الانبهار بحضارة الغرب وفقدان الهوية
أحمد المقبل
الانبهار بحضارة الغرب وفقدان الهوية 8/5/1444هـ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أعز أهل الإيمان بطاعتِه ، وأذل أهل الشرك بمعصيته ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد : أيها المسلمون : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) .
عباد الله : الأمثال تقرّب المفاهيم ، فهذه سفينةٌ ضخمة أنيقةٌ جميلة . رُتِّب فيها أماكنُ للطعام ، وأماكنُ للنوم ، وأماكنُ للّعِب ، وأماكنُ للتسلية ، وأخذ صانعُها يدعو الناسَ إلى ركوبها ، وأخذ يشرح لهم كيف يأكلون ، وكيف يشربون، وكيف يرقدُون، وكيف يلعبون. حتى إذا سأله أحد الركاب : أين تذهبُ بنا هذه السفينة ؟ أجاب : لا أدري . اركبوا فقط .!!!
لا هدف ،لا غاية ،لا مقصد ، إلا إرضاء الشهواتِ والغرائزِ . وما بعد ذلك فهو مجهول .
ولك أن تتخيلَ شخصاً بسيطاً يركبُ قاربَه الصغير رأى هذه السفينةَ . كيف ستكون نظرته إلى هذا البناءِ المبهِر ؟ لاشكّ أنه سينظر إليه بإعجابٍ وانبهار . انبهارٌ لبنائها ، و أضوائها ، وفخامتِها ، وزخارفِها . ولكن هذا المسكين – وهو في قارَبِه الصغير - لا يدري أن هذا البناءَ المبهر، يسيرُ على غيرِ هدى ، وأن مصيرَه الغرقُ لا محالة . إنه الهلاك ، ولكنه الهلاكُ البطيء .
كذلك نظر المنبهِرين من أبناءِ أمتِنا إلى حضارةِ الغربِ المادية بنفس درجةِ انبهارِ راكبِ القارَبِ الصغير للسفينةِ العملاقة . ونسى هؤلاء أن حضارتَهم بلا هدف ، عُنيت بالجسد وأهملت الروح .
أقْبِلْ على النفسِ فاستكمل فضائلَها فأنت بالروحِ لا بالجسمِ إنسان
ولقد حاول بعضُ الكتابِ المنهزمين في العقودِ الأخيرة ، أن جعلوا الحضارة المادية غايةً في حدِّ ذاتِها وحاول بعضهم عسْفَ النصوص ، وجعْلَ وظيفةِ الإنسان عِمارةَ الأرضِ والرّفاه .
والآياتُ كثيرة في بيانِ مركزيةِ الآخرة ، وذمِّ الدنيا والرَّفَاه ، وبيانِ انحطاطِ الكافر ،وأنه في منزلةِ الأنعامِ والدواب ، واعتبارِ علوم الكفار علوماً ظاهرية وغيرِها كثير، لا تستطيعُ أن تقاومَها كلُ تَعسُّفاتِ هؤلاء الكتاب.
وظيفةُ الإنسانِ الحقيقية ،هي العبودية ، بمعنى أن الله خلق الناس ،وأرسل الرسل ،وأنزل الكتب ،لتدلَّ الناسَ على اللهِ وعبادتِهِ وما ينبغي له. وبيانِ تعظيمِ حقوقِ العباد ، وأَن كلَّ ما في هذه الدنيا متاعٌ ولعبٌ ولهو ، فيجب أن يُستعان بما يُحتاج منها على عبوديةِ الله ، فالعِمارةُ والحضارةُ ،مجردُ وسيلةٍ لإظهارِ الدين وإقامةِ الشعائر ، فلا يُحمد منها إلا ما حقق هذه الغاية.
والشرعُ الحكيم لم يجعلْ هذه القضيةَ عائمةً أو محتمَلة ، بل حسَمها بشكلٍ يقينيٍ واضحٍ صريح ، وكشَف الغايةَ من خلقِ الإنسان بلغةٍ حاصرة ، فقال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
أيها المسلمون : النصوصُ الشرعية بكلِّ وضوحٍ وصراحة ، وبلا مجاملةٍ ولا التفاف ، تجعل الحضارةَ بالمعنى الشائع والتي هي العلومُ المدنيةُ ، هي قيمةٌ ذاتُ مَرتبةٍ تَبَعيةٍ في الوحيِ الإلهي ، وليست الغايةَ الرئيسية ، أو القضيةَ المركزية ، كما يحِبُّ البعضُ أن يتظاهرَ بذلك .
