البركة وسبل تحصيلها بدر عبد الحميد هميسه

البركة وسبل تحصيلها

بدر عبد الحميد هميسه


البركة كلمة طيبة ومعنى جميل يتمناه الجميع، بل وكلما جلست مع شيخ كبير في السن حكى لك عن الزمن الجميل أيام كانت البركة في كل شيء؛ في المال والرزق والولد والعمل والوقت، ثم شكى لك بأن الزمن قد تغير ولم تعد هناك بركة في أي شيء فتقوم من عنده وتقول:لديه كل الحق.

والبركة التي تقصد هنا هي: الزيادة والنماء وكثرة الخير، وهناء العيش، والكفاية في كل شيء، فالله - تعالى - إذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم.

والبركة نوعان: فقد تكون جلية، وقد تكون خفية، فالبركة الجلية: هو ما يشاهد كثيرًا بالعادة من كثرة الخير وسوق الرزق للإنسان، ونمائه عند صاحبه وما يرافق ذلك من توفيق، وتيسير في الحصول على الرزق، ونحوه.

والبركة الخفية: قد تكون بدفع المضرات والجوائح والآفات عن الرزق، وعدم تعرض الإنسان للحوادث والأمراض الخطيرة، ونحوه مما يأتي على جانب كبير من رزقه، وقد ذكروا بأن الغنم أو الأنعام إذا أنتجت الإناث فهذا من البركة الخفية لأنها تنمو وتتضاعف، وإذا أنتجت الخراف أو الذكور فهذا من المحق الخفي.

ومن يقرأ في أحوال أهل البركة وكيف بارك الله - تعالى - لهم في أحوالهم وأرزاقهم يجد العجب العجاب.

فهذا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يهاجر إلى المدينة تاركاً كل أمواله في مكة فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: تَعَالَ حَتَّى أُقَاسِمَكَ مَالِي، وَأَنْزِلَ لَكَ عَنْ أَيِّ امْرَأَتَيَّ شِئْتَ، فَأَكْفِيكَ الْعَمَلَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّوُنِي عَلَى السُّوقِ" [أخرجه مالك "الموطأ(1570 "أحمد(3/190(13007) و"البُخَارِي(2049].

ودخل ابنُ عَوفٍ سوقَ المدينة وعمره ثلاثٌ وأربعون سَنَة، وكان صنَّاع السّوق وسَمَاسِرته من يهود بني قينقاع، فلم يثْنِ عزيمتَه، ولم يفتَّ في همَّته هذا الاحتكارُ اليهودي، بل زاحمَ في السُّوق، واشترى وباع، وربح وادَّخر، وهكذا سارتْ به الأيَّام، وهو يكدح في العمل وطلَب الحلال والعفاف.

سأله أحد أصحابه: "بِمَ أدركتَ من التِّجارة ما أدْركتَ؟ فقال: "لأنِّي لم أشترِ معيبًا، ولم أُرِد ربحًا كثيرًا، والله يبارك لِمَنْ يشاء".

وبارك الله لابنِ عوف في تِجارتِه، فكان لا يشتري شيئًا إلاَّ ربِح فيه، حتَّى قال عن نفْسِه مُتَعجِّبًا: "لقد رأيتُني لو رفعتُ حجرًا، لوجدتُ تَحتَه فضَّة وذهبًا".

وكان - رضي الله عنه - لا يهنأ إلاَّ بإنفاق المال، سرًّا وجهرًا، في العُسْر واليُسْر، حتَّى ملك القُلوبَ بِماله، فشاطرَه بالانتِفاع في هذا المال أهلُه وأقاربُه، وإخوانُه ومجتمعه، حتَّى قيل: "كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف: ثلُثٌ يُقْرِضهم مالَه، وثلُث يقضي دَينهم، ويَصِلُ ثلثًا".

سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ماله.

قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة، باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين.

في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر.

وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا".

ولكن البركة في ماله جعلته يترك لأهله كثيرا، قال أَنَس - رضي الله عنه -: فَلَقَدْ رَأَيْته قُسِمَ لِكُلِّ اِمْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ بَعْد مَوْته مِائَة أَلْف ". قُلْت: مَاتَ عَنْ أَرْبَع نِسْوَة فَيَكُون جَمِيع تَرِكَته ثَلَاثَة آلَاف أَلْف وَمِائَتَيْ أَلْف. [راجع: فتح الباري لابن حجر 14/448].

وهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي جهز جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً، واستغرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء له يومها، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه000فقد جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، فجعل - صلى الله عليه وسلم - يقلبها ويقول: (ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم) قالها مرارا. [أحمد في فضائل الصحابة (1/518، رقم 854)].

واشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم، وقد قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ، وَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ. [فيض الباري 6/89].

وقيل: انبسطت الأموال في زمنه - رضي الله عنه - حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف درهم، وحجّ بالناس عشر حجج متوالية0 [المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/49].

فالبركة لا تنتهي من الكون، وأهل البركة لا يخلو منهم الزمان والمكان، قد تنقص البركة أو تقل لأسبابها ولكن لا تنمحي بالكلية من الأرض، ولقد بشرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلاَ يَجِدُ أَحَدا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأنْهَارًا، وَحَتَّى يَكْثُرَ الْهَرج. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَارَسُولَ الله؛ قَالَ: الْقَتْلُ. الْقَتْلُ) [أخرجه أحمد 2/370(8819) و"مسلم(3/84 و8/170].

وفي حديث وصف المهدي المنتظر: (ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) [أخرجه أحمد 4/181(17779) و"مسلم"8/196(7483)].

وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البركة في الجنة فقال، عَنْ عَامِرِ بْنِ زَيْدٍ الْبَكَالِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيَّ، يَقُولُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن الحَوْضُ، وذكر الجنة، قال: الأعرابي، أَفِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ فِيهَا شَجَرَةً تُدْعَى طُوبَى، هِيَ تُطَابِقُ الْفِرْدَوْسَ، قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: لَيْسَ شِبْهُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ أَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ أَتَيْتَ الشَّامَ؟ فَقَالَ: لاَ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّهَا تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ، تُدْعَى جَوْزٌ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْتَشِرُ أَعْلاَهاَ، قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ، لَوِ ارْتَحَلْتَ جَذَعَةً مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ مَا أَحَطْتَ بِأَصْلِهَا، حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتَاهَا هَرَمًا. قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ فِيهَا؟ قَالَ: مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الأَبْقَعِ، لاَ يَنْثَنِي، وَلاَ يَفْتُرُ، قَالَ: مَا عِظَمُ الْحَبَّةِ مِنْهَا؟ قَالَ: هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَمْ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ، فَقَالَ: ادْبِغِي لَنَا هَذَا، ثُمَّ افْرِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا، نَرْوِي بِهِ مَاشِيَتَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ تُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ) [أخرجه أحمد 4/183(17792)].

