ، وأعظمها شهر ذي الحجة ، وأفضل أيام ذي الحجة العشرالأول منها حيث قال سبحانه: ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فإن المراد بها عشر ذي الحجة. أقسم الله بها تعظيماً لشأنها وتنبيها على فضلها, وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام, _ يعني أيام العشر _ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ). فدلَّ هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحبّ إلى الله من العمل أيام الدنيا من غير استثناء, وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله, إلا جهاداً واحداً, وهو من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء. وإنك لتعجب من كثيرمن الناس حتى أهل الصلاح منهم كيف يحرصون ويجتهدون في العشرالأواخرمن رمضان ويفرطون في أفضل أيام العام أفضل أيام الدنيا فترى التباين الكبير بين كـــون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمــر عنده ولم يقعد،فحريٌّ بالمسلم أن يستغل هذه الأيام بما يليق بها, وذلك بأن يستقبل هذه العشر بالتوبة النصوح, والإقلاع عن الذنوب والمعاصي, ثم بالإقبال على فعل ما أوجب الله تعالى عليه من الفرائض ؛ إذ لا أحب إلى الله منها وذلك في كل وقت، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ . وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))
ومن أعظم الفرائض الصلاة فالصلاة خيرموضوع وإن الناظرفي حالنا اليوم وحال المساجدوبالأخص صلاة الفجرليعلم تفريط وتهاون كثيرمن الناس في هذه الصلاة فاتقواالله عبادالله واستقيموا ولن تحصواواعلمواأن خيرأعمالكم الصلاة ولايحافظ على الوضوءإلامؤمن ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود)
ومن الفرائض الزكاة قرينة الصلاة فأدوهاطيبة بهانفوسكم فالمال مال الله فأنفقواوتصدقوا
ومن الفرائض الحج قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) وقال الحج المبرورليس له جزاءإلاالجنة فمن استطاع الحج فليعجل به فإن أحدكم لايدري مايعرض له وكذلك الصيام لهذه الأيام فقدذكرابن كثيررحمه الله استحباب العلماءصيامهاخاصة يوم عرفة لغير الحاج يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ).
ثم بإشغال وقته فيما يقربه إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة المتنوعة والتي يُتأكد منها ما يلي:التكبير والتهليل والتحميد قال ابن رجب :" و أما استحباب الإكثار من الذكر فيها – في أيام العشر - فقد دلَّ عليه قول الله عز و جل:}وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ{ ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء "ومنه التكبير والتهليل والتحميد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ))
ومن الأعمال التي تتأكد في هذه العشر:
الأضحية, وهي سنة مؤكدة, وقال بعض أهل العلم: بوجوبها على الموسر. وأما غير الموسر ومن لم يجد سعة في ماله فلا ينبغي أن يشق على نفسه. فإذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته.ومن نوى في أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته, ولا إثم عليه فيما أخذ قبل ذلك. وهذا الحكم خاص بالمضحي فقط, حتى لو كان لا يتولى الذبح بنفسه فإنه يمسك عن شعره وأظفاره.وإذا أخذ شيئاً من شعره وأظفاره أو بشرته متعمداً فعليه أن يتوب ولا كفارة عليه. فاتقواالله عباد الله وخافوه وراقبوه واعلموا أن من آكد الأمور في هذه العشر البعد الشديد عن طريق المعصية وسبيل السيئة ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عزّ من قائلٍ كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياءِ والمرسلين ورحمةِ الله للعالمين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أعِز الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وديننا بسوءٍ فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يارب العالمين. اللهم آمِنّا في أوطاننا وأصلِحْ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة.. اللهم كن لهم جميعاً موفقاً مسدداً لكل خير وصلاح. اللهم احفظ رجال الأمن، اللهم احفظ رجال الأمن وحراس الثغور وانصرهم على من بغى عليهم ياعزيز ياغفور.اللهم احفظ الحجاج والمعتمرين، ويسِّر نسكهم، وأتم حجهم، وتقبل منا ومنهم يارب العالمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يارب العالمين، اللهم اجمعهم على الحق والهدى والكتاب والسنة، اللهم احْقِنْ دماءَهم وآمنهم في ديارهم، وأرغِد عيشهم وأصلح أحوالهم، واكْبِتْ عدوهم.اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.اللهم انصر المستضعفين من المسلمين ، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي سوريا والعراق وفي اليمن وفي كل مكان اللهم عليك بكل عدو للإسلام والمسلمين.اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسِّرْ أمورنا وبلِّغْنا فيما يرضيك آمالنا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم وأهلنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءمنهم والأموات سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ *وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون0