البشائر في فضل اليوم التاسع والعاشر
خالد علي أبا الخيل
1436/12/08 - 2015/09/21 12:13PM
البشائر في فضل اليوم التاسع والعاشر
التاريخ: الجمعة: 4/ 12 /1436 هـ
الحمد لله على مواسم الخيرات، وإدراك أيام المنافسات، فتسابقَ فيها أهل الهمم العاليات، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرض والسموات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البريات، وخص يوم النحر وعرفات بمزايا وخصائص واضحات.
أما بعد،.
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واستعدوا بالعمل الصالح يوم لقاه، فالسعيد من بادر أوقاته، ولاحظ ساعته وأنفاسه.
إخوة العقيدة: نحن في أيام فاضلة، وليال جميلة حافلة، عشر ذي الحجة، فهنيئاً لمن ساهم وبادر وقته.
أيها الإخوة المسلمون: أيام الحج خمسة، وهي مشتركة لمن أقام واعتمر البيت وحجه، وهي يوم التروية، والنحر، وعرفة، وأيام التشريق والأُضحية، والحديث في هذه اللحظات عن يومين عظيمين، شريفين جليلين، وهما للمقيم والمسافر مُشتركين، هما يومان كبيران جليلان: يوم عرفة، ويوم النحر، يوم عرفة (الحج عرفة)، ويوم النحر يوم الحج الأكبر.
في هذه الأيام تستعد الأُمة في أيامها، وتبتهج في رحلاتها، وتسموا في تنقلاتها وتقلباتها، فالحجاج والعُمار بين المشاعر والطواف والسعي بالمسجد الحرام، وبين عرفة والنحر ومُزدلفة والمشعر الحرام، والمقيمون بين الصيام والقيام، والأضاحي والزيارة والسلام.
أما يوم عرفة فهو لا كالأيام، فليس في الإسلام مجمع مثله، أو يُقاس به، أو يُشابهه، اجتمعت فيه سبع أحاديات، وكم لهذا العدد من المُناسبات، الناس فيه على صفة واحدة، وزي واحد، وزمان واحد، ومكان واحد، معبودهم واحد، متبوعهم واحد، في وقت واحد، يوم يستوي فيه الصغير والكبير، والمسكين والفقير، والمأمور والأمير، يوم يستوي فيه العزيز والذليل، والرفيع الوضيع، والعربي والعجمي، تساوى فيه الجميع.
يوم عرفة يوم مشترك بين الحُجاج والعُمار، وبين أهل الأمصار، فكل له نصيب وحظ واعتبار، يوم مشترك بين الحُجاج والعُمار، وأهل الموسم والأمصار، تقال فيه العثرات، وتُستجاب فيه الدعوات، وتغفر فيه الزلات، وتُمحى فيه السيئات، وتُزال فيه الكُربات، يوم الرحمات والدمعات، يوم المغفرة والعبرات، يوم الحنين والأنين، والخشوع والخضوع، فالنفوس له تواقة، والأفئدة إليه حنانة، يوم هدم الوثنية الباطلة، والجاهلية الساحقة، يوم رفض الأديان الضالة، وطرح العُنصرية المُتأججة، فإليكم -إخوة الإيمان- شيء من خصائصه باختصار، ونوادره باعتبار، فأرعوني القلوب والأسماع واستمعوا ما يُلقى ويُذاع:
فمنها: أن الله أكمل به الملة. وأتم به النعم، ورضيه لهذه الأُمة، فيه تسموا الأُمة إلى العُلى، وترنم بأن كلمة الله هي العُليا، وتُرفرف بالفرح والبهاء، والسرور والابتهاج والنقاء، دين كمُلت معالمه، وتمت مبادئه، وتأصلت قوائمه، فلا زيادة ولا نقص، ولا تكميل ولا عمل إلا بنص، دين صالح للبشرية أجمع، ولكل زمان ومكان رايته تُرفع، دين سمحة شرائعه، فسيحة أرجاؤه، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33، الصف: 9)، ولو كره الكافرون، دين اختاره الله على سائر الأديان، وجعله دعوة رُسله وأنبيائه في كل زمان، وختمهم بولد عدنان.
