البيان المبين في مولد سيد المرسلين

عبد الله بن علي الطريف
1444/03/03 - 2022/09/29 19:56PM

البيان المبين في مولد سيد المرسلين. ﷺ 1444/3/4هـ

الحمد لله الذي منَّ (..عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً..

أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أنَّ أعظم مِنَّةٍ وأكبرَ نعمةٍ مَنَّ اللهُ بها على عبادِه أنْ بعثَ فيهم الرسلَ مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب ليحكموا بين الناس بالعدل فيما اختلفوا فيه..

وكان من أعظمِهم قدراً وأبلغِهم أثراً، وأعمِهم رسالة، محمد بن عبد الله ﷺ، بعثه الله تعالى لهداية الخلقِ أجمعين، وختم به النبيين.. بعثه الله على حين فترة من الرسل فهدى اللهُ تعالى به بعد ضلالِ، وألَّف به بعد فرقة، وأغنى به بعد عيلة؛ فأصبح الناس بنعمة الله إخواناً فلله الحمد ربِ العالمين..

وقد ولد ﷺ بمكة عام الفيل في شهر ربيع الأول ولا خلاف بأن ولادته كانت يوم الاثنين؛ فقد سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ». رواه مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد حكت كتب السيرة اختلاف المؤرخين في يوم مولده، فقيل: هو اليوم 2 أو 8 أو 10 أو 12 أو 17 أو 22 وليس لأحد هذه الآراء ما يرجحه على الآراء الأخرى، والحساب الفلكي يؤكد أن يوم الاثنين في شهر مولده عام الفيل يوافق 2 أو 9 أو 16 أو 23 وقد ولد قطعاً يوم اثنين، فلا يمكن أن يكون ولد يوم 12.

وقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، ثم ماتت أمه وعمره ست سنين، ثم كفله جده، ثم مات وهو ابن ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب.. وشب ﷺ على الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة.

وبعثه الله بالرسالة على رأس الأربعين من عمره، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وهَدَى اللهُ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الجَهالَةِ، وأرشَدَ بِهِ مِنَ الغَيِّ. وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُناً عُمْياً، وَآذاناً صُمّاً، وَقُلُوباً غُلْفاً. فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ وَأَدَّى الأَمانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ حتى أتاه اليقين.. وسارَت دَعوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمسِ فِي الأَقطارِ، وَبَلَغَ دِينَهُ ما بَلَغَ الليلُ وَالنَّهارُ. وأعاد للحنيفةِ السمحةِ ملة أبينا إبراهيم صفاءها وضياءها..

 أيها الإخوة: إن واجبنا نحو نعمة الهداية العظمى أن نشكر الله تعالى عليها بالتمسك بها ونعضَ عليها بالنواجذ، ونحافظَ عليها بيضاء نقية كما تركها لنا صلوات ربي وسلامه عليه.. والواجب علينا اتباع هديه بفعل أمره واجتناب ما نهى عنه، وأن نحبه أكثر مما نحب أنفسَنا، وأولادَنا، وآباءَنا، وأمهاتِنا.. وقد أقسم ﷺ على وجوب ذلك فَقَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفي حديث آخر «..مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رواه البخاري ومسلم عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. قال ابن بطال والقاضي عياض رحمهما الله: المحبة ثلاثة أقسام محبةُ إجلالٍ وإعظام كمحبةِ الوالد، ومحبةُ شفقةٍ ورحمة كمحبةِ الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبةِ سائر الناس فجمع رسول الله ﷺ أصناف المحبة في محبته..

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآنَ يَا عُمَرُ» رواه البخاري..

أيها الإخوة: محبة الرسول ﷺ تقتضي طاعتَه وإتباعَه وتركَ ما نهى عنه، وكلُ عملٍ من أعمالِ العبادةِ يجبُ أن يكونَ موافقاً لما شرعَه، وما لم يشرعه فهو بدعةٌ مردودةٌ فعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه مسلم. (أمرنا) شرعنا الذي نحن عليه. (رد) مردود لا يقبل منه. وعَنْ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. وكان منها «..وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رواه أحمد وهو صحيح.. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: والأمور المحدثة يعني بها ﷺ المحدثات في دين الله، وذلك لأن الأصل فيما يدين به الإنسان ربه ويتقرب به إليه الأصل فيه المنع والتحريم حتى يقوم دليل على أنه مشروع..

أيها الإخوة: إن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة المولد النبوي. فيجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد والبيوت فيصلون على النبي ﷺ بصلوات مبتدعة ويقرأون مدائح له ﷺ تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه ﷺ وربما صنعوا مع ذلك طعاماً يسهرون عليه.! فأضاعوا المال والزمان..

