البر المزيَّف والعقوق الخفي

سامي بن محمد العمر
1446/06/10 - 2024/12/12 19:43PM

البر المزيف والعقوق الخفي

 

ومن البر ما يكون عقوقاً..

البر المزيف والعقوق الخفي: صور من صور الجرأة المعاصرة على إغضاب الله تعالى، ومشاهد جديدة من مشاهد التعدي على حدود الله تعالى.

البر المزيف: مجرد ادعاءاتٍ تقال في كلمات، وكلماتٍ تكتب في تغريدات، وتشبعِ اللئام زوراً بأخلاق الكرام؛ والحقيقة أن لا برّ ولا سمع ولا طاعة!

إنهم المتحدثون أمام الآخرين عن البر والطاعة، والحرصِ على إسعاد آبائهم وتقبيلِ أقدام أمهاتهم؛ بينما ينكشف عُوار البر المزيف مع أول طلب من الوالد ورغبة من الوالدة تُقابل بالتأفف والملل، والمكابرة والجدل.

 والعقوق الخفي: تصرفاتٌ تصدر من الأبناء كالغُصصِ تتجرعها حلوق الآباء فلا تقوى معها على الإخراج والدفع ولا على الإمضاء والبلع، وكالخناجرِ تُدمي الارواح وتجرح المشاعر؛ وكلُّ ذلك يحدث منهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]

ألا فلْيعلم كلُّ ولد يخشى العذاب ويخاف العقاب أن العقوق كبيرة من كبائر الذنوب؛ وحقيقته التي يجب أن تُجتنب: هي "صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية أو تعنت"([1]).

والأذى الذي يلحق الوالدين يشمل الحسي والمعنوي؛ الجسدي والنفسي؛ فترى كثيراً من الأبناء يراعي خطورة الأذى الجسدي الحسي ويغفل عن الأذى النفسي المعنوي فيقع في العقوق الخفي.

الآباء في حال الكبر ينتظرون الكلمة الشاكرة والعبارة الحانية، والكرم في المشاعر والجود في المواقف.

الآباء في حال الكبر يتمنون خفض الجناح، وتضميد الجراح، وجميل الكلام والمزاح

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]

لكن صور العقوق الخفي تدمر مشاعر الفرح بالبر، وتهدم بنيانه في حقيقة الأمر:

ومن ذلك: الانشغال بأجهزة التواصل عند زيارة الوالدين من غير ضرورة، فهو استهانة بمقام الوالدين وإشعار بتقديم الغير عليهما؛ فأيُّ برٍّ هذا؟

كان محمد بن سيرين إذا كان عند أمه يجلس متخشعاً ويخفض صوته ويتكلم رويداً([2]).

ومن ذلك العقوق الخفي: كثرة الجدال مع الوالدين على كل صغيرة وكبيرة، مما يُشعر برفض الولد لقرار والديه، وامتعاضه من طلبهما، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بعض الصحابة فقال: ((وأطع والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك؛ فاخرج لهما))([3]).

ولقد كان السلف يرون المنتصر في جداله مع والديه عاقاً كما قال يزيد بن أبي حبيب: "إيجاب الحجة على الوالد عقوق"([4]).

ومن ذلك أيضاً: رفع الصوت عليهما إظهاراً للغضب وإشعاراً بالتضايق، والله تعالى قد أمر بالتذلل لهما لا بالتعالي عليهما؛ وقد نادت ابنَ عونٍ أمُّه يوماً فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق من أجل ذلك رقبتين([5]).

ومن ذلك: الفهم المغلوط لتقديم البر بالأم على البر بالأب؛ فإن حقها بلا شكٍ ألزم، ولكن حق الوالد في قيادة الأسرة كلها أعظم؛ فليس من البر ميل الأبناء لأمهم ضد رغبة الأب فيما شرعه الله له من الزواج بأخرى وهجرهم له من أجل ذلك.

ومن صور العقوق الخفي: أن تصل الأمور بالوالدين إلى التردد في طلب حاجة من الولد خوفاً من ردة فعله بالرفض والإهانة؛ أليس هذا عقوقاً صارخاً وإن كتم الآباء مرارته؟

كان الإمام حَيْوة بن شريح يقعد في حلقته يعلّم الناس، فتقول له أمه: "قم يا حيوة! فألق الشعير للدجاج"، فيترك حلقته ويذهب لفعل ما أمرته أمّه به([6]).

ومن ذلك أيضاً: حدة النظر إليهما استنكاراً لقولهما، وتكليف الخادمة والسائق بشؤونهما مع القدرة على القيام بخدمتهما، وتصوير المقالب المضحكة عليهما ونشرها بين الناس، وتكدير خاطرهما بمشاكل لا حول لهما فيها ولا قوة، والتخاذل عن إظهار التقدير لهما عند الآخرين كتسفيه رأيهما والدخول أو الخروج قبلهما ووصفهما بالشايب والعجوز في صور من العقوق كثيرة؛ وقد رأى أبو هريرة رجلاً يمشي خلف رجل فقال له، من هذا؟ قال أبي، قال فلا تدعه باسمه، ولا تجلس قبله ولا تمشِ أمامه.

اللهم اهدنا فيمن هديت

 

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

فاعلم أيها الولد الحبيب أن العلاقة بينك وبين والديك ليست كالعلاقة بينك وبين الآخرين، وإن زَخْرَفتْ لك ذلك أقوالُ المُنظِّرين من أهل الثقافات الدخيلة.

يقولون لك: علاقاتك مع الآخرين علاقة الند للند؛ بحيث تقول: من يحترمني احترمته ومن يرفع عليّ صوته رفعت صوتي عليه!.

إنْ صحَّ لك مع الآخرين فمع الوالدين كلا وألف كلا؛ فعلاقتك معهما علاقة الأدنى المتذلل مع الأعلى المتفضل، الذي لن تجزيه فضله عليك مهما فعلت، إلا في حالة واحدة وأنّى لك إدراكُها..

 عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»([7])

 

 



([1]) فتح الباري لابن حجر (10/ 406)
([2]) ينظر: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (229) والبر والصلة لابن الجوزي (91).
([3]) صحيح الأدب المفرد (ص: 38)
([4]) البر والصلة لابن الجوزي (148)
([5]) سير أعلام النبلاء (6/366).
([6])
([7]) صحيح مسلم (2/ 1148)( 1510)

المرفقات

1734021744_البر المزيف والعقوق الخفي.docx

المشاهدات 1496 | التعليقات 0