الاعتصام بالقرآن والسنة وذم التفرق والبدع
محمد المطري
وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة وذم التفرق والبدع
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [أي: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]. مَنْ يُطعِ اللهَ باتباعِ القرآن، ويُطعِ الرسولَ باتباعِ السُّنَّة، فقد فاز فوزًا عظيمًا، ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، من يعصِ اللهَ بمخالفة كتابِه، ويعصِ رسولَه بمخالفة سنتِه، فقد ضل ضلالًا واضحًا لا شك فيه، أما بعد:
فإنَّ خير الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ فصاحبها في النار.
أيها المسلمون، أمرنا الله في آيات كثيرة بطاعته وطاعةِ رسوله، وطاعةُ الله باتباع القرآن، وطاعةُ الرسول باتباع السنة، والسُّنَّة النبوية هي المبينة للقرآن الكريم، ومِنْ حِفظِ الله للقرآن أن حفظ السنة التي تبينُ مُجْمَلَه، وتُفصِّلُ أحكامَه، فحفظُ القرآنِ الكريم يستلزمُ حفظَ بيانِه وهو السنة، فحين أمرنا الله في كتابه العظيم بطاعته وطاعة رسوله كان لا بد أن يحفظهما من الضياع حتى نستطيع أن نطيعه باتباع كتابه، ونطيع رسوله باتباع سنته، والسنة كلها تدخل في قول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، وقد ضَمِنَ اللهُ لمن اتبع رسوله بالهداية فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54].
أيها المسلمون، النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّم أصحابه القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجمعة: 2، 3]، فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، وقد أخبر الله في هذه الآية أن آخرين سيأتون بعد الصحابة فهم منهم، وسيلحقون بهم في تعلم القرآن والسنة والهداية، وهذا الذي حصل، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((تَسْمَعُونَ، وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ))، فتعلم الصحابةُ رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتفقهوا في دين الله، ثم علَّموا التابعين هذا العلم النافع من القرآن الكريم وتفسيره والسنة النبوية والفقه، ثم علَّم التابعون هذا العلم من جاء بعدهم من أتباع التابعين، وحفظ علماءُ الأمةِ الميراثَ النبويَّ من العلم الشرعي النافع، ونقله علماءُ كلُّ عصر إلى من بعدهم جيلًا بعد جيل، وكانوا يحفظون العلم في صدورهم، ويُعلِّمونه طلابهم، واستعانوا على حفظه وتعليمه بتقييده وتأليفه في الكتب حتى لا يضيع، فبأقلام العلماء حفظ الله لنا دين الإسلام، وقد بين الله لنا فضل القلم وأهميته في أول سورة أنزلها على رسوله فقال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 3، 4]، وأقسم الله بالقلم في ثالث سورة أنزلها على رسوله فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، فبالقلم تقوم مصالحَ الدين والدنيا، وفي ذكر القلم وفضله منذ بداية اﻹسلام تأكيدٌ على أهمية القلم، وأن على المسلمين الاهتمام بتدوين العلوم، فقد صاروا باﻹسلام خير أمة أخرجت للناس، وصاروا أهل العلم ومعلمي البشرية.
أيها المسلمون، كان الصحابةُ أعلمَ الناس بتفسير ِكتاب الله وسنة رسوله، فقد عاصروا التنزيل، وعلموا التأويل، وأنزل الله القرآن بلغتهم العربيةِ الفصحى، وهم أفقهُ الأمةِ وأفضلُها، ثم التابعون الذين تعلَّموا منهم، ثم أتباعُ التابعين، فالصحابة ثم تلامذتهم التابعون ثم أتباع التابعين هم أعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله، وهم خير الناس بشهادة الله ورسوله، قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))، وقد أمرنا الله باتباع الصحابة، وأثنى عليهم في آياتٍ كثيرة من كتابه، بيانًا لفضلهم، وثناءً على من اتبعهم بإحسان، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، وقال تبارك وتعالى مخاطبًا الصحابة: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة: 137]، فمن آمن كما آمن الصحابةُ فقد اهتدى، ومن أعرض عن اتباعِهم فقد ضلَّ وغوى، فالصحابةُ هم أول المؤمنين من هذه الأمة، إجماعُهم حجةٌ قاطعة، واختلافُهم رحمةٌ واسعة، ومن اتبع غيرَ سبيلِهم فقد توعده الله أن يزين له الباطل عقوبة له، ويعذبه في الآخرة، قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
أيها المسلمون، الإسلام بالاتباع لا بالابتداع، وهذه وصية الله لعباده، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]، فالحق واحد، وهو الصراط المستقيم، والسبلُ كثيرةٌ من الشهوات والشبهات، والبدعِ المحدَثات، وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته، ونهانا عن اتباع البدعِ المحدَثة، فعن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغةً، ذرَفَت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا؟ فقال: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (مَنْ كان مُسْتنًا فليسْتَنَّ بمَن قد مات، أولئك أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كانوا خيرَ هذه الأمة، أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينِه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدى المستقيم).
