الاعتصام بالثوابت الشرعية ، د.صالح دعكيك،

شادي باجبير
1446/04/22 - 2024/10/25 21:24PM

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الاعتصام بالثوابت الشرعية ، د.صالح دعكيك، مسجد آل ياسر،28/6/2024م

    *الحمد لله رب العالمين.

     الإسلام دين الله تعالى للعالمين، كما إنه دين جميع الأنبياء من لدن أبينا آدم إلى خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، آل عمران: (19)، ولما كانت بعثة الرسل خاصة لأقواهم، وكانت البعثة المحمدية للناس كافة، كانت رسالته شاملة مهيمنة، وناسخة لكل الشرائع السابقة، وأضحت كلمة "الإسلام" عَلَما على هذا الدين الخاتم، الذي ارتضاه الله لعباده إلى قيام الساعة، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، المائدة (3).

   فدين الإسلام هو آخر رسالات السماء، لا يقبل الله من أحد دينا غيره، قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)، آل عمران (85)، فكان هذا الدين بكل ثوابته ومحكماته هو (كلمات الله) الممثلة لكل رسالات الأنبياء ،نزلت وفق وضع إلهي مقدس، للتعبد والطاعة والتدبر، ليس مجالا للاستدراك والتعقب، فضلا عن التخطئة والاعتراض، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). الأحزاب (36).

   لقد شُيِّد الإسلام على ثوابت شامخة، وأصول ثابتة، ومحكمات راسخة، هي أسباب خلوده وبقائه، ليبقى عزيزا شامخا، ثابتا ثبوت الرواسي، رغم هجوم الأعداء على ثوابته ومحكماته وأحكامه، وكيدهم الكبار في محاولة هدمه أوتشويهه أو تذويبه، منذ فجر الإسلام وإلى عصورنا هذه المتأخرة.

    نعم، هناك هجوم على الإسلام وثوابته، من أعداء الأمة تارة، ومن بعض منتسبيها ومنافقيها تارة أخرى!! وذلك تحت رايات ومسميات عديدة، كالحرية، وحقوق الانسان، والدفاع عن المرأة، ونحو ذلك.

    ولهذا وجب على المسلم الحذر من كيد الأعادي، وأن يدافع عن دينه وعقيدته في أي موضع كان، كما يجب علينا جميعا استيعاب ثوابت الدين، ومعرفة أصوله الكبرى، ومحكماته الراسخة، لنرد كيد العدو الغاشم في نحره، ولن يجد سبيلا لزعزعة ثقتنا بديننا وثوابته.

أيها الأحبة: إن ثوابت الدين ومحكمات الشريعة هي حصن الأمة الحصين، ومعقد خيرية هذه الأمة، وحافظ كيانها على مر العصور، وهذه الثوابت والمحكمات، ثابتة وشاملة لكل نواحي الحياة، وهي محفوظة بحفظ الله لم تُنسخ ولم تبُدل ولا يقدر أحد أبدا كائنا من كان على إلغائها وتهميشها.

     فلا يجوز بحال أن نسمح لمعتد أو أثيم أن يقترب منها، فضلا عن أن ينال من قدسيتها، وعلى أهل العلم خصوصا الذين أخذ الله عليهم الميثاق بالبيان الدفاعُ عنها والتصدي للمبطلين، لا يخافون في سبيل ذلك لومة لائم.

      إن تلك المسلمات والثوابت مستمدة من نصوص الوحيين، التي من تمسك بها فلن يضل أبدا، قال تعالى" (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هُودٍ: (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه). أخرجه أحمد (17213) ، وأبو داود (4604) . صحيح الجامع: 2643.

    ديننا بفضل الله أصوله متينة متعددة، وثوابته كثيرة راسخة، يصعب تعدادها وحصرها، ولعلي هنا أن أسوق معاقد تلك الثوابت، وركائز تلك المحكمات، وأشير إلى أساسيات المسلمات الدينية:

أولها: تعظيم نصوص الوحيين كتابا وسنة.