وقد ادعى جهلاً من يعمل هذه الموالد أنها من محبة رسول الله ﷺ ومن لم يُقم هذه الموالد يعدونه غير محب لله ولا لرسوله ﷺ.!

أيها الإخوة: إن الاحتفال بذكرى مولده ﷺ على هذه الصورة لا يدل على محبته.. وهذه الموالد مبتدعة ومشتملة على منكرات وشركيات واعتقادات واهية تتعارض مع محبته ﷺ التي سبق بيانها..

ويدل على بطلانها أمور: أن الاحتفال بمولد الرسول ﷺ ليس له أساس من الشرع؛ فلم يفعله الرسول ﷺ ولم يكن من سنته، ولم يفعله أصحابه من بعده رضوان الله عليهم، وهم أسبق الناس إلى الخير، ولم يُفْعل بالقرون المفضلةِ.. ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان خيراً ما حَرَمَهُ اللهُ تعالى سلفَ هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة، ثم يأتي أناسٌ من القرنِ الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة.. يقول الإمام مَالِكٌ رحمة الله: "وَمِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَانَ الدِّينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة:3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا".

والاحتفال بمولده ﷺ على الصفة السائدة الآن مضاهاةٌ للنصارى في احتفالهم بذكرى ميلاد عيسى عليه السلام.. ثم ما يجري في هذه الموالد من المنكرات التي أعظمها الشرك الأكبر وذلك بدعاء الرسول ﷺ وطلب الحاجات، وتفريج الكربات منه، وإنشاد الأشعار الشركية في مدحه، وغيرها من مخالفات..

أيها الإخوة: لسائل أن يسأل متى أُحدث الاحتفال بمولد الرسول ﷺ.؟ أقول: الاحتفال بالمولد مِنْ سُنَّةِ أهلِ الزيغِ والضلال؛ وأولُ من أحدثه أولُ حاكمٍ للدولةِ العُبيدية الخبيثة التي تَسَمَّتْ زوراً وبهتاناً بالفاطمية نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها، وهم في الحقيقة من اليهود، وقيل من المجوس، وقيل من الملاحدة، وذلك في القرن الرابع الهجري، وهو الـمُسمِي نفسَه المعز لدين الله العبيدي، وقد دخل مصر سنة 362 من الهجرة.

فهل لعاقل مسلم أن يقلد الباطنية المبتدعة، ويتّبعَ سُنتهم ويخالف هدي نبيه محمد ﷺ.؟ أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين ويجمعهم على الحق والدين...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: إن الاحتفال بمولد رسول الله ﷺ الذي يقام ليلةُ الثاني عشر من شهر ربيع الأول كما أنه لا أساس له من الشرع لا أساس له من التاريخ وقد تقدم اختلاف أصحاب السير في ذلك إلى أقوال كثيرة ليس لبعضها ما يدل على رجحانه على الآخر. فيبقى تعيين تاريخِ يومِ مولده مجهولاً..

قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: وقد حققه بعض المعاصرين بالتاسع.. ويقول الفاكهاني: وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تُعِجب من العجب فالشهر الذي ولد فيه رسول الله ﷺ هو بعينه الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن.

أيها الإخوة: لم نتناول هذه المسألة بالتنبيه على إنكارها وبطلانها لوجودها بيننا ولله الحمد، وإنما لأنها توجد في كثير من البلاد الإسلامية وتنقلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي فيشاهدها ويعلم بها القاصي والداني وربما تأثروا ببعض الأباطيل والأكاذيب التي يقصها القُصاص فيها مثل قولهم في حمله وميلاده: بأن أمه لم تر أخف ولا أيسر من حمله، وأنها كانت تلبس التعاويذ من حديد لحفظه فيتقطع، ووقع حين ولادته وقوعاً ما يقعه مولود فقد وقع معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء، وأنه ولد مختوناً أو ختنه جبريل، وأن بعض الأصنام انتكس بمكة لما ولد، وأن إيوان كسرى ارتج وسقط منه أربعة عشر شُرفة، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس التي حول بحيرة ساوة، ورأى الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة وتنتشر في بلاد فارس.. قال أهل العلم: الحقيقة أن كل هذه الأخبار إما روايات واهية أو موضوعة أو ضعيفة جداً..!!

وبعد أحبتي: ولادة الرسول الله ﷺ ولادة معتادة لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يلفت النظر، وتحديد تاريخها من الشهر لم يتفق عليه.. وما يقيمه بعض المسلمين من موالد لا أصل له بالشرع، ولم يعمله سلف الأمة؛ فتحرم إقامته وحضوره وبذل المال له..

ونسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ويبصرهم...

المشاهدات 3311 | التعليقات 0