ففي مثل هذا اليوم -إخوتي الكرام- من السنة العاشرة للهجرة، آخر حجة للرحمة المُهداة، حجة الوادع، تحاشد الناس مع نبيهم وحبيبهم من جميع الأصقاع، رجالاً وركبانًا، ذكروًا ونساءً، صغاراً وكبارًا، يقول جابر في سياقة حجته: ثم أذن في الناس بالعاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، فنظرت إلى مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله بين أظهرنا، عددهم هائل مائة ألف أو يزيدون. موقف ما أروعه، وجمع ما أعظمه، اختاره الله ليُعلن للناس قاطبة، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، صغيرهم وكبيرهم، حاضرهم وغائبهم، من كان حياً ومن هو مُضمر في الغيب في أصلاب الرجال، لتُعلن تلك الآية دويها، وتضج في أنحاء المعمورة صوتها، وتخفق لها رايتها، آية قصمت ظهور المُبدلين، وكسرة جناح المُضيفين، آية نزلت على الرسول المصطفى، وفي الذكر الحكيم تُتلى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، أتدرون متى نزلت؟ وعلى من نزلت؟ وفي أي يوم نزلت؟ وفي أي مكان نزلت؟ نزلت في يوم عرفة، على أفضل الأُمة، في يوم جمعة، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. فقال: أي آية؟. قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3). فقال عمر -رضي الله عنه-: إني لأعلم حيث نزلت، وأين نزلت، وأين رسول الله حيث أُنزلت، نزلت على رسول الله وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وفي نزولها -إخوة العقيدة والإيمان- في هذا اليوم سر عظيم، لما كان هذا اليوم أكبر مجامع أهل الإسلام، وليس فيه مثله من الأيام، واجتمع فيه عدد هائل من الأنام، وآخر حجة لرسول الأُمة عليه الصلاة والسلام، بل وآخر عام من عُمره من الأيام، ختم الله به المنة، وأكمل به المنة، وأتم به النعمة، ورضيه للأُمة.
والإعلان عن إكمال الدين، وبُلوغ الغاية التي ليس بعدها غاية، هو يوم في تأريخ البشرية، يوم مُفرد لا نظير له، ولا مثيل له، فمن حكمة الله العالية أن شرع للأُمة الإسلامية التلاقي في مثل ذلكم اليوم، كل سنة، في نفس المكان والزمان، بل بدونه فالحج فاسد لا يُقبل، وفي نفس ذلك الوقت الذي وقع فيه الإعلان بالختام وإتمام الإسلام تجديداً للذكرى، وإحياءً لعهد الوفا، بالاستمرار على المنهج الصحيح، والطريق الواضح الصريح، وتعرضاً لأكثر يوم يُعتق الله فيه من النار عبيداً طالماً عصوا العزيز الغفار، وأكثروا من الأوزار، إن مُقتضيات هذا التكريم، وشُكر هذا الرب الكريم، أن يتمسك المسلمون بثوابتهم الأصيلة، وشريعتهم الغراء، ويعلموا ويتعلموا دينهم وأسهم، ويحمدوا الله على إنعامه، ويشكروا الله على كرمه ونواله.
ولما كان هذا اليوم بهذه المثابة خصه رسول الملحمة والرحمة بمميزات وخصائص، فاسمعوا -وفقني الله وإياكم للعمل الخالص-:
منها: أنه ما من يوم على وجه الأرض أكثر من أن يُعتق الله من النار ويُنجي يوم العرض. فقد خرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي به ملائكته، فيقول: ما أراد هؤلاء؟).
ومنها: أنه يوم عيد لأهل الإسلام. كما جاء عن سيد الأنام.
ومنها: أنه يُسن صومه. وقد جاء الخبر في عظيم ثوابه وأجره، عن أبي قتادة عند مسلم: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم عرفة؟ فقال: (يُكفر السنة الماضية والباقية)، وفي رواية: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يُكفر السنة التي قبله والتي بعده)، فاحرصوا على صومه، وحث الأهل عليه، وترغيب الكبار والصغار فيه، فيا له من فضل عظيم، وأجر عميم، كيف يُفرط فيه المسلم المستطيع؟، فهو فرصة سانحة، وغنيمة باردة، والكل محتاج إلى مغفرة الذنوب السالفة والقادمة، وكان السلف يحرصون علي صومه، فقد روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن عائشة أنها قالت: ما من يوم من السنة أصومه أحب إليّ من يوم عرفة.
ومما ينبغي أن يُعلم: أن صومه لأهل الأمصار، أما الحُجاج والعُمار فالمُستحب فطره.