والبركة ليست في المال والرزق فقط إنما تكون في كل شيء، تكون في الولد والأهل والأصدقاء والجيران، وفي العلم والوقت، ومن يقرأ سير أعلام وعلماء السلف يجد العجب العجاب ويستشعر كيف بارك الله لهم في علمهم وأوقاتهم، فها هو ابن جرير الطبري قد مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة وقد صار مجموع ما صنفه نحو 358 ألف ورقة، وقد ولد بن جرير سنة 224هـ وتوفى سنة 310هـ فعاش 81 سنة فإذا طرحنا منها سنة قبل البلوغ وقدرناها بأربع عشرة سنة يكون قد بقى ابن جرير سنتين وسبعين سنة يكتب كل يوم 14 ورقة فإذا حسبنا الاثنين والسبعين سنة وجعلت كل يوم منها 14 ورقة تضيفا كان مجموع ما صنعه نحو 358 ألف ورقة.

فالبركة أمل وعمل وهدف يسعى كل عاقل إلى تحصيله، ولكن هذا الهدف وذلك الأمل لن يتحقق إلا إذا سلك المسلم سبل تحصيله ومن هذه السبل:

1- الإيمان والتقوى:

الإيمان والتقوى من أول السبل وأهمها في تحصيل البركة، فالبركة لن تتحقق في حياة المسلم إلا بالإيمان والتقوى، قال - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[(96) سورة الأعراف].

ويتضح لنا من قول الله - تعالى - أن الإنسان المؤمن التقي سوف يشعر بالبركة في حياته وفي زوجته وفي أولاده.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ اللّهَ - تعالى - يَقُولُ: (يَا ابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلاَ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أسُدَّ فَقْرَكَ) [أخرجه أحمد 2/358(8681) و"ابن ماجة(4107 و"التِّرمِذي(2466].

فالذي يحافظ على العبادات ويسعى دائماً لزيادة رصيد إيمانه بربه يكافئه الله - تعالى - بزيادة البركة له.

فالصلاة - مثلاً - كعبادة من أعلى وأسمى عبادات الإسلام تكون سبباً مباشراً في حصول البركة في حياة المسلم، قال - تعالى -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [سورة طه: 132]، وقال - سبحانه -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [(65) (66) سورة المائدة].

قال ابن قيم الجوزية: "وَأَمّا الصّلَاةُ فَشَأْنُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ وَتَقْوِيتِهِ وَشَرْحِهِ وَابْتِهَاجِهِ وَلَذّتِهِ أَكْبَرُ شَأْنٍ وَفِيهَا مِنْ اتّصَالِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ بِاَللّهِ وَقُرْبِهِ وَالتّنَعّمِ بِذِكْرِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقُوَاهُ وَآلَاتِهِ فِي عُبُودِيّتِهِ وَإِعْطَاءِ كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْهَا وَاشْتِغَالِهِ عَنْ التّعَلّقِ بِالْخَلْقِ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ وَانْجِذَابِ قُوَى قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إلَى رَبّهِ وَفَاطِرِهِ وَرَاحَتِهِ مِنْ عَدُوّهِ حَالَةَ الصّلَاةِ مَا صَارَتْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُفَرّحَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ الّتِي لَا تُلَائِمُ إلّا الْقُلُوبَ الصّحِيحَةَ. وَأَمّا الْقُلُوبُ الْعَلِيلَةُ فَهِيَ كَالْأَبْدَانِ لَا تُنَاسِبُهَا إلّا الْأَغْذِيَةُ الْفَاضِلَةُ.

فَالصّلَاةُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ مَفَاسِدِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ مُنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَدَافِعَةٌ لِأَدْوَاءِ الْقُلُوبِ وَمُطْرِدَةٌ لِلدّاءِ عَنْ الْجَسَدِ وَمُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ وَمُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ وَمُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ وَالنّفْسِ وَجَالِبَةٌ لِلرّزْقِ وَدَافِعَةٌ لِلظّلْمِ وَنَاصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَقَامِعَةٌ لِأَخْلَاطِ الشّهَوَاتِ وَحَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ وَدَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ وَمُنْزِلَةٌ لِلرّحْمَةِ وَكَاشِفَةٌ لِلْغُمّةِ وَنَافِعَةٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَوْجَاعِ الْبَطْنِ"[زاد المعاد 8/415].

وقال المناوي: "الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه فمن أقبل بها على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه، وذلك شأن كل كبير في حق من أقبل بكليته عليه" [فيض القدير 5/120].

فالإيمان والتقوى سبب لحصول البركة ومعهما لا تتعجب من وجودها، ذكر معمر بن راشد: "أنه رأى باليمن عنقود عنبٍ حمل بغلٍ تام" [انظر: سير أعلام النبلاء (12/217)].

ولنا العبرة في الحكاية التي حدثت مع أبي جعفر المنصور حينما بويع للخلافة، وذهب الناس يهنئونه بإمارة المؤمنين، ودخل عليه سيدنا مقاتل بن سليمان وكان أحد الواعظين.

هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا، سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له: عظنا يا مقاتل. قال مقاتل: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟ ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن السمع متعدد؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضاً تجارب غيره من البشر.

قال أبو جعفر: تكلم بما رأيت. قال: يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبدالعزيز وقد ترك أحد عشر ولداً. وخلف ثمانية عشر ديناراً كُفن منها بخمسة، واشتروا له قبراً بأربعة، ثم وزع الباقي على ورثته. ومات هشام بن عبدالملك، فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور. كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط. والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبدالعزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبدالملك يسأل الناس في الطريق. [انظر: تفسير الشعراوي 762].

وعمر هذا نفسه هو الذي قد تفاعل مع قوله - تعالى -: (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف196] فقيل له وهو على فراش الموت: هؤلاء بنوك ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء؟! فقال: إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والله لا أعطيهم حقّ أحد، وهم بين رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه، ولا أبالي في أيِّ واد هلك، ولا أدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت، ثم استدعى أولاده فودعهم وعزاهم بهذا وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم. [البداية والنهاية 9/281].