وقال الأوزاعي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراءَ الرجال وإن زخرفوا لك القول، واصبر نفسك على السنة، وقِف حيثُ وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كَفُّوا عنه، واسلُك سبيل سلَفِك الصالح؛ فإنه يسعُك ما وَسِعَهم".
أيها المسلمون، الله سبحانه حفظ كتابَه وسنةَ رسولِه ودينَه بواسطة أهل العلم العدول، الذين ورِثوا علم القرآن والسنة عمن قبلهم بحظ وافر، وورَّثوا هذا العلم من بعدهم، ونفَوا عن دين الله تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، والعلم الشرعي هو الميراث النبوي الذي نقله علماء كل عصر إلى من بعدهم جيلًا بعد جيل، فنقلوا لنا القرآن الكريم بقراءاته المتعددة، وبيَّنوا كيفيةَ تلاوتِه وتجويدِه، ودوَّنوا التفسير المأثور، ودوَّنوا السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية والخَلقية والخُلقية، واجتهدوا في جمعِ أسانيدِها، وضبطِ أسماءِ الرواةِ وأنسابِهم، ومعرفةِ تاريخ وفاتهم، وبيانِ مواطِنِهم، ومعرفةِ أحوالِهم من حيثُ الحفظِ والعدالة، ومعرفةِ شيوخِهم وتلاميذِهم، وقارنوا بين رواياتِهم ليتميز لهم الخطأُ من الصواب، وميزوا صحيحَ السنة من سقيمِها، وألَّفوا في ذلك المؤلفات العظيمة التي تفتخر بها أمة الإسلام إلى آخر الدهر، وحفظوا لنا اللغة العربية، فدوَّنوا أشعار العرب في الجاهلية والإسلام كالمعلَّقات السبع وغيرها مما هو محفوظٌ في دواوين الشعراء وكتبِ الشِّعر والأدب؛ ليستعينوا بذلك على فهم القرآن الذي أنزله الله باللغة العربية، وكل هذا دونوه بالأقلام، وعلَّموه الطلاب، ونقله المتأخر عن المتقدم بأسانيدهم عن شيوخهم.
أيها المسلمون، الصراط المستقيم واحد، وهو دين الله الذي رضيه لعباده، وإنما حصلت الخلافات بسبب مخالفةِ القرآن والسنة، واتباعِِ الأهواء والآراء المخالفة لما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وقد حذَّرنا الله من التفرق في الدين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام: 159]، وقال سبحانه: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31، 32].
وأخبر الله أن التفرق والاختلاف ليس بسبب خفاء الحق، بلِ الحقُّ واضحٌ بين، ومع بيانِه حصل الخلاف في هذه الأمة وفي الأمم السابقة من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، فأعرض الجهال عن تعلم العلم الشرعي، واتبعوا الأهواء، وأعرض علماءُ السوء عن العمل بالعلم، واتبعوا أهواء الذين لا يعلمون، واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، فضلوا وأضلوا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وقال عز وجل: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية: 17 - 20].
أيها المسلمون، كل ما تحتاج إليه الأمةُ لمعرفة دينِها محفوظٌ في كتاب الله سبحانه، وفيما صح من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفيما أجمع عليه الصحابة والتابعون وما نُقِل عنهم من الفتاوى والأحكامِ المستنبطة من القرآن والسنة، فيجب على المسلم أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه الصحابةُ ومن اتبعهم بإحسان، فهم لا يجتمعون على ضلالة، ومن اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن اتبع الهوى فقد ضل وغوى، ومن سأل أهل العلم الثقات فقد برِئت ذمتُه، والخطأ مغفورٌ للعلماء في المسائل الاجتهادية، قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))، وبحمد الله أكثر الأحكام الشرعية لا خلاف فيها بين الفقهاء أو فيها خلاف تنوع أو أفهام، وإنما المحذور الخلافات التي فيها مشاقة للقرآن والسنة، واتباعٌ للأهواء والآراء والبِدَع المحدثة، وهذا هو الذي فرَّق الأمة.