ومن وظائفه وأعماله: أنه بداية تأكيد التكبير ومُلازمته. والتكبير كما هو معلوم من دخول عشر ذي الحجة، إلى آخر أيام التشريق، إلا أنه يتأكد ويتقيد من فجر يوم عرفة لغير حاج، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا: الصحيح من أقوال أهل العلم: أن التكبير يبدأ من فجر يوم عرفة لأهل الأمصار، إلى آخر أيام التشريق، وجاء هذا عن جمع من الصحابة، وجمهور سلف الأُمة.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله، عدد ما هل حاج وكبر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وضحى، وأهدى وكبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أزكى البشر.
أما بعد،.
عباد الله: أما اليوم الثاني وهو ليوم عرفة التالي، يوم النحر، يوم الحج الأكبر، ثاني العيدين، فليس للمسلمين غيرهما، يوم اجتمع فيه فضل الزمان والمكان لأهل الموسم، إكمال حجهم، وتمام نُسكهم، وذبح قرابينهم، ورمي الجَمار، والطواف بالبيت الحرام، والحلق أو التقصير.
ولأهل الأمصار أعياد سعيدة، وأوقات حميدة، صلاة وقربة، وذبح وعبادة، يذبحون ويتقربون بذبح الأضاحي، ويحمدونه ويشكرون ربهم في جميع النواحي، يوم الفرح والسرور، والابتهاج والحبور، فالمسلمون في شتى البقاع، وفي كل الأصقاع، أهل الأمصار والحجاج والعُمار، في الفيافي والقِفار، كلهم يأنسون، وبهذا العيد يفرحون ويزدهرون ويستبشرون، في صفاء للقلوب، وتأليف للنفوس، وإزالة للشحناء والبغضاء، والكِبر والاستعلاء، عيد يعود بالطهر والنقاء، والازدهار والبهاء، تصفح عما بدا وكان، وعفو عن الخطأ والنسيان، تواصل وتلاحم، وترابط وتراحم، صدقة وإحسان، إطعام وصلة أرحام، تزاور وبذل سلام، رحمة للمساكين والأيتام، والنظر بعطف وحنان لذوي الأمراض والأسقام، تهاني وبشاشة، طلاقة وجه وابتسامة، إظهار للنعمة، إشعار بالمنة، جمال وبهاء، ومنظر لألاء.
لهذا اليوم آداب وسنن وظائف، فاسمعوا تلك الكلمات المُختصرات والألفاظ الوجيزات:
أولها -عباد الله-: الخروج لصلاة العيد. وإظهار هذه الشعيرة، وإبداء لعلم من أعلامه الظاهرة، خروج يشمل الذكور والنساء، والصغار والكبار، والمرأة تخرج في حشمة وعفة، غير مُتطيبة ولا مُتعطرة، لا تلبس ثوب شهرة وزينة، ولا مشقوقة مفتوحة، ولا ضيقة لامعة، لا تختلط بالرجال، ولا تُزاحمهم عند الأبواب والطرقات.
ولهذا الخروج سُنن وآداب، فانتبهوا لها -يا أولى الألباب-:
لُبس أحسن الثياب، والتجمل بأجمل اللباس، والطهارة والاغتسال كغسل الجمعة، للصبيان والنساء والرجال، وكذا الطيب الفواح، للصغار والرجال دون جُناح، أما النساء فلا طيب ولا عطر عند الرجال في المساء والصباح.
ومن الآداب: مُخالفة الطريق. فإذا جئت من طريق فارجع من طريق أُخرى، كما صح بذلك الخبر عن الرسول المرتضى.
ومنها -يا رعاكم الله-: ألا يأكل المرء شيئاً حتى يرجع من مُصلاه، فيأكل من أُضحيته. واعملوا أنه ليس للعيد سُنة قبلية ولا بعدية، إلا إذا صُلي في الجوامع والمُصليات، فيُصلي المرء تحية المسجد، ويحرم صوم يوم العيدين، كما صح الحديث عن سيد الثقلين، وكذا أيام التشريق يحرم صومها، إلا لمن لم يجد الهدي على التحقيق.
ومن وظائف يوم النحر ومعالمه: الأُضحية. وإراقة الدماء لرب الأرض والسماء، وما فُضل عيد النحر على عيد الفطر إلا لاختصاصه بسفك الدماء، فيجتمع فيه أفضل العبادات البدنية، وهي الصلاة، وأفضل العبادات المالية، وهي النسيكة، وقد جمعهم الله لنبيه وخليله، في موضعين من كتابه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2)، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي) (الأنعام: 162)، وما كان ذلك كذلك إلا لأنه طاعة لله وقُربة، وبذل مال طابت به نفس صاحبه، ابتغاء فضل الله وعظيم أجره.