الإسلامُ في نسختِه الحقيقيةِ الصادقة ، لا الإسلامُ الذي يميلُ إلى سَماعِه المخاطَبون .
لقد جاء القرآنُ بشكلٍ واضح بتأسيسِ مركزيةِ الآخرة ، في مقابِلِ مركزيةِ الدنيا ، بل إنّ بيانَ القرآن لخطرِ الدنيا في إضلالِ الناسِ عن الله ، أكثرُ من بيانِهِ بوجوبِ عُمرانِها أصلا ، فالدنيا في التصورِ القرآني هي مجردُ وسيلةٍ خطِرة يجب التعاملُ معها بحذر ، خوفاً من أن تجرفَنا عن الحياةِ المستقبليةِ اللانهائية في الدار الآخرة .
إن أبرزَ مبادئِ العقلانية تقديمُ المصلحةِ المؤبّدة على المصلحةِ المؤقتة .
ولذلك جاء القرآنُ للتأكيدِ على هذه الحقيقةِ العقلية ، وتعزيزِ مقتضاها ، فقدّم سعادةَ الآخرةِ الباقيةِ المؤبدة ، على متعةِ الدنيا الفانيةِ المؤقتة .
أيها المسلمون : إن كثيراً من النخبِ المثقفة يشعرُ بالتبرُّم حين يسمع كلامَ القرآنِ في ذمِّ الدنيا ، لأنهم يخشونَ أن ينصرفَ الناسُ عن هذه الوسيلة، فنبقى مجتمعاً ضعيفا ، وهذا نوعٌ من الاستدراكِ على الله.
وكثيراً ما يشيرُ القرآنُ إلى أن كلَّ ما على الأرض ، ليس المرادُ به رَفاهَ الإنسان ، وإنما المرادُ به ابتلاءَ الناسِ وامتحانَهم ، هل يؤمنونَ ويُقبلونَ على الله ؟ أم يُعرضونَ عنه ؟ كما قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) .
وحين يَعرِض اللهُ الصورةَ الراقيةَ للمؤمن ، يؤكّد أنه ذلك الرجل الذي لا يُشغله النشاطُ الاقتصادي عن الغايةِ الحقيقيةِ العبادية ، وأن الدنيا في يدِه ، لا تعظيمَ لها في قلبِه (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) .
ونبّه اللهُ في مواضعَ كثيرةٍ من الوحي على أن المنزلةَ الحقيقيةَ عند الله ، ليست في المظاهرِ المادية ، فقال تعالى : (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) .
وما ذلك كلُّه إلا لتفاهةِ الممتلكاتِ الماديةِ في ميزانِ الله ، وقد كشَفَ اللهُ في مواضع َكثيرة تفاهةَ هذه المظاهرِ الماديةِ من وجوهٍ متعددة ، فلا تخلو طائفةٌ من آياتِ القرآن إلا وفيها التنبيهُ على حقارةِ الدنيا ، وأنها مجردُ لعِبٍ ولهْوٍ ومتاعٍ و زينة ، والجامعُ بين هذه الأوصافِ كلِها هو كونُها لذةً مؤقتة .
والمتأملُ في واقعِ الناسِ اليوم ، يجدُ كلَّ ضلالٍ فكري وانحرافٍ سلوكي ، مَنشأهُ تعظيم الدنيا ،( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .
ولذلك كثُرت موازنةُ القرآن بين المنجَزِ الدنيوي ، والمنجَزِ الأُخروي ،كقوله تعالى :(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
وفي موضعٍ آخر، يصفُ الدنيا بأنها لعبٌ ولهْو في مقابلِ الحياةِ المستقبليةِ الحقيقية ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
وفي مشهدِ انتقاصٍ من تلك الشخصياتِ التي امتلأت قلوبُها فرَحاً ولهَجاً بالمنجزاتِ المادية ، يقول تعالى : ( وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) .
ويشيرُ تعالى إلى أَن كلَّ هذه الممتلكاتِ المادية ، سَيودِّعها أصحابُها مع أولِ خُطوةٍ في طريقِ الحياةِ المستقبلية ، ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ).
والنبي ﷺ بُعث إلى الناس وفي عصرِه عددٌ من الإمبراطورياتِ الكبيرة ، والعلومُ المدنية قُبيل مبعثِه بلغت شأواً عالياً في الهندسةِ والطبِ وفنونِ العِمارةِ وغيرِها، ومع ذلك كلِّه ، لـمّا بَعث الله نبيَه في جزيرةِ العرب ، لم يبعثْه ليقولَ للناس : اعرفوا قدرَ أنفسِكم أمامَ الحضاراتِ الأخرى .