تمَســـَّكْ بحبــــلِ اللهِ واتَّبـِعِ الهـــدى ولا تـــــــكُ بِدْعيــًـــا لعلك تُفلِـــــحُ
ودِنْ بكتابِ اللهِ والسننِ التي أتتْ عن رســـــولِ الله تنجو وتَربَحُ
ودَعْ عنكَ آراءَ الرجــــــــالِ وقولَهم فقولُ رسولِ الله أزكى وأَشــــْـرحُ
ولا تكُ مِنْ قومٍ تلَهَّو بِدينـــِــــهم فتطعنُ في أهلِ الحديــــــثِ وتقدحُ
أسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، أقول ما سمعتم ويغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمرنا باتباع كتابه وطاعة رسوله، وصلى الله وسلم على نبينا القائل: ((مَنْ رَغِبَ عن سنتي فليس مني))، وبعد:
يقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، أقسم الله في هذه الآية بنفسه الكريمة أننا لن نؤمن حتى نُحَكِّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في خلافاتنا، ونرضى بحكمه كائنًا ما كان، ونُسلِّم لحكمه تسليمًا بلا اعتراض.
ويقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، فأوجب الله علينا أن نرد خلافاتِنا إلى الله والرسول، أي: إلى القرآن والسنة، فإن كنا مؤمنين فلنستجب لأمر الله بالرجوع إلى القرآن والسنة، وفي ذلك خير عظيم لنا في ديننا ودنيانا.
ويقول الله سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، فمخالفة أمرِ النبي وسنتِه سببٌ عظيم للفتنة والعذاب الأليم.
أيها المسلمون، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحذِّر من البدع؛ لأنها مخالفة لسنته، ومخالفة لقول الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فالدين كاملٌ لا يحتاج إلى بدع، والبدعة: هي ما خالف القرآن والسنة وما كان عليه الصحابة من الاعتقادات والعبادات المحدَثة التي يقصد بها الإنسانُ التقربَ إلى الله، ولم يدُل عليها دليلٌ شرعي.
والبدع والمحدثات في الدين خطورتها عظيمة، وآثارها سيئة على الفرد والمجتمع وعلى الدين كله، فهي إحداثٌ في الدين، وقولٌ على الله بغير علم، وشرعٌ في الدين بما لم يأذن به الله، والبدعةُ سببٌ في تفريق الأمة، والمبتدِع الذي ابتدأ البدعة يحمل وزره ووزر من تبعه في بدعته، والبدعةُ سببٌ في عدم قبول العمل، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون، من أعظم أسباب انتشار البدع: عدمُ تعلم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والجهلُ بما كان عليه السلفُ الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، والتعلقُ بالشبهاتِ الفلسفية، والخيالاتِ الظنية، والاعتمادُ على العقلِ المجرد المخالف للوحي، ومجالسةُ أهلِ الأهواء، والاعتمادُ على الأحاديثِ الضعيفةِ والموضوعة التي يستدل بها المبتدعة على بدعهم، والتشبهُ بالكفار، وتقليدُ أهل الضلال، والتعصبُ الأعمى للآباء والأجداد.
أيها المسلمون، كل البدع في الدين محرمةٌ ومردودةٌ على أصحابها من غير فرقٍ بين بدعة وأخرى، وإن كانت تتفاوتُ درجاتُ التحريمِ بحسب نوع البدعة، فقد تكون البدعةُ اعتقاديةً أو قوليةً أو فعلية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خُطَبه: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَيِ هُدَيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
أيها المسلمون، يُرجع في بيان البدعِ إلى أهل العلم الراسخين، والواجبُ الاستقامةُ كما أمرنا الله بلا غلوٍ وطغيانٍ، ولا تميعٍ وتفريطٍ، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112]، فاتباع الكتاب والسنة هي الوسطية المشروعة، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وأهلُ السنة هم أهلُ الجماعة المتبعين للقرآن والسنة ظاهرًا وباطنًا بقدر الاستطاعة، وهم الطائفة المنصورة دون غيرهم من سائر فرق الأمة، وهم الفرقة الناجية في الآخرة برحمة الله وفضله، وأهلُ البدعِ هم أهلُ الفرقة والضلالات، المتبعون للأهواء المختلفة، المخالفة للقرآن والسنة، وما كان عليه الصحابة.
أيها المسلمون، قد أخبرنا الله في كتابه أن الناس لا يزالون مختلفين، وأن ذلك بمشيئة الله ليختبرَ عبادَه، فيتبين من يتبعُ الهدى، ومن يتبع الهوى، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48]
اللهم اهدنا لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم ارزقنا طاعتك، وطاعة رسولك، ووفقنا للاعتصام بكتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نعوذ بك من البدع والفتن، ونعوذ بك من الغلو والطغيان، ونسألك الاستقامة كما أمرتنا، ونستغفرك لما تعلم منا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلَّها دِقَّها وجِلَّها، وأوَّلها وآخرَها، وعلانيتها وسِرَّها، اللهم وصلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وعلى أهل بيتِه وأزواجِه وذريتِه الصالحين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1729577955_وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة وذم التفرق والبدع.docx
1729577956_وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة وذم التفرق والبدع.pdf