والأُضحية -عباد الله- من شعائر الإسلام الظاهرة، وأعلامه الساطعة، وقد جاءت عن أفضل البشرية، قولية وفعلية وتقريرية، فقد ذبح نبيكم وأقر، وحض عليها وذكَر، يقول ابن القيم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع الاُضحية. فهي سُنة مؤكدة، فاحرصوا -بارك الله فيكم-، وطيبوا بها أنفسكم، وابذلوا أموالكم يُخلف الله عليكم، وابدؤوا بها أنفسكم، تقبل الله منا ومنكم.
والأُضحية: اسم لما يُذبح من الإبل، والبقر، والغنم، في يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ومما هو معلوم أن من أراد الأضحية حرُم عليه أخذ شعره، ويشمل رأسه ولحيته وتقليم أظفاره وتقليع بشرته، حتى يذبح أُضحيته، ولو لم يذبحها إلا ثاني العيد، ولا بأس بالأُضحية عن الميت بعد بدء النفس وتقديمها، وذبح الأُضحية أفضل من الصدقة بثمنها، ولو بلغت أضعاف أضعاف قيمتها، وللأُضحية سن مُعتبر، كما جاء عن سيد البشر، وهو أن يكون ثنياً إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، فالثني من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الغنم ضأنها ومعزها، ما تم له سنة، والجذع من الضأن ما تم له نصف سنة، وأُلفت الانتباه على المشتري التأكد من السن المُعتبر، وعلى البائع التبيين وعدم الغرر، فالمقام يحتاج إلى بيان وإيضاح، فكم من المشترين لا يعرف السن، ثم ما كثر لحمها وعظم سمنها، فهو أفضل وأكمل، ووقت الأُضحية على التحقيق يوم العيد وثلاثة أيام التشريق، ولا بأس بالذبح ليلاً، ومُباشرة المرأة لها، والأفضل أن يُباشر المرء أُضحيته ويذبحها بنفسه، وعند أهله وأولاده.
ثم مما ينبغي أن يُعلم ويُسمع ويُفهم: أنه لابُد من سلامتها من العُيوب، وهي العوراء البين عورها، فمن باب أولى العمياء، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضِلَعها، والعجفاء الهزيلة التي لا مُخ لها، فانتقوا لضحاياكم أطيبها، ولا بأس باشتراك سبعة في بقرة أو إبل، والاشتراك في الثواب واسع، وفضل الله واسع، وأما الاشتراك في أُضحية واحدة، شخصين فأكثر فلا يجوز، وأما اشتراك أشخاص لشخص واحد كوالد أو والادة فجائز.
ثم اعلموا أن للمرء أن يأكل من أُضحيته، ويتصدق ويُهدي ويُطعم، وأما بيعها، أو بيع لحمها، أو شحمها، أو جلدها فلا يجوز؛ لأنه مال أخرجه المرء لله، فلم يجوز الرجوع فيه، أما من أُهدي إليه شيء من الأُضحية فله البيع والإهداء، والتصدق والإعطاء.
معشر المسلمين: أيام التشريق أيام أكل وشُرب وذكر لله، فينبغي الإكثار من أنواع الأذكار والأكل والشُرب والحمد للواحد القهار، واحذروا الإسراف والتبذير، وكُفر العليم الخبير.
وللأضاحي حِكم وأسرار: إحياء سُنة إمام الموحدين، وخليل رب العالمين، والتوسعة على العِيال، وإشاعة الفرح والسرور.
أيها المقيمون القاعدون: هذه بشارة وتسلية لكم -أيها المسلمون-، يقول ابن رجب: لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مُشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة، وجعل موسم العشر مُشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
هنيئاً لمن عمر العشر بالذكر والعبادة، والصلوات والصدقة، والصيام والبر والقراءة، ما يُنافس به قاصد البلد الحرام، وكذا يصفح ويصافح، ويعفو ويُساعد ويُسامح.
ومن التسلية: أن الدعاء بابه مفتوح، وخيره ممنوح.
ومن التسلية: أن القاعد المُحتسب يبلغ بنيته وأجره الحاج في حجه، (إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر).
يا سائرين إلى البيت الحرام لقد
إنا أقمنا على عُذر وقد رحلوا
***
*** سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواح
ومن أقام على عُذر كمن راح
فالقاعد لعُذر شريك السائر، وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم، فالغنيمةَ الغنيمةَ بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، والعجلَ العجلَ قبل هُجوم الأجل.