وهذا كله تصديقا لقوله - سبحانه -: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [النساء: 9].

2- اليقين وحسن التوكل:

ومن وسائل وأسباب تحصيل البركة في حياتنا: اليقين وحسن التوكل على الله - تعالى -، قال - سبحانه -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [(2)(3) سورة الطلاق].

فاليقين هو: اليقين هو العلم الذي يحمل صاحبه على الطمأنينة بخبر الله، والطمأنينة بذكر الله، والصبر على المكاره، والقوة في أمر الله، والشجاعة القولية والفعلية، والاستحلاء للطاعات، وأن يهون على العبد في ذات الله المشقات وتحمل الكريهات، وكل ذلك سبيل إلى تحصيل البركة في حياة المسلم.

عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ، وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللهَ - عز وجل -) [أخرجه أحمد 1/8(38)].

روى عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله - عز وجل - من الجزاء والعوض. [سير أعلام النبلاء 11/491].

والتوكل هو: الاعتماد المطلق على الله - تعالى - في جميع الأمور من جلب المنافع ودفع المضار وهو صدق التفويض والثقة بالله - تعالى -.

وهو سبب من أسباب الخير والسعادة، والبركة والزيادة، والعزة والسيادة، قال - تعالى -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ دَارِهِ، كَانَ مَعَهُ مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بِهِ، فَإِذَا قَالَ: بِسْمِ اللهِ، قَالاَ: هُدِيتَ، وَإِذَا قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، قَالاَ: وُقِيتَ، وَإِذَا قَالَ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، قَالاَ: كُفِيتَ، قَالَ: فَيَلْقَاهُ قَرِينَاهُ فَيَقُولاَنِ: مَاذَا تُرِيدَانِ مِنْ رَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ) [أخرجه ابن ماجة (3886)].

قِيلَ لِحَاتِمٍ الأَصَمِّ - وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ -: عَلَى ما بَنَيْتَ أَمْرَكَ؟ قَالَ: عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ - عز وجل -. ثُمَّ قَالَ: بَنَيْتُ أَمْرِي عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَلَى أَنَّ رِزْقِي لا يَأْكُلُهُ غَيْرِي؛ فَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَعَلِمْتُ أَنَّ عَمَلِي لا يَعْمَلُهُ أَحَدٌ غَيْرِي؛ فَلَمْ أَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَعَلِمْتُ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِينِي بَغْتَةً؛ فَأَنَا أُبَادِرُهُ، وَعَلِمْتُ أَنِّي لا أَخْلُو مِنْ عَيْنِ اللهِ - عز وجل - حَيْثُ كُنْتُ؛ فَأَنَا مُسْتَحْيٍ مِنْهُ أَبَدًا. [ابن عبر: المجالسة وجواهر العلم 4/425].

وعَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا) [أخرجه أحمد 1/30(205) و"ابن ماجة"4164 و"التِّرمِذي"2344 الألباني في "السلسلة الصحيحة(1 / 557].

قال الشاعر:

إلى الرحمن ترتفع الأيادي *** وليس لغيره نفع العباد

وباب الرزق بالإيمان يطرق*** إذا أيقنت فأبشر بازدياد

وثق بالرب رزاق البرايا *** كما وثقت به الطير الغوادي

إذا خرجت من الأوكار جوعى *** تعود بطونها ملأى بزاد

قال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه أناس كثير، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان بالله، وحشوها العمل بطاعة الله، وشراعها التوكل على الله، لعلك تبحر.

وعن سعيد بن المسيب قال: التقى عبدالله بن سلام، وسلمان الفارسي فقال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي، فالقني؛ فأخبرني ما لقيت من ربك، وإن مت لقيتك فأخبرتك، فقال الآخر: أو تلقى الأموات الأحياء، قال: نعم أرواحهم تذهب في الجنة حيث شاءت، قال: فمات أحدهما، فلقي أخاه في المنام، فقال: توكل وأبشر، فلم أر مثل التوكل قط. [شعب الإيمان 2/ 489، ابن أبي الدنيا: التوكل 36].

فالتوكل سبب في زيادة الإيمان، وطريق إلى مرضاة الرحيم الرحمن، وسبيل إلى دخول الجنان، وواحة للسكينة والاطمئنان، وفيه الكفاية من الهموم والغموم والأحزان.

قال - تعالى -: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [(173) (174) سورة آل عمران].

والتوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل إن الأخذ بها من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، قال رجل للإمام أحمد - رحمه الله -: أريد أن أحج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال الإمام أحمد مستنكرا وليقيم عليه الحجة: اخرج في غير قافلة، فقال الرجل: لا، إلا معهم، قال الإمام أحمد: فعلى جراب الناس توكلت. أي: إنك كاذب في هذا؛ لأنك ستعتمد على الناس في أكلك وشربك، ولست متوكلا على الله كما تدعي.

لذا فإن من حسن التوكل على الله - تعالى - السعي مبكراً في طلب الرزق فإن البركة في البكور، عَن صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: اللهمَّ بَاركْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا. قَالَ: وَكَانَ إذَا بَعَثَ سَريَّةً أَوْ جَيْشًا، بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَار. وَكانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا، وَكانَ إِذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النُّهَارِ، فَأَثْْرَى وَكثُرَ مَالهُ) [أخرجه أحمد 3/416(15517) و"الدارِمِي، و"ابن ماجة(2236 والتِّرْمِذِيّ(1212)].

فالتوكل على الله - تعالى - يفعل الأعاجيب، ولقد قال أبو داود -صاحب السنن- عن نفسه: "شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين، قُطعت وصيرت على مثل عدلين". [سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: صدقة الزرع، تحت حديث (1599)].

