الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وقمرًا منيرًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :-
فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فهي وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ . { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
عباد الله : هذه الجمعة هي آخر جمعة من هذا العام الهجري ، الذي تصرمت أيامه ، فما أسرع الليالي والأيام ، تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام . وإنَّ في تَصَرُّمِ الأعوامِ وانقضاءِ الأيامِ عِبَرًا لأصحابِ البصائرِ ، قَالَ تعالى : ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44] . والعاقِلُ مَن اتَّعَظَ بِمرورِ الأيامِ ، فالأيامُ إنِّما هِيَ منازِلٌ تُقرِّبُ إلى الآخرةِ ، وما مضى مِنَ العُمرِ لا يَعُودُ . فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويشيِّبان الصغار ، ويفنيان الكبار ، وكل يوم يمر بالإنسان ، فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .
عباد الله : إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام ، لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا ، يفرح لعلاوةٍ قادمة أو أجرةٍ حالة أو بيعٍ أو شراء ، أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر ، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له ، لكن السؤال هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره ، وانقضاء أيامه .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ ؟ كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ ؟
إنَّا لَنَفْرحُ بالأيامِ نقطعُها **** وكلُّ يومٍ مَضى يُدْني مِن الأجَلِ
فَعُمْر الإنسان قصير والليالي والأيام تسير ، فالحياة مهما امتدت قصرت ، ومهما طالت نقصت ، الأيام تطوي الأعمار والأعوام ، وتُنهي الآجال ، فالعُمر محدود ، والزمان معدود . فالأعمار مهما طالت لا بُد من الفناء ، والدنيا مهما ازدانت فمآلها إلى الزوال ، فهي كأنما دخل المرء من بابٍ وخرج من آخر .
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائقٌ وثواني
انظروا سرعة مرور الأيام ، كانت الجمعة في الأسبوع تُنتَظر على أحر من الجمر ، ثم الشهر بعيدٌ ، ثم السَّنة أبعد ، فأصبحت السنة كالشهر ، والشهر كالأسبوع ، والأسبوع كاليوم ، يفتح المرء صباحه ، وفي لحظةٍ يختم مساءه ، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله .. قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم مضى بعضك ) . فالسعيد من بادر زمانه وحفظ أوقاته واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه ، فمن عمل صالحًا فلنفسه .. السعيد من تاب وأناب ، واستعد ليوم الحساب .. السعيد من سعى لدار السلام ، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام .
قال الفضيل بن عياض لرجلٍ : " كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال : أنت منذ ستين سنةً تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فقال الفضيل : تعرف تفسيرها ؟ قال : لا ، قال : من عرف أنه لله عبدٌ ، وأنه إليه راجعٌ فليعلم أنه موقوف ، ومَن علِم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول ، ومن علِم أنه مسئول فليُعد للسؤال الجواب ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة ، تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضـى ، فإن أسأت فيما بقي أُخذِت بما مضى وما بقي " .
عباد الله : بادروا بالأعمال الصالحات ، فإن الأعمار سريعةً الانصرام ، والأيام تمر مر السحاب والغمام ، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب ، وما فوق التراب تراب . فعلى الإنسان أن يستغل حياته بطاعة الله ، وأن يعتبر بمرور الأيام والأعوام .. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول هذا القول ، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، واشهد أن نبينا وحبيبنا محمد عبده ورسوله الصادق الأمين ، صلى الله عليه و على آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . أما بعد :-
عبادَ اللهِ : تمضي اللياليَ والأيامُ ، وتتصرَّمُ الأعوامُ والناسُ بين ساهٍ وغافلٍ ومتبصرٍ وعاقلٍ ، الكلُّ يسيرُ في هذه الدنيا ويبحثُ عن شيءٍ قد يدركُه وقد لا يُدركُه ، فكمْ من نفسً ذاقتْ طعمَ الموتِ وهي لم تستكملْ مشروعاتِها التي تُخططُّ لها ، كبناءِ بيتٍ ، أو مشروعِ زواجٍ ، أو إنهاءِ دراسةٍ ، أو سفرٍ لعملٍ . أو غير ذلك .
فهنيئًا لمن عمَّر دنياهُ بالطاعةٍ ، وتقرَّبَ لخالقهِ ، وحفظَ جوارحهُ من المعاصي ، وسَلِمَ من حقو قِ الخلقِ ، فهذا هو الفائزُ الحقيقيُّ .
عباد الله : سُرْعَةُ الْأَيَّامِ وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا ، هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ ) . يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ الْمُتَوَفَّى عَامَ ثَمَانِ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ : ( فَالَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا ، فَإِنَّا نَجِد مِنْ سُرْعَة مَرِّ الْأَيَّام مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا ) . فَمَاذَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِي زَمَانِنَا نَحْنُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ؟! .
لَا شَكَّ أَنَّ فِي تَقَارُبِ الزَّمَانِ ، وَعَجَلَةِ الْأَيَّامِ ، وَسُرْعَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، حَثٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ ، وَوَاعِظٌ لَهُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَانِيَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاقِيَةِ ، لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ إِلَّا سَاعَاتٌ وَأَيَّامٌ ، وَشُهُورٌ وَأَعْوَامٌ ، وَمَا يَمْضِي مِنْهُ لَا يَعُودُ ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي : يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ ، وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ ، فَتَزَوَّدْ مِنِّي فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) . ويقول : ( يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم مضى بعضك ) ، فالسعيد من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف . فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَتَدَارَكُوا مَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ بِأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَيْكُمْ تَرْتَحِلُونَ مَرْحَلَةً إِلَى الْآخِرَةِ .
عباد الله : اعلموا أنَّهُ ينتشرُ في نهايةِ كل عامٍ عَبْرَ وسائلِ التواصلِ اختم عامك أو آخر جمعةٍ فيه بكذا وكذا ، وهذا لا أصلَ له ، فليس لآخر العامِ مزيةٌ في ختم أيامِه بصيامٍ أو صدقةٍ أو أيِّ عملٍ ، فاحرصوا على السنةِ ، واحذروا من البدعة .. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم بارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأوقاتنا . اللهم يسرنا لليسرى ، وجنبنا العسرى . اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا . اللهم وفقنا لتدارك ما تبقى من أعمارنا في هذه الدنيا ، واختم لنا بخاتمة خير ، اللهم واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين . واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهمَّ إنا نسألك أنْ تحفظَ بلادَنا وسائرَ بلادِ المسلمين ، اللهم ادفَع عنَّا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصَّة ، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين ، اللهم وفِّقْ إمامَنا ووليَّ عَهدِه لما تحبُّ وترضى وخُذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى ، اللهم ارزقْهمُ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهم على الخيرِ وتُعينهم عليه ، اللهم احفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة ، ( ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ ) . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 29/12/1445هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 )
المرفقات
1720020029_الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام.docx