والله أعلم.
التاريخ: الجمعة: 4/ 12 /1436 هـ
الحمد لله على مواسم الخيرات، وإدراك أيام المنافسات، فتسابقَ فيها أهل الهمم العاليات، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرض والسموات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البريات، وخص يوم النحر وعرفات بمزايا وخصائص واضحات.
أما بعد،.
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واستعدوا بالعمل الصالح يوم لقاه، فالسعيد من بادر أوقاته، ولاحظ ساعته وأنفاسه.
إخوة العقيدة: نحن في أيام فاضلة، وليال جميلة حافلة، عشر ذي الحجة، فهنيئاً لمن ساهم وبادر وقته.
أيها الإخوة المسلمون: أيام الحج خمسة، وهي مشتركة لمن أقام واعتمر البيت وحجه، وهي يوم التروية، والنحر، وعرفة، وأيام التشريق والأُضحية، والحديث في هذه اللحظات عن يومين عظيمين، شريفين جليلين، وهما للمقيم والمسافر مُشتركين، هما يومان كبيران جليلان: يوم عرفة، ويوم النحر، يوم عرفة (الحج عرفة)، ويوم النحر يوم الحج الأكبر.
في هذه الأيام تستعد الأُمة في أيامها، وتبتهج في رحلاتها، وتسموا في تنقلاتها وتقلباتها، فالحجاج والعُمار بين المشاعر والطواف والسعي بالمسجد الحرام، وبين عرفة والنحر ومُزدلفة والمشعر الحرام، والمقيمون بين الصيام والقيام، والأضاحي والزيارة والسلام.
أما يوم عرفة فهو لا كالأيام، فليس في الإسلام مجمع مثله، أو يُقاس به، أو يُشابهه، اجتمعت فيه سبع أحاديات، وكم لهذا العدد من المُناسبات، الناس فيه على صفة واحدة، وزي واحد، وزمان واحد، ومكان واحد، معبودهم واحد، متبوعهم واحد، في وقت واحد، يوم يستوي فيه الصغير والكبير، والمسكين والفقير، والمأمور والأمير، يوم يستوي فيه العزيز والذليل، والرفيع الوضيع، والعربي والعجمي، تساوى فيه الجميع.
يوم عرفة يوم مشترك بين الحُجاج والعُمار، وبين أهل الأمصار، فكل له نصيب وحظ واعتبار، يوم مشترك بين الحُجاج والعُمار، وأهل الموسم والأمصار، تقال فيه العثرات، وتُستجاب فيه الدعوات، وتغفر فيه الزلات، وتُمحى فيه السيئات، وتُزال فيه الكُربات، يوم الرحمات والدمعات، يوم المغفرة والعبرات، يوم الحنين والأنين، والخشوع والخضوع، فالنفوس له تواقة، والأفئدة إليه حنانة، يوم هدم الوثنية الباطلة، والجاهلية الساحقة، يوم رفض الأديان الضالة، وطرح العُنصرية المُتأججة، فإليكم -إخوة الإيمان- شيء من خصائصه باختصار، ونوادره باعتبار، فأرعوني القلوب والأسماع واستمعوا ما يُلقى ويُذاع:
فمنها: أن الله أكمل به الملة. وأتم به النعم، ورضيه لهذه الأُمة، فيه تسموا الأُمة إلى العُلى، وترنم بأن كلمة الله هي العُليا، وتُرفرف بالفرح والبهاء، والسرور والابتهاج والنقاء، دين كمُلت معالمه، وتمت مبادئه، وتأصلت قوائمه، فلا زيادة ولا نقص، ولا تكميل ولا عمل إلا بنص، دين صالح للبشرية أجمع، ولكل زمان ومكان رايته تُرفع، دين سمحة شرائعه، فسيحة أرجاؤه، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33، الصف: 9)، ولو كره الكافرون، دين اختاره الله على سائر الأديان، وجعله دعوة رُسله وأنبيائه في كل زمان، وختمهم بولد عدنان.