وحكي أن حاتما الأصم كان رجلا كثير العيال وكان له أولاد ذكور وإناث ولم يكن يملك حبة واحدة وكان قدمه التوكل فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم فتعرضوا لذكر الحج فداخل الشوق قلبه ثم دخل على أولاده فجلس معهم يحدثهم ثم قال لهم لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجا ويدعو لكم ماذا عليكم لو فعلتم فقالت زوجته وأولاده أنت على هذه الحالة لا تملك شيئا ونحن على ما ترى من الفاقة فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة وكان له ابنة صغيرة فقالت ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك دعوه يذهب حيث شاء فإنه مناول للرزق وليس برزاق فذكرتهم ذلك فقالوا صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا انطلق حيث أحببت فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج وخرج مسافرا وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج وتأسف على فراقه أصحابه وجيرانه فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة ويقولون لو سكت ما تكلمنا فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء وقالت إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدا فانقطع عن عسكره وأصحابه فحصل له عطش شديد فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء وقرع الباب فقالوا من أنت قال الأمير ببابكم يستسقيكم فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء وقالت إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعا واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا ثم أنها أخذت كوزا جديدا وملأته ماء وقالت للمتناول منها اعذرونا فأخذ الأمير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال هذه الدار لأمير فقالوا لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم فقال الأمير لقد سمعت به فقال الوزير يا سيدي لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئا وأخبرت أنهم البارحة باتوا جياعا فقال الأمير ونحن أيضا قد ثقلنا عليهم اليوم وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار ثم قال لأصحابه من أحبني فليلق منطقته فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم ثم انصرفوا فقال الوزير السلام عليكم أهل البيت لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير ودفع إليهم ثمن المناطق مالا جزيلا واستردها منهم فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدا فقالوا لها ما هذا البكاء إنما يجب أن تفرحي فإن الله قد وسع علينا فقالت يا أم والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعا فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقرنا فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين. [الإبشيهي: المستطرف 1/149].

3- القناعة والرضا:

القناعة والرضا هما السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن، وهما البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة.

والإنسان بدون القناعة والرضا يقع فريسة لليأس، وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب.

وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [(5) سورة الضحى].

وفي القناعة والرضا الغنى الكامل، والبركة الكاملة، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) [أخرجه أحمد (2/310، رقم 8081)، والترمذي (4/551، رقم 2305) الألباني في "السلسلة الصحيحة(2 / 637].

وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) [أخرجه أحمد 2/389(9050) و"البُخاري(8/118(6446) و"الترمذي(2373)].

وقد فسر بعض أهل العلم قول الله - تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [(97) النحل: 97]. قالوا: هي القناعة؛ إذ لم يُعط المرء شيئًا مثل القناعة.

عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً، فَصَبَرَ عَلَيْهَا، إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ) [أخرجه أحمد 4/231 (18194) و"التِّرمِذي(2325 صحيح، ابن ماجة (4228)].

قال أبو حاتم البستي: "إن تمكن المرء بالمال القليل مع قلة الهم أهنأ من الكثير للتعبة"، قال أحدهم:

يتنافس التجارُ في الإكثار *** من درهمٍ في المال أو دينار

لو يُرزقُ التجارُ بعض قناعةٍ *** لرأوا أن الفرقَ في الأصفار

فالإنسان الذي يقنع ويرضي بكل ما كتب الله - تعالى - له، يعيش سعيداً هانئ البال والفكر، ويعوضه الله - تعالى - خيراً، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لأَهْلِهَا: لاَ تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، قَالَ: فَجَاءَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، قَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ، وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، وَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لاَ، قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ، فَانْطَلَقَ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا، قَالَ: فَحَمَلَتْ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ، لاَ يَطْرُقُهَا طُرُوقًا، فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، وَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَ رَسُولِكَ إِذَا خَرَجَ، وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ، وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، قَالَ: تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ، فَانْطَلَقْنَا، قَالَ: وَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ حِينَ قَدِمَوا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أَنَسُ، لاَ يُرْضِعَنَّهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ احْتَمَلْتُهُ وَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَصَادَفْتُهُ وَمَعَهُ مِيسَمٌ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَضَعَ الْمِيسَمَ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ، فَوَضَعْتُهُ فِي حَِجْرِهِ، قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلاَكَهَا فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَتْ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ، فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الأَنْصَارِ التَّمْرَ، قَالَ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ) [أخرجه أحمد 3/175(12826) و"البُخَارِي"، في (الأدب المفرد) 1254 و"مسلم(5663)].

يقول الشافعي - رحمه الله -:

أمت مطامعي فأرحت نفسي ‍*** فإن النفس ما طمعت تهونُ

وأحييت القنوع وكان ميتا ‍*** ففي إحيائه عرض مصونُ

إذا طمع يحل بقلب عبد ‍*** علته مهانة وعلاه هونُ

يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد الصالحين يشكو إليه من قلة الرزق وعدم كفايته له ولأسرته، فقال له: اذهب لصاحب العمل وقل له أن يقلل أجرك!. فذهب الرجل لصاحب العمل وقال له ذلك... فوافق صاحب العمل فوراً، وبعد فترة ذهب الرجل مرة أخرى إلى الرجل الصالح يشكو له من عدم كفاية الأجر... فقال له: اذهب لصاحب العمل وقل له أن يخفض أجرك مرة أخرى فذهب الرجل لصاحب العمل وقال له ذلك... ووافق طبعا على تخفيض أجره. وبعد فترة طويلة التقى هذا الرجل بالرجل الصالح... فسأله عن حاله.. فقال له الرجل... الحمد لله أجري الآن يكفيني ويفيض... ثم سأل الرجل الصالح: لماذا فعلت معي ذلك؟. فقال له إنه أحس بأنه يأخذ أجراً زائداً عن العمل الذي يقوم به... وهذا الأجر الزائد كان ينزع البركة من الأجر... أما الآن فأنت تحصل على أجرك الذي تستحقه وهذا ما أعطاه البركة!.

قال الشاعر:

الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لـي*** ويُـلقي على المآسي سُدولا

أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا

فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد ***بـهـا في العباد إلا القليلا

4- شكر الله - تعالى - على نعمه:

الشكر قيد للنعم يبقيها ويحفظها من الزوال، وهذا من أعظم آثار الشكر وثماره، فإن الإنسان يحب بقاء النعم التي هو فيها ويكره زوالها.

وقد دلت النصوص على أن الشكر سبب لبقاء النعم، وكفرها سبب في زواله، قال - تعالى -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [(7) سورة إبراهيم].

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: الشاكرون أطيب الناس نفوساً، وأشرحهم صدوراً، وأقرهم عيوناً، فإن قلوبهم ملآنة من حمده والاعتراف بنعمه، والاغتباط بكرمه، والابتهاج بإحسانه، وألسنتهم رطبة في كل وقت بشكره وذكره، وذلك أساس الحياة الطيبة، ونعيم الأرواح، وحصول جميع اللذائذ والأفراح، وقلوبهم في كل وقت متطلعة للمزيد، وطمعهم ورجاؤهم في كل وقت بفضل ربهم يقوى ويزيد. [الرياض النضرة 86].