كلّا لم يحدث ذلك ، بل إن الله أخبر نبيَه بعكسِ ذلكَ تماما ، فقد أخبر نبيَه عن القيمةِ المنحطّة في ميزان الله لكلِّ تلك المدنيات التي عاصرت بعثتَه ، ووصفها القرآنُ بالضلال بكل ما تضمنته قوتُهم وعلومُهم ومدنيتُهم ، بل وأخبرنا سبحانه وتعالى بأنه يُبغضهم ويمقُتُهم ويكرههُم ، سواءً كانوا أدباءَ العرب ، أم أطباءَ الصين ، أم حكماءَ الهند ، كما روى مسلمٌ في صحيحِه أن رسول الله ﷺ قال : (وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ). فمع كلِّ ما عندهم من علومٍ ومدنية ، فإنهم لا وزنَ لهم في ميزانِ الله ، ولم يستثنِ منهم إلا طائفةً قليلة ، بسببِ ما كان لديهم من بقايا النبوات وبعضٍ من أثارةِ الوحي ، فبقايا النبوات هي نوافذُ التنويرِ الحقيقيِ في الأرض .
( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ).
فحَكَم الله تعالى على كُلِّ البشرية قُبيل مَبعثِه بأنها في ظلمات ، وأن التنويرَ الذي تحتاجُه هو نورُ الوحي، وأكّد سبحانه وتعالى هذا الأمر مراراً في كتابِه ، وسيبقى مَنْ أعرض عن هذا الوحي مرتكساً في ظلماتِه،مهما أوتي من العلوم المدنية ، يقول تعالى:(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ)
وهذا الانتقاصُ والاستعلاءُ الشرعي على المنجزاتِ الحضارية قُبيل مبعثه ، ليس ذماً لتلك المنجزاتِ لذاتها ، وإنما لأن أصحابَها لم يَتَـزَكوا ويَتَنَوّروا بالوحيِ والعلومِ الإلهية ، فلم يَصِلوا إلى الرُقِيِّ الحقيقي ، وهو مرتبةُ العبودية ، وإنما بَقُوا في حضيضِ المنافسةِ الدنيوية.
والحقيقة أن هذا الموقفَ النبوي من أدقِّ ما يبينُ أن الانتفاعَ بما لدى الغير لا يقتضي الانبهارَ بهم ، وأن الذمَّ لواقعِهم لا يتعارضُ مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالةُ المؤمن .
أيها المسلمون : إن منهجَ التعامل الذي يُحبه الله ويرضاهُ من المسلم إزاء الحضاراتِ الأخرى ، هو أن ينتفعَ بما لديها مما يعزّزُ غايتَه، كما انتفع النبيُ ﷺ وأصحابُه ؛ لكن لا يقعُ في تعظيمِها والانبهارِ بها مع ظلالـِها عن الإسلام ، بل يعي تخلّفَها وانحطاطَها وظلاميتَها ، كما وعى ذلك النبيُّ ﷺ و أصحابُه ، وحاجتَها للتنويرِ الحقيقي الذي لا يكونُ إلا بالإسلام .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فويلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذكرِ اللهِ أولئك في ضَلالٍ مُبين ) . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ......
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين ، وجعلنا من خيرِ أمةٍ أخرجت للناس ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين .
أيها المسلمون : إن مِن أشَدّ ما يفتنُ الناسَ عن حقائقِ الوحي ، أنه يغلبُ على الرسلِ وأتباعِهم أنهم لا يملكون مظاهرَ القوةِ المادية التي يتمتع بها غيرُ المسلمين ، وهذه سُنّةٌ كونيةٌ متكررة ، ولو كان الأنبياءُ وأتباعُهم يتمتعون بالمواردِ المادية والميزانياتِ الضخمة ؛ لما تخلّف عن مساجدِهم فردٌ واحد ، فالرسول الأول نوحٌ عليه السلام قال له قومُه : ( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) .
وتكرر ذلك بعده الى زمنِ خاتَمِ النبيين (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) والحقيقة أن النبي ﷺ لو كان يتربّعُ على عرشِ القوةِ ، لما تخلّف من خصومِه أحد ؛ لا للحقِّ الأخرويِّ الذي معه، ولكن للقوةِ الدنيويةِ التي بين يديه ، وأيُّ معنى لاختبار وامتحان وابتلاء في اتّباعِ القويِّ المسيطِر !!