ففي مثل هذا اليوم -إخوتي الكرام- من السنة العاشرة للهجرة، آخر حجة للرحمة المُهداة، حجة الوادع، تحاشد الناس مع نبيهم وحبيبهم من جميع الأصقاع، رجالاً وركبانًا، ذكروًا ونساءً، صغاراً وكبارًا، يقول جابر في سياقة حجته: ثم أذن في الناس بالعاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، فنظرت إلى مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله بين أظهرنا، عددهم هائل مائة ألف أو يزيدون. موقف ما أروعه، وجمع ما أعظمه، اختاره الله ليُعلن للناس قاطبة، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، صغيرهم وكبيرهم، حاضرهم وغائبهم، من كان حياً ومن هو مُضمر في الغيب في أصلاب الرجال، لتُعلن تلك الآية دويها، وتضج في أنحاء المعمورة صوتها، وتخفق لها رايتها، آية قصمت ظهور المُبدلين، وكسرة جناح المُضيفين، آية نزلت على الرسول المصطفى، وفي الذكر الحكيم تُتلى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، أتدرون متى نزلت؟ وعلى من نزلت؟ وفي أي يوم نزلت؟ وفي أي مكان نزلت؟ نزلت في يوم عرفة، على أفضل الأُمة، في يوم جمعة، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. فقال: أي آية؟. قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3). فقال عمر -رضي الله عنه-: إني لأعلم حيث نزلت، وأين نزلت، وأين رسول الله حيث أُنزلت، نزلت على رسول الله وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وفي نزولها -إخوة العقيدة والإيمان- في هذا اليوم سر عظيم، لما كان هذا اليوم أكبر مجامع أهل الإسلام، وليس فيه مثله من الأيام، واجتمع فيه عدد هائل من الأنام، وآخر حجة لرسول الأُمة عليه الصلاة والسلام، بل وآخر عام من عُمره من الأيام، ختم الله به المنة، وأكمل به المنة، وأتم به النعمة، ورضيه للأُمة.
والإعلان عن إكمال الدين، وبُلوغ الغاية التي ليس بعدها غاية، هو يوم في تأريخ البشرية، يوم مُفرد لا نظير له، ولا مثيل له، فمن حكمة الله العالية أن شرع للأُمة الإسلامية التلاقي في مثل ذلكم اليوم، كل سنة، في نفس المكان والزمان، بل بدونه فالحج فاسد لا يُقبل، وفي نفس ذلك الوقت الذي وقع فيه الإعلان بالختام وإتمام الإسلام تجديداً للذكرى، وإحياءً لعهد الوفا، بالاستمرار على المنهج الصحيح، والطريق الواضح الصريح، وتعرضاً لأكثر يوم يُعتق الله فيه من النار عبيداً طالماً عصوا العزيز الغفار، وأكثروا من الأوزار، إن مُقتضيات هذا التكريم، وشُكر هذا الرب الكريم، أن يتمسك المسلمون بثوابتهم الأصيلة، وشريعتهم الغراء، ويعلموا ويتعلموا دينهم وأسهم، ويحمدوا الله على إنعامه، ويشكروا الله على كرمه ونواله.
ولما كان هذا اليوم بهذه المثابة خصه رسول الملحمة والرحمة بمميزات وخصائص، فاسمعوا -وفقني الله وإياكم للعمل الخالص-:
منها: أنه ما من يوم على وجه الأرض أكثر من أن يُعتق الله من النار ويُنجي يوم العرض. فقد خرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي به ملائكته، فيقول: ما أراد هؤلاء؟).
ومنها: أنه يوم عيد لأهل الإسلام. كما جاء عن سيد الأنام.
ومنها: أنه يُسن صومه. وقد جاء الخبر في عظيم ثوابه وأجره، عن أبي قتادة عند مسلم: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم عرفة؟ فقال: (يُكفر السنة الماضية والباقية)، وفي رواية: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يُكفر السنة التي قبله والتي بعده)، فاحرصوا على صومه، وحث الأهل عليه، وترغيب الكبار والصغار فيه، فيا له من فضل عظيم، وأجر عميم، كيف يُفرط فيه المسلم المستطيع؟، فهو فرصة سانحة، وغنيمة باردة، والكل محتاج إلى مغفرة الذنوب السالفة والقادمة، وكان السلف يحرصون علي صومه، فقد روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن عائشة أنها قالت: ما من يوم من السنة أصومه أحب إليّ من يوم عرفة.
ومما ينبغي أن يُعلم: أن صومه لأهل الأمصار، أما الحُجاج والعُمار فالمُستحب فطره.
ومن وظائفه وأعماله: أنه بداية تأكيد التكبير ومُلازمته. والتكبير كما هو معلوم من دخول عشر ذي الحجة، إلى آخر أيام التشريق، إلا أنه يتأكد ويتقيد من فجر يوم عرفة لغير حاج، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا: الصحيح من أقوال أهل العلم: أن التكبير يبدأ من فجر يوم عرفة لأهل الأمصار، إلى آخر أيام التشريق، وجاء هذا عن جمع من الصحابة، وجمهور سلف الأُمة.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله، عدد ما هل حاج وكبر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وضحى، وأهدى وكبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أزكى البشر.