ومن مأثور كلام الحكماء: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها، والشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة.

ولقد أمر الله - تعالى - المؤمنين الصالحين بدوام شكر الله - تعالى - على نعمه، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [(172) سورة البقرة]، وقال: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [(15) سورة سبأ].

وقال الشاعر:

الشكر أفضل ما حاولت ملتمسا *** به الزيادة عند الله والناس

وقال آخر:

حافظ على الشكر كي تستجزل القسما *** من ضيع الشكر لم يستكمل النعما

الشــكر لله كنزٌ لا نفاد له *** من يلزم الشــكر لم يكســب به ندما

روى ابن أبي الدنيا في كتابه الشكر أنَّ رجلاً قال لأبي حازم سلمةَ ابن دينار: "ما شكرُ العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراًّ سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراًّ دفعته، قال: ما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاًّ لله - عز وجل - هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه طعاماً وأعلاه علماً، قال: ما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ) [المؤمنون 2]، قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إذا رأيت ميتاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت ميتاً مقتّه كمقتهما عن عمله وأنت شاكرٌ لله - عز وجل -، فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجلٍ له كساءٌ فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر [الشكر لابن أبي الدنيا (رقم: 129)].

وعن على قال: إن النعمة موصولة بالشكر والشكر متعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد) [أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (4/127، رقم 4532) [كنز العمال8617].

قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: اُشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْك وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَك فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلنِّعَمِ إذَا كُفِرَتْ، وَلَا زَوَالَ لَهَا إذَا شُكِرَتْ، وَعَنْ عَلِيٍّ: احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِدٍ مَرْدُودٌ، وعن الحسن قال: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذابا. [ابن أبي الدنيا: الشكر 11].

جاء رجل إلى يونس بن عبيد - رحمه الله - فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما بذلك فقال: أيسرك ببصرك مئة ألف؟ قال: لا، قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، وذكره نعم الله عليه ثم قال يونس: أرى لك مئات الألوف وأنت تشكو الحاجة. [حلية الأولياء 3/23].

والمؤمن في شكره ينسب النعمة إلى المنعم ولا ينسبها إلى غيره لأن ذلك يُعد كفراً وجحوداً لصاحب النعمة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا) [أخرجه أحمد 2/421(9444) و((مسلم)) 1/59(145)].

فكي تبقى النعم عليك ويبارك الله - تعالى - لك فيها لا بد أن تداوم على شكرها وتعرف قدرها.

5- الحرص على الكسب الحلال:

أمرنا الإسلام الكريم بالحرص على الكسب الحلال، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [(168) سورة البقرة].

وقال: (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [(114) سورة النحل].

كما نهانا عن الكسب الحرام لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء، بله إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف للكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل، وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ذلك ممحق للبركة، عائق في سبيل تحصيلها.

ولقد أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بأنه سوف يأتي على الناس زمان يتهاونون فيه في قضية الكسب فلا يدققون ولا يحققون في مكاسبهم.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الحَلالِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ" (أخرجه البخاري في البيوع (2059)].

فالكسب الحرام مناف للحياء من الله - تعالى -، ولا يتفق مع خوف المسلم وخشيته من ربه - سبحانه -، عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّاْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) [أخرجه أحمد 1/387(3671) (الترمذي 4/567). قال الألباني: حديث حسن، الروض النضير (601)، المشكاة (1608)].

وإن بعض الناس يتعجلون استبطاء الرزق عنهم فيطلبونه في الحرام، ولا يدركون أن ما عند الله - تعالى - لا ينال إلا بطاعته، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته) [رواه الحاكم، الصحيحة (2607)، المشكاة (5300)].

روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه. وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء. [البخاري في كتاب المناقب، 3554]. ورُوي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.

وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.

قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) [رواه الترمذي (558) وصححه الألباني].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِي سَفِينَةٍ وَكَانَ يَشُوبُهُ بِالْمَاءِ وَكَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ قِرْدٌ قَالَ فَأَخَذَ الْكِيسَ وَفِيهِ الدَّنَانِيرُ قَالَ فَصَعِدَ الذَّرْوَ يَعْنِي الدَّقَلَ فَفَتَحَ الْكِيسَ فَجَعَلَ يُلْقِي فِي الْبَحْرِ دِينَارًا وَفِي السَّفِينَةِ دِينَارًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ. [رواه أحمد (2 / 306 و 335 و 407) والحارث في (مسنده ((50 / 2 - زوائده) والبيهقي في (شعب الإيمان ((4 / 332 / 5307) السلسلة الصحيحة (6 / 826).

وأنشد أحدهم:

جمع الحرام على الحلال ليكثره *** دخل الحرام على الحلال فبعثره

ولقد خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من أن تفتح لهم بركات الأرض عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا) [البخاري في صحيحه ج 5/ ص 2362 حديث رقم: 6063)].

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْمَالُ (وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيان: قَالَ لِي: يَا حَكِيم، إِنَّ هَذَا الْمَالَ) خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) [أخرجه "أحمد(3/434 (15659) و"البُخَارِي(2/152(1472) و"مسلم(3/94(2351)].

فالغش والاحتكار والتعامل بالربا من أسباب محق البركة من الرزق؛ لأن الله - تعالى - يقول: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" [البقرة: 276)].

يقول سهل - رحمه الله -: من آكل الحرام: عصت جوارحه شاء أم أبى، ومن أكل الحلال أطاعت جوارحه ووفقت للخيرات.

[/color]

المشاهدات 5423 | التعليقات 1

6- الصدق والأمانة في التعامل:

الله - تعالى - يبارك في الإنسان الصادق الأمين باطنًا، وظاهرا، ولقد أحب الناس النبي - صلى الله عليه وسلم - لصدقته وأمانته حتى لقبوه بالصادق الأمين.

والصدق والأمانة في البيع والشراء بل وفي جميع المعاملات سبب لتحصيل البركة وحصول الخير، قال - تعالى -: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [(33) (34) سورة الزمر].

قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [(58) سورة النساء].

ولن تحصل البركة إلا مع وجود الصدق والأمانة، نْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، رَفَعَهُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) [أخرجه أحمد 3/402(15388) و"البُخَارِي(3/76(2079)].

