الانتصارات الرمضانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعز من يشاء بفضله، ويذل من يشاء بعدله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه في الأولين، وصلى الله عليه في الآخرين، وصلى الله عليه في الملإ الأعلى إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[.

إخوة الإيمان والعقيدة ..كم لله U علينا من نعم ظاهرة وباطنة أسبغها علينا، وكم لله عز وجل من خير وفضل أفاض به علينا، واختص به أمة الإسلام دون غيرها من الأمم، ولو يعلم الناس ما عند الله عز وجل في شهر رمضان من الرحمات والبركات والخيرات، ما فرَّط المفرِّطون، وقصَّر المقصرون، وغفل عن ذكره الغافلون.

لم يكن شهرُ رمضان عند سلفنا الصالح شهرَ النوم، والكسل، بل كان شهر جهاد، ومجاهدة، ودعوة، وعمل، شهر ضحى فيه المسلمون بأنفسهم، وأموالهم، ووقتهم، وصحتهم، ولكم أن تسألوا التاريخ عن الأمجاد التي تحققت في هذا الشهر العظيم؛ لأن الأمة التي لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها.

ففي السنة الثانية للهجرة، وتحديدًا في السابع عشر من شهر رمضان؛ وقعت غزوة بدر الكبرى، والتي انتهت بالنصر المؤزّر للإسلام والمسلمين، وبفضل الله ثم بفضل هذه الغزوة أصبح للمسلمين دولة معترفٌ بها، وقوةٌ لا يستهان بها، بعد أن كانوا مهدّدين من قبلِ قبائلِ المشركين، وصدق الله القائل ]وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[.

وفي مثل هذا الشهر فتح الله بيته لنبيه فتحًا مبينًا، وطهّره من الشرك، والكفر، والظلم، والاستكبار، فكان فتح مكة حدثًا عظيمًا على مستوى تاريخ البشرية كلها، وبهذا الفتح أعز الله U دينه، ورسوله ﷺ، وحزبه، وبه استنقذ بلده وبيته من أيدي الكفار والمشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فانحسرت الوثنية في جزيرة العرب.

وفي مثل هذا الشهر – شهر رمضان- بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد t لهدم صنم العُزى، وفيه ذهب عمرو بن العاص t ليهدم صنم سُواع، وفيه ذهب سعد بن زيد t ليهدم صنم مناف.

وفي شهر رمضان سنة ثلاث عشرة للهجرة وقعت موقعة البويب بقيادة المثنى بن الحارثة رحمه الله، وكان عدد المسلمين في هذه الموقعة ثمانية آلاف، ضد الفُرْسُ وعددهم مائة ألف، فثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، وأبلوا بلاءً حسنًا، وانتصروا انتصارًا رمضانيًّا مذهلًا.

وفي هذا الشهر العظيم وقعت معركة القادسية سنة خمس عشرة للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص t.

وفي رمضان فتحت جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط سنة ثلاث وخمسين للهجرة على يدي جنادة بن أبي أمية الأَزْدِي – رحمه الله -، وعلى الرغم من الصعوبة الشديدة لم يؤخِّر المسلمون القتال إلى ما بعد رمضان.

وفي رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة تم اكتشاف إمكانية فتح الأندلس بقيادة طريف بن مالك – رحمه الله -.

وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين للهجرة وقعت معركة في أرض الإسبان بقيادة طارق بن زياد – رحمه الله -، وكان عدد الصليبيين مائةَ ألف، وعدد المسلمين اثنا عشر ألفًا، فانتصر المسلمون على الصليبيين انتصارًا عظيمًا، وإلى الآن تذوق أوروبا مرارتها، وصدق الله القائل ]كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ وعلى إثر هذه العركة تغيَّر تاريخ المنطقة في شمال إفريقيا، وأوربا.

وفي شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة حدثت موقعة عين جالوت بقيادة سيف الدين قطز رحمه الله على جحافل التتار.

وفي شهر رمضان سنة سبع وخمسين وثمانمائة للهجرة فتحت القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله.

هكذا سطّر المسلمون انتصاراتهم في شهر رمضان، وكلما جاء الشهر الفضيل تذكّرنا هذه الانتصارات، فلله الحمد والمنّة، ونسأله المزيد من فضله، ونصره لأمة الإسلام.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون،

 

 

الحمد لله رب العالمين ...

معاشر المؤمنين .. عندما يُذكر الانتصار في رمضان ينصرف الذهن مباشرة إلى الانتصارات العسكرية التي حققها المسلمون على أعدائهم في هذا الشهر، وهذا حق، ولكن مجالات الانتصار في رمضان بالنسبة للمؤمن لا تقتصر على هذا الجانب فقط، بل منها ومن أعظمها الانتصار على النفس، ومجاهدتها والارتقاء بها في مدارج الطاعات.

ومن ذلك اغتنام الأجواء الروحانية التي يصنعها رمضان بنفحاته، ورحماته، وجوائزه، ومآثره التي يغدقها المولى U فيه على عباده المؤمنين الصائمين، فرمضان شهر الصبر والتقوى، وبالصبر والتقوى يحقق العبد أولى درجات النصر الكبرى وأسبابه، قال الله تعالى ]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[ فإذا صبرت الأمة، واتقت الله U وقّاها شر عدوها، ودافع عنها ]إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ[.

أيها المسلمون .. إن مدرسة الصيام محطة مهمة ليجعل العبد المؤمن لنفسه فيها خطة عمليّة لتحقيق الانتصارات بمفهومها الشامل: الانتصار على الشيطان، والشهوات، والشبهات، والرياء، والبخل، وسوء الخلق من غضب، من كذب، وغيبة، ونميمة، فمعركة الشهوات قضية مصيرية بالنسبة للمؤمن؛ لأنه إن انهزم فيها، وفشل في مقاومتها، وسلم العنان والخطام لها؛ أدى به ذلك إلى الانهزام في كل معاركه الأخرى، فالشهوات حواجز تحجز عنه موارد التوفيق، وصوارف تصرفه عنه النجاح في أمر آخرته، ووالله ما انتصر أسلافنا على أعدائهم إلا بعد ما انتصروا في معركة الشهوات، وما انهزم من بعدهم، وانكسرت شوكتهم؛ إلا لما استسلموا لشهواتهم، وانهزموا أمامها، وفي مأساة الأندلس شاهد ودليل على ذلك.

يجب علينا أن ننصر الله تعالى بأقوالنا، وأعمالنا، وقلوبنا ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[.

وصلى الله على نبينا محمد

المشاهدات 385 | التعليقات 0