الاستنصار والنصرة بالدعاء

الاسْتِنْصَارُ وَالنُّصْرَةُ بِالدُّعَاءِ
19/11/1433

الْحَمْدُ للهِ رِبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ نَصِيرٌ؛ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيُجِيرُ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ، وَيَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، لَا يَسْأَلُهُ عَبْدٌ فَيَخِيبُ، وَلَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ مَظْلُومٌ فَيَضِيعُ، وَلَا يَسْتَنْصِرُهُ ذُوُ حَقٍّ فَيُهْزَمُ، [وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] {الفتح:7}، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَهُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ، وَمَا سِوَاهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ؛ [وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:62}، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَسَائِطَ يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلِيْهِ، وَإِنَّمَا الْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] {البقرة:186}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَاصْطَفَاهُ إِمَامًا لِلْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ، صَلَّى وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَافْتَقِرُوا إِلَيْهِ وَاسْأَلُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَنْفَكُّونَ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَمَاتِكُمْ، احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي وُجُودِكُمْ فَأَوْجَدَكُمْ مِنَ الْعَدَمِ، وَاحْتَجْتُمْ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِكُمْ فَرَزَقَكُمْ وَأَمَّنَكُمْ وَهَدَاكُمْ لِمَا يُصْلِحُ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتَكُمْ، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي قُبُورِكُمْ، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ بَعْثِكُمْ وَنُشُورِكُمْ، فَلَا غِنَى لَكُمْ عَنْهُ ألْبَتَّةَ؛ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] {فاطر:15}.
أَيُّها النَّاسُ: مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لُجُوءُهُمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمُلِمَّاتِ، وَالتَّضَرُّعُ لَهُ فِي الشَّدَائِدِ، وَالانْطِرَاحُ عَلَى بَابِهِ فِي الْمَصَائِبِ، وَطَلَبُ النَّصْرِ وَالْأَمْنِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ دُونَ سِوَاهُ؛ فَالْأَمْنُ وَالْخَوْفُ مَحِلُّهُمَا الْقَلْبُ، وَالْقُلُوبُ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَمُدَبِّرُ الْأَمْرِ، وَكَاتِبُ النَّصْرِ، وَمُسَخِّرُ الْجُنْدِ؛ [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] {المدَّثر:31}، فَمَنْ كَتَبَ لَهُ النَّصْرَ فَلَنْ يُهَزَمَ مَهْمَا بَدَا ضَعِيفًا، وَمَنْ خَذَلَهُ فَلَنْ يُنْصَرَ وَإِنْ بَدَا قَوِيًّا؛ [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {آل عمران:160}.
وَهَذِهِ حَقَائِقَ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا الشَّكُّ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُمْ يَغْفُلُونَ عَنِ الدُّعَاءِ لِإِخْوَانِهِمْ إِنْ أَصَابَهُمُ الضُّرُّ، وَيُقَصِّرُونَ فِيهِ تَقْصِيرًا كَبِيرًا؛ اسْتِبْطَاءً لِلنَّصْرِ، أَوْ مَلَلاً مِنَ الدُّعَاءِ، أَوِ انْشِغَالًا بِهُمُومِ الدُّنْيَا عَنْ مُصَابِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مُلَاحَظٌ فِي النَّوَازِلِ الَّتِي نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ فَطَالَ أَمَدُهَا.
إِنَّ الاسْتِنْصَارَ بِالدُّعَاءِ، وَنُصْرَةَ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ سِلَاحٍ يَمْلِكُهُ الْمُؤْمِنُونَ لَوْ عَمِلُوا بِهِ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيهِ، وَلَمْ يَسْتَبْطِئُوا الْإِجَابَةَ.
وَلَقَدْ كَانَ الدُّعَاءُ سِلَاحَ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَبَابِرَةِ الظَّالِمِينَ، وَلَكِنَّهُ دُعَاءُ الْمُوقِنِينَ بِالْإِجَابَةِ، وَدُعَاءُ مَنْ لَا يَسْتَبْطِئُونَهَا، وَدَعَاءُ مَنْ لَا يَمَلُّونَ مِنَ الدُّعَاءِ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ، بَلْ يُلِحُّونَ وَيُلِحُّونَ حَتَّى يَتَنَزَّلَ نَصْرُ اللهِ تَعَالَى، وَدُعَاءُ مَنْ أَخَذُوا بِأَسْبَابِ الْإِجَابَةِ، وَجَانَبُوا مَوَانِعَهَا.
وَأَمْرُ الدُّعَاءِ عَظِيمٌ، وَشَأْنُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَبِيرٌ؛ فَهُوَ الْعِبَادَةُ، وَهُوَ لُبُّهَا وَمُخُّهَا، وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَقْدُورَ، وَيَرْفَعُ المَكْرُوهَ.