قال الشاعر:

لا يكذب المرء إلاّ من مهانته *** أو عادة السّوء أو من قلّة الأدب

لبعض جيفة كلبٍ خير رائحةٍ *** من كذبة المرء في جدٍ وفي لعب

وقال آخر:

أد الأمانة، والخيانة فاجتنب *** واعدل ولا تظلم يطيب المكسب

قال النووي: روي أن جريرا - رضي الله عنه - اشترى له فرس بثلاثمائة درهم فقال جريرا لصاحب الفرس فرسك خير من ثلاثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة قال ذلك إليك يا عبد الله فقال فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة ثم لم يزل يزيد مائة مائة حتى بلغ ثمانمائة فاشتراه بها فقيل له في ذلك، فقال:" بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم". [القاري: مرقاة المفاتيح 14/216].

وأما أن يريد الإنسان الحصول على المكاسب بالأيمان والحلف الكاذب فإن ذلك ممحق للبركة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) [أخرجه " [البُخاري(2087 و"مسلم(4132].

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ: اذْهَبُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَ هَذَيْنِ، لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَرْوَى، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَتُرَوْنِي أَخَذْتُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا، أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ مِنْ الأرْضِ شِبْرًا، بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَمَنْ تَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَمَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ فَلَا بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهَا) [أخرجه أحمد 1/188(1640)].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ ائْتِنِى بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. قَالَ فَأْتِنِى بِالْكَفِيلِ. قَالَ كَفَى بِاللهِ كَفِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ في الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِى كَفِيلاً، فَقُلْتُ كَفَى بِاللهِ كَفِيلاً، فرضي بِكَ، وسألني شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، فرضي بِكَ، وَأَنِّى جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الذي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وإني أَسْتَوْدِعُكَهَا. فَرَمَى بِهَا في الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهْوَ في ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الذي كَانَ أَسْلَفَهَ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ التي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا في طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الذي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَىَّ بشيء قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى جِئْتُ فِيهِ. قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الذي بَعَثْتَ في الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا. [أخرجه أحمد 2/348(8571) والبخاري تعليقًا في 2/159(1498)].

وقد حكى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة ثلاثة من الأمناء الذين كانت الأمانة سبباً في نجاتهم، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ اللَّهُمَّ كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِى فِى طَلَبِ شَىْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَىَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ. قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِى بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَىَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِى فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الذي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجَ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إني اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الذي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فجاءني بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِى. فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِى. فَقُلْتُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ) [أَخْرَجَهُ أحمد 2/116(5973) و"البُخَارِي(3/119(2272) و"مسلم(8/91(7051)].

7- العدل وعدم الظلم:

الظلم وعدم العدل سبب مهم لنزع البركة من الأشياء، فالله - تعالى -قد أمرنا بالعدل والإحسان في كل الأمور، قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [(90) سورة النحل].

قال الشاعر:

لا تظلمن إذا كنت مقتدرا *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: جَاءَ أعرابي إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلاَّ قَضَيْتَنِى فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا وَيْحَكَ تَدْرِى مَنْ تُكَلِّمُ قَالَ إِنِّى أَطْلُبُ حقي فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ فَقَالَتْ: نَعَمْ بأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَقْرَضَتْهُ فَقَضَى الأعرابي وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ فَقَالَ: أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ. [أخرجه ابن ماجة (2426) حديث رقم: 4597 في صحيح الجامع].

قيل: وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر، وهي في صرةٍ مكتوب عليها: "هذا كان ينبت في زمن العدل.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمر أمتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ. وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أمر أمتي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ) [أخرجه أحمد 6/93 و"مسلم(6/7].

ولما جيء بالهرمزان ملك خوزستان أسيرا إلى عمر - رضي الله عنه - وافق ذلك غيبته عن منزلة فما زال الموكل بالهرمزان يقتفى أثر عمر حتى عثر عليه في بعض المساجد نائما متوسدا درته فلما رآه الهرمزان قال هذا والله الملك الهنيء عدلت فأمنت فنمت والله إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحد منهم هيبتي لصاحب هذه الدرة. [الغزالي: التبر المسبوك ص 21].

قال حافظ إبراهيم:

وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا *** بين الرعية عطلا وهو راعيها

وعهده بملوك الفرس أن لها *** سورا من الجند و الأحراس يحميها

رآه مستغرقا في نومه فرأى *** فيه الجلالة في أسمى معانيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا *** ببردة كاد طول العهد يبليها

فهان في عينه ما كان يكبره *** من الأكاسر والدنيا بأيديها

و قال قولة حق أصبحت مثلا *** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها

أمنت لما أقمت العدل بينهم *** فنمت نوم قرير العين هانيها

خرج الأمير شروان للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماء، فقال: ليس عندنا ماء قال ادفع لي رمانة فدفعها إليه فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها حامضة فقال أما هي من الشجرة الأولى قال نعم قال كيف تغير طعمها قال لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها أحسن من الأولى فقال كيف صلحت قال بصلاح نية الأمير (نزهة المجالس ومنتخب النفائس، للصفوري صـ 7).