أما بعد،.
عباد الله: أما اليوم الثاني وهو ليوم عرفة التالي، يوم النحر، يوم الحج الأكبر، ثاني العيدين، فليس للمسلمين غيرهما، يوم اجتمع فيه فضل الزمان والمكان لأهل الموسم، إكمال حجهم، وتمام نُسكهم، وذبح قرابينهم، ورمي الجَمار، والطواف بالبيت الحرام، والحلق أو التقصير.
ولأهل الأمصار أعياد سعيدة، وأوقات حميدة، صلاة وقربة، وذبح وعبادة، يذبحون ويتقربون بذبح الأضاحي، ويحمدونه ويشكرون ربهم في جميع النواحي، يوم الفرح والسرور، والابتهاج والحبور، فالمسلمون في شتى البقاع، وفي كل الأصقاع، أهل الأمصار والحجاج والعُمار، في الفيافي والقِفار، كلهم يأنسون، وبهذا العيد يفرحون ويزدهرون ويستبشرون، في صفاء للقلوب، وتأليف للنفوس، وإزالة للشحناء والبغضاء، والكِبر والاستعلاء، عيد يعود بالطهر والنقاء، والازدهار والبهاء، تصفح عما بدا وكان، وعفو عن الخطأ والنسيان، تواصل وتلاحم، وترابط وتراحم، صدقة وإحسان، إطعام وصلة أرحام، تزاور وبذل سلام، رحمة للمساكين والأيتام، والنظر بعطف وحنان لذوي الأمراض والأسقام، تهاني وبشاشة، طلاقة وجه وابتسامة، إظهار للنعمة، إشعار بالمنة، جمال وبهاء، ومنظر لألاء.
لهذا اليوم آداب وسنن وظائف، فاسمعوا تلك الكلمات المُختصرات والألفاظ الوجيزات:
أولها -عباد الله-: الخروج لصلاة العيد. وإظهار هذه الشعيرة، وإبداء لعلم من أعلامه الظاهرة، خروج يشمل الذكور والنساء، والصغار والكبار، والمرأة تخرج في حشمة وعفة، غير مُتطيبة ولا مُتعطرة، لا تلبس ثوب شهرة وزينة، ولا مشقوقة مفتوحة، ولا ضيقة لامعة، لا تختلط بالرجال، ولا تُزاحمهم عند الأبواب والطرقات.
ولهذا الخروج سُنن وآداب، فانتبهوا لها -يا أولى الألباب-:
لُبس أحسن الثياب، والتجمل بأجمل اللباس، والطهارة والاغتسال كغسل الجمعة، للصبيان والنساء والرجال، وكذا الطيب الفواح، للصغار والرجال دون جُناح، أما النساء فلا طيب ولا عطر عند الرجال في المساء والصباح.
ومن الآداب: مُخالفة الطريق. فإذا جئت من طريق فارجع من طريق أُخرى، كما صح بذلك الخبر عن الرسول المرتضى.
ومنها -يا رعاكم الله-: ألا يأكل المرء شيئاً حتى يرجع من مُصلاه، فيأكل من أُضحيته. واعملوا أنه ليس للعيد سُنة قبلية ولا بعدية، إلا إذا صُلي في الجوامع والمُصليات، فيُصلي المرء تحية المسجد، ويحرم صوم يوم العيدين، كما صح الحديث عن سيد الثقلين، وكذا أيام التشريق يحرم صومها، إلا لمن لم يجد الهدي على التحقيق.
ومن وظائف يوم النحر ومعالمه: الأُضحية. وإراقة الدماء لرب الأرض والسماء، وما فُضل عيد النحر على عيد الفطر إلا لاختصاصه بسفك الدماء، فيجتمع فيه أفضل العبادات البدنية، وهي الصلاة، وأفضل العبادات المالية، وهي النسيكة، وقد جمعهم الله لنبيه وخليله، في موضعين من كتابه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2)، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي) (الأنعام: 162)، وما كان ذلك كذلك إلا لأنه طاعة لله وقُربة، وبذل مال طابت به نفس صاحبه، ابتغاء فضل الله وعظيم أجره.