بِدُعَاءِ نُوْحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغَرَقَ اللهُ سُبْحَانَهُ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَلَمْ يَنْجُ مِنَ الْغَرَقِ إِلَّا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ؛ [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] {القمر:9-15}.
إِي وَرَبِّي، إِنَّهَا لَآيَةٌ أَنْ يُغْرِقَ اللهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا بِدَعْوَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الاسْتِنْصَارِ بِاللهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ إِجَابَتِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهِ فَيُغْرِقُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا بِدَعْوَتِهِ.
وَاسْتَنْصَرَ الْكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ؛ فَدَعَا قَائِلًا: [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88}، فَكَانَ جَوَابُ اللهِ تَعَالَى لَهُ: [قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {يونس:89}، وَأَجْرَى اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى مُعْجِزَةً مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ؛ إِذْ شَقَّ لَهُ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا بِضَرْبَةِ عَصَى، فَلَمَّا جَازَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَتَوَسَّطَ الْبَحْرَ فِرْعَونُ وَجُنْدُهُ أَطْبَقَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ فَأَغْرَقَهُمْ؛ [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:63-67}، وَاللهِ إِنَّهَا لَآيَةٌ وَأَيُّ آيَةٍ!! بِدَعْوَةِ مُوسَى يُشَقُّ طَرِيقٌ فِي الْبَحْرِ فِي لَحَظَاتٍ؛ لِيَنْصُرَهُ اللهُ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَيُهْلِكَ فِرْعَونَ وَجُنْدَهُ.
وَفِي مَعْرَكَةٍ أُخْرَى مِنْ مَعَارِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَنْصَرَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى فَنَصَرَهُمْ، وَحُكِيَتْ قِصَّةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ لِيَأْخُذَ قَارِئُهُ الْعِبْرَةَ مِنْهَا؛ [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله] {البقرة:250-251}.
وَالاسْتِنْصَارُ بِالدُّعَاءِ، وَنُصْرَةُ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ، وَنَصْرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {آل عمران:146-147}، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ اسْتِنْصَارِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، [فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ] {آل عمران:148}، وَثَوَابُ الدُّنْيَا هُوَ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَسَار نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَرْبِ إِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ فِي الاسْتِنْصَارِ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَعْدَاءِ، فَوَقَفَ فِي بَدْرٍ وَهِيَ أَوَّلُ مَعَارِكِهِ وَأَكْبَرُهَا يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَيَسْتَنْصِرُهُ، وَيُلِحُّ فِي دُعَائِهِ، وَوَصَفَ ذَلِكُمُ الْمَشْهَدَ الْمُؤَثِّرَ عُمْرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِلًا: فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-:[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ] {الأنفال:9}، فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَقُنُوتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوَازِلِ هُوَ نُصْرَةٌ بِالدُّعَاءِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَسَارَ الصَّحَابَةُ وَالْقَادَةُ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ النَّبَوِيِّ فِي الاسْتِنْصَارِ بِالدُّعَاءِ، وَنُصْرَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِهِ، وَفِي فَتْحِ فَارِسَ قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ: فَقَالَ النُّعْمَانُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَقَرَّ عِيْنِي الْيَوْمَ بِفَتْحٍ يَكُونُ فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ، وَذُلُّ الْكُفْرِ، وَالشَّهَادَةُ لِي، فَوَقَعَ مَا دَعَا بِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ إِذِ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْفُرْسِ، وَاسْتُشْهِدَ النُّعْمَانُ.
وَمِنْ أَشْهَرِ قَادَةِ الْمُسْلِمِينَ صَلَاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ لَازَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ شَدَّادٍ فِي مَعَارِكِهِ؛ فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى فِي مَعَارِكِهِ أَوْقَاتَ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَكَانَ أَبَدًا يَقْصِدُ بَوَقَعَاتِهِ الْجُمَعَ سَيَّمَا أَوْقَاتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ تَبَرُّكًا بِدُعَاءِ الْخُطَبَاءِ عَلَى الْمَنَابِرَ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ.