قال ابن أصبغ الهمداني والفتح في (المطمح (كان الناصر كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها وانبساط أمرها واستجلابها من أبعد بقاعها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلو الهمة فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره الذائع خبره المنتشر في الأرض خبره واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع فابتدأ في أول خطبته بقوله - تعالى -: (أتبنون بكل ريع) إلى قوله - تعالى -: (فلا تكن من الواعظين) [الشعراء] ثم وصله بقوله فمتاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى وهي دار القرار ومكان الجزاء ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زخرفته والإسراف في الإنفاق عليه بكل جزل وقول فصل قال الحاكي فجرى فيه طلقا وانتزع فيه قوله - تعالى -: (أفمن أسس بنيانه) [التوبة 109] إلى آخر الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية والحض على اعتزالها والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات ونهى النفس عن إتباع هواها فأسهب في ذلك كله وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله وخشعوا ورقوا واعترفوا وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله - تعالى -في التوبة والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على ما سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرعه به فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر وقال والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري فأسرف علي وأفرط في تقريعي ولم يحسن السياسة في وعظي فزعزع قلبي وكاد بعصاه يقرعني استشاط غيظا عليه، فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة بالزهراء، وقال له الحكم: فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟! فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله - تعالى - فما أظننا نعتاض منه أبدا، وقيل: إن الحكم اعتذر عما قال منذر، وقال: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، وما أراد إلا خيرا، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت، وفرش ذلك المسجد بأصناف فرش الديباج، وأمر بالأطعمة، وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء، وغص بهم المجلس، فدخل منذر في آخرهم، فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: يا أمير المؤمنين إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطى الرقاب، فجلس في آخر الناس، وعليه ثياب رثة، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاما من كلام المنذر يأتي قريبا، وقحط الناس آخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك، وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة، واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة، بارزين إلى الله - تعالى - في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله - تعالى - والضراعة له، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا، وقام ليخطب فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وابتهالهم إليه - رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت ووقف شبه الحصر، ولم يك من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تاليا قوله - تعالى -: (كتب ربكم على نفسه الرحمة...) [الأنعام 54] ثم قال: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا)، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحة لديه، قال الحاكي فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته، ففزع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر، روى الثرى، وطرد المحل، وسكن الأزل، والله لطيف بعباده، وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب، ومنه أن قال يوما - وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا إليه بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي -: (يا أيها الناس) وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم: (أنتم الفقراء إلى الله) [فاطر 15] إلى: (بعزيز) فاشتد وجد الناس، وانطلقت أعينهم بالبكاء، ومضى في خطبته، وقيل: إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء واشتد عزمه عليه فتسابق الناس للمصلى، فقال للرسول - وكان من خواص الناس - ليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين، لن يفوتك شيء مني.

قال الحاكي: فتهلل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله وقال: يا غلام احمل المطر معك، فقد أذن الله - تعالى - بالسقيا إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا. [راجع: الفتح الاشبيلي: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس 1/130، أحمد بن المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/573].

8- القرآن والدعاء والاستغفار:

القرآن الكريم منبع الخير والبركة في حياتنا، ولقد جاء وصف البركة له في أكثر من موضع، قال - تعالى -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [(92) سورة الأنعام].

وقال - تعالى -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [(155) سورة الأنعام].

وقال - تعالى -: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)[(50) سورة الأنبياء].

قال ابْنَ رَوَاحَةَ - رضي الله عنه -:

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا *** انْشَقَّ مَعْرُوفٌ من الْفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا *** بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ *** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ

فالقرآن فيه الشفاء والدواء، قال - تعالى -: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [(82) سورة الإسراء].

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (يَقُولُ الرَّبُّ - عز وجل - مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِى عَنْ مَسْأَلَتِى أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِى السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ) [أخرجه الدَّارِمِي (3359) والتِّرْمِذِيّ(2926 حديث رقم: 6435 في ضعيف الجامع].

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، يُظِلاَّنِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَايَتَانِ، أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ، كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ، الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلاً)[أخرجه أحمد 5/348(23338) و"الدارِمِي(3391 و"ابن ماجة(3781)].

عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ وَيَتَّسِعُ بِأَهْلِهِ وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لاَ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ، وَيَضِيقُ بِأَهْلِهِ وَيَقِلُّ خَيْرُهُ. [مصنف ابن أبي شيبة 10/486].

وأما المداومة على ذكر الله - تعالى - ففيه الخير والبركة، وتركه فيه الضنك والضيق، قال - تعالى -: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [سورة طه].

فالدعاء وذكر الله - تعالى - من أسباب البركة، فها هو الزبير بن العوام قد أوصى ولده عبد الله أن يقضي دينه الذي يبلغ ألفَ ألف ومائتي ألف -يعني مليونا ومائتي ألف- وقد قال لولده عبد الله: "يا بني إن عجزت عنه في شيءٍ فاستعن عليه بمولاي، فوالله ما وقعت في كربةٍ من دينٍ إلا قلت: يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه"، وكان لم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين له، ودارت الأيام وبارك الله في أرض الزبير وبيعت، فبلغت تركة الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف -يعني خمسين مليونًا ومائتي ألف- وكان له أربع نسوة، فصار نصيب كل واحدةٍ منهن ألف ألف ومائتي ألف -يعني مليونا ومائتي ألف- كمقدار الدين الذي عليه. [هذه القصة رواها البخاري في صحيحه 3/1173].

عن عَلِىِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) [أخرجه أحمد 1/248(2234) و"أبو داود(1518 و"النَّسائي في "عمل اليوم والليلة(456)].

قال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة، فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله - تعالى -يقول في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [تفسير القرطبي 18/302).

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ) [أخرجه أحمد 3/346(14788) و"البُخَارِي"، في (الأدب المفرد) 1096 و"مسلم(6/108(5310)].

قال الشاعر:

وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ *** عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا

وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ *** أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا

وقال الشيخِ المَكُّوديَّ:

إذا عرضت لي في زمانيَ حاجةٌ *** وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصدُ

وقفت بباب الله وقفةَ ضارعٍ *** وقلت: إلهي إنني لك قاصدُ

ولست تراني واقفاً عند باب مَنْ *** يقول فتاهُ: سيديْ اليومَ راقدُ

9- الصدقة والبر وصلة الرحم:

الصدقة سبب في طهارة المال وتزكيته وبركته، قال - تعالى -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [(103) سورة التوبة].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ)[أخرجه أبو داود (1609) و"ابن ماجة(1827)].

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ، إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلاَ آبَتْ شَمْسٌ قَطُّ، إِلاَّ بُعِثَ بِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ، إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا مَالاً تَلَفًا) [أخرجه أحمد 5/197(22064)].

وأما ترك دفع الزكاة لمن يستحقها فإنه يكون سبباً في محق البركة من الرزق، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الِّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)[أَخْرَجَهُ ابن ماجة (4019) الألباني في "السلسلة الصحيحة(1 / 167)].

وهذه قصة حكاها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين أن البركة تنزع من المرء إذا لم يشكر الله - تعالى -على نعمه ومنع الناس مما أعطاه الله إياه من نعم، فعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِنَّ ثَلاَثَةً في بني إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ أي شيء أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى الذي قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ. قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ فأي الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ شَكَّ إِسْحَاقُ إِلاَّ أَنَّ الأَبْرَصَ أَوِ الأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ وَقَالَ الآخَرُ الْبَقَرُ قَالَ فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الذي قَذِرَنِى النَّاسُ. قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ. فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أي شيء أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ فأي الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ. فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِي الْحِبَالُ في سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ لي الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بالذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ في سَفَرِي. فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ وَأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ في سفري فَلاَ بَلاَغَ لي الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بالذي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سفري فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بصري فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رضي عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ) [أخرجه البخاري 4/208(3464) و"مسلم(8/213)].