والأُضحية -عباد الله- من شعائر الإسلام الظاهرة، وأعلامه الساطعة، وقد جاءت عن أفضل البشرية، قولية وفعلية وتقريرية، فقد ذبح نبيكم وأقر، وحض عليها وذكَر، يقول ابن القيم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع الاُضحية. فهي سُنة مؤكدة، فاحرصوا -بارك الله فيكم-، وطيبوا بها أنفسكم، وابذلوا أموالكم يُخلف الله عليكم، وابدؤوا بها أنفسكم، تقبل الله منا ومنكم.
والأُضحية: اسم لما يُذبح من الإبل، والبقر، والغنم، في يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ومما هو معلوم أن من أراد الأضحية حرُم عليه أخذ شعره، ويشمل رأسه ولحيته وتقليم أظفاره وتقليع بشرته، حتى يذبح أُضحيته، ولو لم يذبحها إلا ثاني العيد، ولا بأس بالأُضحية عن الميت بعد بدء النفس وتقديمها، وذبح الأُضحية أفضل من الصدقة بثمنها، ولو بلغت أضعاف أضعاف قيمتها، وللأُضحية سن مُعتبر، كما جاء عن سيد البشر، وهو أن يكون ثنياً إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، فالثني من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الغنم ضأنها ومعزها، ما تم له سنة، والجذع من الضأن ما تم له نصف سنة، وأُلفت الانتباه على المشتري التأكد من السن المُعتبر، وعلى البائع التبيين وعدم الغرر، فالمقام يحتاج إلى بيان وإيضاح، فكم من المشترين لا يعرف السن، ثم ما كثر لحمها وعظم سمنها، فهو أفضل وأكمل، ووقت الأُضحية على التحقيق يوم العيد وثلاثة أيام التشريق، ولا بأس بالذبح ليلاً، ومُباشرة المرأة لها، والأفضل أن يُباشر المرء أُضحيته ويذبحها بنفسه، وعند أهله وأولاده.
ثم مما ينبغي أن يُعلم ويُسمع ويُفهم: أنه لابُد من سلامتها من العُيوب، وهي العوراء البين عورها، فمن باب أولى العمياء، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضِلَعها، والعجفاء الهزيلة التي لا مُخ لها، فانتقوا لضحاياكم أطيبها، ولا بأس باشتراك سبعة في بقرة أو إبل، والاشتراك في الثواب واسع، وفضل الله واسع، وأما الاشتراك في أُضحية واحدة، شخصين فأكثر فلا يجوز، وأما اشتراك أشخاص لشخص واحد كوالد أو والادة فجائز.
ثم اعلموا أن للمرء أن يأكل من أُضحيته، ويتصدق ويُهدي ويُطعم، وأما بيعها، أو بيع لحمها، أو شحمها، أو جلدها فلا يجوز؛ لأنه مال أخرجه المرء لله، فلم يجوز الرجوع فيه، أما من أُهدي إليه شيء من الأُضحية فله البيع والإهداء، والتصدق والإعطاء.
معشر المسلمين: أيام التشريق أيام أكل وشُرب وذكر لله، فينبغي الإكثار من أنواع الأذكار والأكل والشُرب والحمد للواحد القهار، واحذروا الإسراف والتبذير، وكُفر العليم الخبير.
وللأضاحي حِكم وأسرار: إحياء سُنة إمام الموحدين، وخليل رب العالمين، والتوسعة على العِيال، وإشاعة الفرح والسرور.
أيها المقيمون القاعدون: هذه بشارة وتسلية لكم -أيها المسلمون-، يقول ابن رجب: لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مُشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة، وجعل موسم العشر مُشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
هنيئاً لمن عمر العشر بالذكر والعبادة، والصلوات والصدقة، والصيام والبر والقراءة، ما يُنافس به قاصد البلد الحرام، وكذا يصفح ويصافح، ويعفو ويُساعد ويُسامح.
ومن التسلية: أن الدعاء بابه مفتوح، وخيره ممنوح.
ومن التسلية: أن القاعد المُحتسب يبلغ بنيته وأجره الحاج في حجه، (إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر).
يا سائرين إلى البيت الحرام لقد
إنا أقمنا على عُذر وقد رحلوا
***
*** سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواح
ومن أقام على عُذر كمن راح
فالقاعد لعُذر شريك السائر، وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم، فالغنيمةَ الغنيمةَ بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، والعجلَ العجلَ قبل هُجوم الأجل.
والله أعلم.
المرفقات
خطبة البشائر في فضل اليوم التاسع والعاشر.doc
خطبة البشائر في فضل اليوم التاسع والعاشر.doc