الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام

الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وقمرًا منيرًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :-

فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فهي وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ . { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .

عباد الله : هذه الجمعة هي آخر جمعة من هذا العام الهجري ، الذي تصرمت أيامه ، فما أسرع الليالي والأيام ، تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام . وإنَّ في تَصَرُّمِ الأعوامِ وانقضاءِ الأيامِ عِبَرًا لأصحابِ البصائرِ ، قَالَ تعالى : ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44] . والعاقِلُ مَن اتَّعَظَ بِمرورِ الأيامِ ، فالأيامُ إنِّما هِيَ منازِلٌ تُقرِّبُ إلى الآخرةِ ، وما مضى مِنَ العُمرِ لا يَعُودُ . فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويشيِّبان الصغار ، ويفنيان الكبار ، وكل يوم يمر بالإنسان ، فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .

عباد الله : إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام ، لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا ، يفرح لعلاوةٍ قادمة أو أجرةٍ حالة أو بيعٍ أو شراء ، أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر ، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له ، لكن السؤال هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره ، وانقضاء أيامه .

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ ؟ كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ ؟

         إنَّا لَنَفْرحُ بالأيامِ نقطعُها    ****   وكلُّ يومٍ مَضى يُدْني مِن الأجَلِ

فَعُمْر الإنسان قصير والليالي والأيام تسير ، فالحياة مهما امتدت قصرت ، ومهما طالت نقصت ، الأيام تطوي الأعمار والأعوام ، وتُنهي الآجال ، فالعُمر محدود ، والزمان معدود . فالأعمار مهما طالت لا بُد من الفناء ، والدنيا مهما ازدانت فمآلها إلى الزوال ، فهي كأنما دخل المرء من بابٍ وخرج من آخر .

         دقات قلب المرء قائلة له                  إن الحياة دقائقٌ وثواني

انظروا سرعة مرور الأيام ، كانت الجمعة في الأسبوع تُنتَظر على أحر من الجمر ، ثم الشهر بعيدٌ ، ثم السَّنة أبعد ، فأصبحت السنة كالشهر ، والشهر كالأسبوع ، والأسبوع كاليوم ، يفتح المرء صباحه ، وفي لحظةٍ يختم مساءه ، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله .. قال  أبو الدرداء رضي الله عنه : ( إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم مضى بعضك ) . فالسعيد من بادر زمانه وحفظ أوقاته واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه ، فمن عمل صالحًا فلنفسه .. السعيد من تاب وأناب ، واستعد ليوم الحساب .. السعيد من سعى لدار السلام ، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام .

قال الفضيل بن عياض لرجلٍ : " كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال : أنت منذ ستين سنةً تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فقال الفضيل : تعرف تفسيرها ؟ قال : لا ، قال : من عرف أنه لله عبدٌ ، وأنه إليه راجعٌ فليعلم أنه موقوف ، ومَن علِم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول ، ومن علِم أنه مسئول فليُعد للسؤال الجواب ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة ، تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضـى ، فإن أسأت فيما بقي أُخذِت بما مضى وما بقي "  .

عباد الله : بادروا بالأعمال الصالحات ، فإن الأعمار سريعةً الانصرام ، والأيام تمر مر السحاب والغمام ، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب ، وما فوق التراب تراب . فعلى الإنسان أن يستغل حياته بطاعة الله ، وأن يعتبر بمرور الأيام والأعوام .. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول هذا القول ، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، واشهد أن نبينا وحبيبنا محمد عبده ورسوله الصادق الأمين ، صلى الله عليه و على آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . أما بعد :-

عبادَ اللهِ : تمضي اللياليَ والأيامُ ، وتتصرَّمُ الأعوامُ والناسُ بين ساهٍ وغافلٍ ومتبصرٍ وعاقلٍ ، الكلُّ يسيرُ في هذه الدنيا ويبحثُ عن شيءٍ قد يدركُه وقد لا يُدركُه ، فكمْ من نفسً ذاقتْ طعمَ الموتِ وهي لم تستكملْ مشروعاتِها التي تُخططُّ لها ، كبناءِ بيتٍ ، أو مشروعِ زواجٍ ، أو إنهاءِ دراسةٍ ، أو سفرٍ لعملٍ . أو غير ذلك .

فهنيئًا لمن عمَّر دنياهُ بالطاعةٍ ، وتقرَّبَ لخالقهِ ، وحفظَ جوارحهُ من المعاصي ، وسَلِمَ من حقو قِ الخلقِ ، فهذا هو الفائزُ الحقيقيُّ . 

عباد الله : سُرْعَةُ الْأَيَّامِ وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا ، هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ ) . يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ الْمُتَوَفَّى عَامَ ثَمَانِ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ : ( فَالَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا ، فَإِنَّا نَجِد مِنْ سُرْعَة مَرِّ الْأَيَّام مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا ) . فَمَاذَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِي زَمَانِنَا نَحْنُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ؟! .

لَا شَكَّ أَنَّ فِي تَقَارُبِ الزَّمَانِ ، وَعَجَلَةِ الْأَيَّامِ ، وَسُرْعَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، حَثٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ ، وَوَاعِظٌ لَهُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَانِيَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاقِيَةِ ، لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ إِلَّا سَاعَاتٌ وَأَيَّامٌ ، وَشُهُورٌ وَأَعْوَامٌ ، وَمَا يَمْضِي مِنْهُ لَا يَعُودُ ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي : يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ ، وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ ، فَتَزَوَّدْ مِنِّي فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) . ويقول : ( يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم مضى بعضك ) ، فالسعيد من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف . فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَتَدَارَكُوا مَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ بِأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَيْكُمْ تَرْتَحِلُونَ مَرْحَلَةً إِلَى الْآخِرَةِ .

عباد الله : اعلموا أنَّهُ ينتشرُ في نهايةِ كل عامٍ عَبْرَ وسائلِ التواصلِ اختم عامك أو آخر جمعةٍ فيه بكذا وكذا ، وهذا لا أصلَ له ، فليس لآخر العامِ مزيةٌ في ختم أيامِه بصيامٍ أو صدقةٍ أو أيِّ عملٍ ، فاحرصوا على السنةِ ، واحذروا من البدعة .. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم بارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأوقاتنا . اللهم يسرنا لليسرى ، وجنبنا العسرى . اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا . اللهم وفقنا لتدارك ما تبقى من أعمارنا في هذه الدنيا ، واختم لنا بخاتمة خير ، اللهم واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين . واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهمَّ إنا نسألك أنْ تحفظَ بلادَنا وسائرَ بلادِ المسلمين ، اللهم ادفَع عنَّا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصَّة ، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين ، اللهم وفِّقْ إمامَنا ووليَّ عَهدِه لما تحبُّ وترضى وخُذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى ، اللهم ارزقْهمُ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهم على الخيرِ وتُعينهم عليه ، اللهم احفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة ، ( ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ ) . وأقم الصلاة .

 

 

( خطبة الجمعة 29/12/1445هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

المرفقات

1720020029_الاعتبار بسرعة مرور الأيام والأعوام.docx

المشاهدات 868 | التعليقات 0