     فنصوص الوحيين كلمات مقدسة، لا تقبل المنازعة والرد أبدا ، وهي كلمات الله وحيا منه، وحيا متلوا وهو القرآن الكريم، ووحيا غير متلو ملقى على روع نبينا عليه الصلاة والسلام يقوله تأسيسا وبيانا، قال تعالى :{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النجم (4). وقال تعالى:  (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).النحل (44).

     ويكون فهم هذه النصوص كما فهمها الصحابة -رضي الله عنهم- وسلف الأمة وأئمتها، بحسب قواعد لغة العرب، وأساليبها في الخطاب، وهذا يؤكد على توحيد مصدر التلقي والاستدلال، وتوحيد مصدر التشريع.

وثانيها: الأصول العقدية.

          ويرتبط الأمر فيها بأركان الإيمان الستة الكبرى، والتي أشار إليها حديث جبريل (قال: …فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت).الحديث رواه مسلم (8).

    وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الأركان، حيث أخذت هذ الموضوعات حيزا كبيرا، ومساحة شاسعة في القرآن، منبهة إلى التأكيد على استقرار هذه الأركان في القلوب، والعمل على تعميقها، حيث هي أركان النجاة في الآخرة.

   وتأتي على رأس هذه الثوابت في هذه الأركان كلمة التوحيد، التي تعني أن لا معبود إلا الله،  وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته،  وتحريم الشرك بكل صوره وألوانه، والكفر بالطاغوت بكل صوره وأشكاله.

 

 

وثالثها: الأحكام القطعية.

    وهي الأحكام الواردة في نصوص الكتاب والسنة، والمستنبطة منهما، والاي هي معلومة بالضرورة من الدين، أو موضع اتفاق بين أهل الحل والعقد، فهي ثابتة ثبوتا ليست بمحل نزاع عند كافة أهل العلم، وهي أحكام شاملة لمفاصل الحياة، يقوم عليها مجموع الأمة.

رابعها: القيم الأخلاقية:

    وهي أخلاق الإسلام العليا، وفضائله السامية، وقيمه النبيلة، التي امتلأت نصوص الكتاب والسنة بلزومها للمؤمن، والتأكيد على التخلق بها، وهي تمثل مظاهر الدين الكبرى، فهي عنوان الإنسان المسلم، وشعار هويته، يستصحبها حينما حل أو ارتحل، وهي دليل صدق التزامه بالدين، كما تثبت للعالمين أن هذا الدين الداعي لهذه  القيم هو دين الحق، وأن المتمثل بها هو المؤمن الحق، والمنسلخ عنها ليس من الله في شيء، قد انسلخ من إنسانيته  والتحق بعالم البهيمية.

   أنها أخلاق الديانة الكبرى من قيم : الصدق والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والعدل والعفة والحياء والورع والإيثار والتضحية والإحسان والغيرة والكرم والوفاء بالعهود والمواثيق والحلم والصبر والرحمة والإخلاص والأناة... وتجريم الخيانة والغدر والمكر والبغي والظلم، وتحريم الربا، وشرب الخمر، وارتكاب الزنا والسرقة، وإتيان الفواحش، وغير هذا مما يدخل في دائرة المحرمات القطعية.. وغيرها من الأخلاق التي بها تقوم الأمة الإسلامية، ويعزها ربها الرحمن.

   ومن نماذج ذلك ما جاء في سورة البقرة عن ذلك: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). البقرة (177).

ورابعها: المقاصد الكلية.

  والمقصود بها : كل ما تعود منفعته على الإنسان في الدين والدنيا، وتتأسس عليه سعادته في المعاش والمعاد، وهي التي اصطلح علماء الشرع المطهر بتسميتها بالكليات الخمس الكبرى وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وكل ما يخدم هذه الكليات من جهتي الوجود والعدم مطلوب طلبا شرعيا وحضاريا إن كان بالفعل أو بالترك.

    إن هذه الكليات الخمس أشبه ما تكون بالحاضنة الكبرى التي تحيط بأحكام الشريعة من كل جوانبها، فلا يندُّ عنها شيء، ولا تغفل عن صغير ولا كبير إلا وحفظته، سواء كان منصوصا أو في معنى النص أو ليس منصوصا عنه.