ولذلك لما كان نبيُّ الله سليمان عليه السلام مَلِكاً في الأرض ، بيدِه أدواتُ النفوذ ، لم يتخَلّف عن الإيمانِ به أحد ، لا من الجنِّ ولا من الإنس .
ولقد كان هِرَقل كبيرُ الروم مطّلعاً على تاريخِ النبوات ،حينما سأل أبا سفيان ،كما في الصحيحين (وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ )
وقد كان النبي ﷺ يقلق على أصحابِه أن يكون فارقُ الإمكانياتِ المادية بين المجتمع المسلمِ والكافر مثارَ شبهةٍ على إيمانهم، وفي تلك القصة التي نقلها عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه ،لـمّا رأى الأثاثَ الداخلي لبيتِ النبي ﷺ وأثــَـرَ الحصيرِ على جنبِه ، وردِّ فعلِ النبي ﷺ ، دلالاتٌ بليغة في بيان ذلك ، حيث روى الشيخان عنه قال :
فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلاَّ أُهُبًا ثَلاَثَةً فَقُلْتُ : ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ : « أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »
وفي لفظ ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولك الآخرة )
وما أنِ انتهى عصرُ النبوة ، وبدأ عصرُ الخلافةِ الراشدة ، إلا وفُتِحت الفتوح ، وانهالت الأموال ، وازداد التقدّم المدني ، فالمـُلْكُ العباسي أكثرُ تمدّناً من المـُلْكِ الأموي ، والمـُلْكُ الأموي أكثرُ تمدّناً مادياً من عصرِ الخلافةِ الراشدة ، وإذا تأملت الخيريةَ في الناس وجدتَها عكسَ ذلك تماماً ، ففي الصحيحين أنَّ النَّبِي - ﷺ - قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) فالبرهان التاريخي أثبتَ أن المدنيةَ في تتصاعد ، والبرهانُ الشرعي أثبتَ أن الخيريّةَ تتناقص ، وهذه المقارنة من أعظمِ البرهان على أن الحضارةَ المادية ليست هي المقياسُ الإلهي لقيمةِ المجتمعاتِ والأمم ، وأن الخيريةَ مرتبطةٌ بالجوهرِ الإيمانيِ والأخلاقي ، وليس المظاهرَ المادية .
أيها المسلمون : إن الانبهارَ يؤدي إلى الهزيمةِ النفسية واحتقارِ الذات ، وما نرى من بعضِ أبنائِنا - هداهم الله- من التقليدِ للكفار بقصاتِ شعورِهم أو حلقِ لحاهم أو لبسِ الأساورِ والملابسِ الممزّقة والبناطيل القصيرة ، واتخاذِ الكلاب ، دليلَ الهزيمةِ النفسية ، ولو عَلِم هؤلاءِ المنهزمين قيمتَهم عند الله ، إذا تمسّكوا بدينهم ، وعلموا قدرَ الكافرِ عند ربِّه ؛ لـتغيرت نظرتُهم ،(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .
عباد الله : لقد احتكّ أجدادُنا الأوائل بحضاراتٍ ومدنياتٍ عديدة ، احتكاكاً قوياً مباشراً . ومع ذلك احتفظوا بشخصياتِهمُ الإسلامية ، دونَ انبهارٍ أو انهزام . ظلوا ثابتين على عقائدِهم وشعائرِهم وأخلاقِهم . لم يَسلبْ بريقُ هذه الحضاراتِ ألبابَهم ، ولم يخطفْ عقولَـهم ، ولم يتخلوا عن هُويتِهم الإسلامية .
إن محاربةَ الانبهارِ ببريقِ حضارةِ الغرب ، واجبٌ على كلِ غيورٍ على مستقبلِ هذه الأمة. كما أن تبصيرَ المنهزمين من أبناءِ أمتِنا بعظمةِ حضارتِنا الإسلامية وتاريخِنا الإسلامي ، وردّهم إليها واجبٌ على كلِّ من يبغى لهذه الأمةِ أن تعودَ لتسود . كما أن معالجةَ الآثارِ السلبية التي استشرت في مجتمعاتِنا من جراءِ الانبهارِ بحضارةِ الغرب ، هي التحدّي الكبير الذي يقع على عاتقِ الدعاةِ والمصلحين .
اللهم ردنا والمسلمين إليك ردا جميلا ..
هذا وصلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة عليه ...