وأما الصدقات فأثرها في الخير عظيم وفي البركة عميم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ) [أخرجه التِّرْمِذِي (664)].

روى عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة، وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله - عز وجل - من الجزاء والعوض) [سير أعلام النبلاء 11/491].

يقول أبو العلاء:

ياقوتُ ما أنتَ يا قوتٌ ولا ذهبُ *** فكيف تُعجِزُ أقواماً مساكينا

واحسبُ الناس لو اعطوا زكاتهُمُ *** لما رأيت بني الإعدام شاكِينا

فإن تعِشْ تبصر الباكين قد ضحكوا *** والضاحكينَ لِفُرطِ الجهل باكينا

لا يتركن قليلَ الخير يفعلُه *** من نالَ في الأرض تأييداً وتمكينا

ومن البر الذي يكون سبباً في البركة إطعام الطعام، قال - تعالى -: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)) [سورة الإنسان].

عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ وَقِيلَ قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاَثًا فَجِئْتُ فِى النَّاسِ لأَنْظُرَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلَ شيء سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ) [أخرجه أحمد 5/451(24192) و"الدارمي(1460 و2632 و"ابن ماجة(1334الألباني في "السلسلة الصحيحة(2 / 109)].

عَنْ أَنَسٍ، أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ، وَلَمْ يُسْمِعِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى سَلَّمَ ثَلاَثًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلاَثًا، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا سَلَّمْتَ تَسْلِيمَةً إِلاَّ هِيَ بِأُذُنِي، وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلاَمِكَ، وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ، فَقَرَّبَ لَهُ زَبِيبًا، فَأَكَلَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ) [أخرجه أحمد 3/138(12433) وأبو داود (3854)].

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، فِي طَعَامِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ فِيهِ: فَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى الْبَابِ، حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، قَالَ: هَلُمَّهُ، فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ)[أخرجه مُسْلم 6/120(5370)].

عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ)[أخرجه "أحمد(1/293(2672) و"مسلم(6/114(5348)].

وكذا من وسائل وأسباب تحصيل البركة صلة الرحم، قال - تعالى - محذراً من قطيعة الرحم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) [سورة محمد].

عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) [أخرجه أحمد 3/247(13620) و"البُخَارِي(3/73(2067) و"مسلم(8/8(6615)].

عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (صِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقُ يُعَمِّرْنَ الدِّيَارَ وَيَزِدْنَ فِي الْأَعْمَارِ) [أخرجه أحمد (6 / 159)حديث رقم: 3767 في صحيح الجامع].

قال الشاعر:

رَأَيْت صَلاَحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ *** وَيُعْدِيهِمْ عِنْدَ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ

يُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلاَحِهِ *** وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الأهل وَالْوَلَدْ

وقال آخر:

وحَسْبُكَ من ذلٍّ وسوءِ صنيعةٍ *** مناواةُ ذي القربى وإن قيل: قاطعُ

ولكنْ أواسيه وأنسى عيوبَه *** لِتُرْجِعَهُ يوماً إليَّ الرواجعُ

ولا يستوي في الحكِم عبدانِ: *** واصلٌ وعبدٌ لأرحامِ القرابةِ قاطعُ

10- القصد وعدم الإسراف:

أمرنا الإسلام بالقصد والاعتدال ونبذ التبذير والإسراف، قال - سبحانه -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وقال - سبحانه -: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [(30) سورة الإسراء].

وعَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ الآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا، فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ) [أخرجه النَّسَائِي في الكبرى 6737. (صحيح) انظر حديث رقم: 5674 في صحيح الجامع].

عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا والْبَسُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلاَ سَرَفٍ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ) [أخرجه أحمد 2/181 (6695) و"ابن ماجة(3605 و"التِّرمِذي(2819)].

ولذا فقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى " [أخرجه النَّسَائِي 3/54)].

عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتَبُ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ أن اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) [المعجم الكبير للطبراني 15/316 (صحيح) انظر حديث رقم: 1749 في صحيح الجامع].

فالسرف والتبذير طريق إلى الترف الذي يكون سبباً في محق البركة من الرزق وشيوع الفساد والفجور، قال - تعالى -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [(16) سورة الإسراء].

قال الرازي في تفسيره: (في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا في تفسير هذا الأمر قولان:

القول الأول: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه - تعالى - بماذا يأمرهم فقال الأكثرون: معناه أنه - تعالى - يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب «الكشاف»: ظاهر اللفظ يدل على أنه - تعالى - يأمرهم بالفسق فيفسقون، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال: والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ فَفَسَقُواْ يدل عليه يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول: إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق. [تفسير الرازي 10/20].

أما الاقتصاد وعدم الإسراف سبب في تحصيل البركة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ) [أخرجه أحمد 1/447(4269) (ضعيف) انظر حديث رقم: 5101 في ضعيف الجامع].

يقول الشاعر:

يُميت الطعام القلب إن زاد كثرةً *** كزرع ٍ إذا بالماء قد زاد سقيُه

وإن لبيبا يرتضي نقص عقله *** يأكل لقيمات ٍقد ضلَّ سعيه

وقال أحمد بن محمد البراثي: (قال لي بِشر ابن الحارث لما بلغه ما أنفق من تركة أبينا: قد غمني ما أُنفق عليكم من هذا المال؛ ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة؛ فلأن تبيتوا جياعاً ولكم مال أعجبُ إليّ من أن تبيتوا شباعاً وليس لكم مال، ثم قال له: اقرأ على والدتك السلام وقل لها: عليك بالرفق والاقتصاد في النفقة [عيون الأخبار، لابن قتيبة (1/351)].

فالسرف والتبذير قد يكونان السبب في زوال النعمة عن العبد وفي تحولها عنه، فهذا هو المعتمد ابن عَبَّـاد كان من ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجته وبعض بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوضع في ساحة قصره، ورُشَّ عليه ماء الورد وأنواع من الطيب، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛ فتخوَّضت فيه أسرته المترفة. وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر وألم الجوع؛ إذ استولى يوسف بن تاشفين على مملكة ابن عباد، وكان النسوة اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن الذي لا يسد إلا بعض جوعهن.

وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غر