أيها الفضلاء:

     إن ثوابت الشريعة ومحكماتها وأصولها، أكثر من أن تحصر؛ فالشريعة في جملتها هي كلمة الله الخاتمة، وسبيله المستقيم ودينه القويم الذي من تمسك به، وأعرض عن سبل الضلال ، كان مستمسكا بالعروة الوثقى، قال تعالى:  (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). الْأَنْعَامِ: (153).

        بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم، أقول ما تسمعون، وأستغفرالله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

((الخطبة الثانية))

   إن الاعتصام بمحكمات الشريعة وثوابتها أصبح اليوم أكثر ضرورة من ذي قبل؛ فالمسلمون بأمسِّ الحاجة إلى تعلُّمها ودراستها، وإشاعتها بين أفراد المجتمع.

   أنه يجب تبني الخطباء والدعاة والكتاب وجميع مراكز التربية والإعلام والتوجيه للاهتمام بثوابت الأمة، ومسلمات الدين، وتعميق الفهم لها، لتكون حاضرة في أذهان الأمة كبارها وصغارها، وتكون ثابتة في عقيدتهم وسلوكهم، كما كانت حاضرة عن عند آبائنا الأوائل فسلمتْ لهم عقائدُهم وأخلاقُهم وقيمهم، وعاشوا في أمن فكري وعقدي ومجتمعي، كان نتاجا طبيعيا للتمسك بالثوابت والعناية بها.

    إن الاجتماع على محكمات الشريعة، والدعوة إليها، وتربية الناشئة عليها، وحث الناس على التفقه بها والاعتصام بها هو واجب العصر اليوم، فالأمة اليوم تتعرض لهجوم حاقد، وعدوان غير مسبوق، على عقيدتها ومحكماتها وثوابتها، مما يحتاج معه لترسيخ هذه والثوابت في قلوب وعقول الناشئة، فتكون الأمة محصنة من داخلها، فترتد سهام العدو إلى نحورهم.

        ونحن مدعوون اليوم للعناية بثوابت الشريعة، ومسلمات الدين، وتبني مراكز دراسات تعنى بثوابت الأمة والدفاع  عنها، وتفنيد دعاوى المبطلين، وتحريفات الجاهلين، وانتحال الغالين.

    ولا ريب أن محكمات الشريعة من أكبر الوسائل المؤدية لمقاصد اجتماع الأمة وحصول الأمن العَقَدِيّ والفكري والنفسي والاجتماعي بين أفراد الأمة.

    كما إن تربية الأمة على ثوابت الدِّين ومحكمات الشريعة يعصِم -بإذن الله- من الفوضى الفكرية والأخلاقية، ويحمي من التطرف والغلو في دين الله، الذي أضرَّ كثيرًا وبالمسلمين، وشوَّه صورة الإسلام النقية السمحة.

    هناك شرذمة من الأقزام يحاولون التطاول على ثوابت الدين ومرتكزاته، لينالوا من كل ما هو مقدس في الإسلام، وهم في ذلك يمثلون عدوانا صارخا على ثوابتنا وديننا ووحدتنا.

     كان فيما سبق من يحاول تشويه للدين، وإثارة الشبهات، والتطاول على المحكمات، فئة من أعداء الأمة من نحل متعددة، منهم المستشرقون من النصارى واليهود وغيرهم، واليوم انضم إلى هذه الفئة الحاقدة، ويشعل نيران الحرب على محكماتنا وأحكامنا، رجال ونساء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون لإسلامنا!

   إن كثيرا من أولئك الأقزام والنكرات والجهال والدخلاء على الأمة لا يريدون سوى الشهرة، و الصعود الإعلامي، حتى تتبناهم المنظمات المشبوهة -إن لم يكونوا من صنعهم- ويصير ممن يشار لهم بالبنان في الفضاء الإعلامي.

   ومن العار أن تفتح لهم وسائل الإعلام صفحاتها وفضائياتها لكي يشككوا في الدين وينتقصوا ثوابت الشريعة، والتي هي فوق مستوى المساس بها لقدسيتها وعظم منزلتها.

      كفانا الله كيد الكائدين، وشر الأشرار، وفجور الفجار، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، وعبادك الصالحين.

        والحمد لله رب العالمين.

 

المشاهدات 109 | التعليقات 0