وَحُكِى عَنْهُ ذَاتَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَمْ يَنَمِ اللَّيْلَ مِنْ هَمِّ مَعْرَكَةٍ كُبْرَى، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْنُ شَدَّادٍ بِالْإِخْلَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ وَاسْتِنْصَارِهِ، وَتَقْدِيمِ صَدَقَةٍ بَيْنَ يَدَيِ ذَلِكَ، يَقُولُ: فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ عَلَى الْعَاَدِةِ، وَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَرَأَيْتُهُ سَاجِدًا وَدُمُوعُهُ تَتَقَاطَرُ عَلَى شَيْبَتِهِ، ثُمَّ عَلَى سِجَّادَتِهِ، وَلاَ أَسْمَعُ مَا يَقُولُ، فَلَمْ يَنْقَضِ ذَلِكَ اليَوْمُ حَتَّى وَصَلَتْ رُقْعَةٌ ... فِيهَا أَنَّ الفِرَنْجَ مُخْتَبِطُونَ...
وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الحَنَفِيُّ مَعَ السُّلْطَانِ أَلْبَ أَرْسَلَانَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ فِي إِحْدَى مَعَارِكِهِ الكُبْرَى بِأَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْوَقْعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، حِينَ يَكُونُ الْخُطَبَاءُ يَدْعُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ نَزَلَ السُّلْطَانُ عَنْ فَرَسِهِ، وَسَجَدَ لله -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَرَّغَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، وَدَعَا اللَّهَ وَاسْتَنْصَرَهُ، فَأَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ أَرْمَانُوسُ...
تِلْكَ بَعْضُ أَخْبَارِ المُسْتَنْصِرِينَ بِاللهِ تَعَالَى فِي مَعَارِكِهِمُ، المُسْتَجِيرِينَ بِهِ مِنْ أَعْدَائِهِمُ، اللَّاجِئِينَ إِلَيْهِ فِي كَرْبِهِمْ، فَلَمْ يُخْلِفِ اللهُ تَعَالَى ظَنَّهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَخْذُلْهُمْ أَوْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ نَصَرَهُمْ وَأَعَزَّهُمْ بِفَضْلِ اسْتِنْصَارِهِمْ بِهِ؛ [وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَاسْتَنْصِرُوا بِهِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَسَلُوهُ النَّصْرَ لِإِخْوَانِكُمْ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:45-46}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّونَ وَأَتْبَاعُهُمْ يَعْرِفُونَ أَثَرَ الدُّعَاءِ فِي سَيْرِ المَعَارِكِ، وَيَلْجَؤُونَ إِلَيْهِ اسْتِنْصَارًا بِاللهِ تَعَالَى أَوْ نُصْرَةً لِإِخْوَانِهِمْ، وَكَانُوا يُقَدِّمُونَ فِي الرَّغْبَةِ دُعَاءَ رَجُلٍ صَالِحٍ لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى تَزْوِيدِهِمْ بِرِجَالٍ أَشِدَّاءَ شُجْعَانَ مُقَاتِلِينَ، قَالَ الأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَمَّا صَافَّ قُتَيْبَةُ بنُ مُسْلِمٍ لِلتُّركِ, وَهَالَهُ أَمْرُهُمْ, سَأَلَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ وَاسِعٍ؟ فَقِيْلَ: هُوَ ذَاكَ فِي المَيْمَنَةِ, جَامِحٌ عَلَى قَوْسِهِ, يُبَصْبِصُ بِإِصْبَعِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، قَالَ: تِلْكَ الإِصْبَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ شَهِيْرٍ، وَشَابٍّ طرِيْرٍ.
وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ»؛ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَأُمَّةُ الإِسْلامِ فِي هَذَا الزَّمَنِ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا الأَخْطَارُ، وَتَكَالَبَ عَلَيْهَا الأَعْدَاءُ، وَنَزَلَتْ بِهَا النَّوَازِلُ العِظَامُ، وَقَدْ غَفَلَ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنِ الدُّعَاءِ فِي دَفْعِ الأَخْطَارِ، وَرَفْعِ النَّوَازِلِ، مَعَ أَنَّ الاسْتِنْصَارَ بِالدُّعَاءِ، وَنُصْرَةَ المُسْتَضْعَفِينَ بِهِ هُوَ سُنَّةُ المُرْسَلِينَ الَّتِي تَتَابَعُوا عَلَيْهَا، وَهُوَ أَوْسَعُ أَبْوَابِ النَّصْرِ وَالأَمْنِ وَالحِفْظِ وَالتَّمْكِينِ..
مَا أَحْوَجَنَا -عِبَادَ اللهِ- إِلَى الاسْتِنْصَارِ بِالدُّعَاءِ فِي دَفْعِ خَطَرِ الأُمَّةِ المَجُوسِيَّةِ الصَّفَوِيَّةِ عَنِ المُسْلِمِينَ! وَفِي رَفْعِ كَلَبِ الصَّهَايِنَةِ وَالصَّلِيبِيِّينَ! وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى الاسْتِنْصَارِ بِالدُّعَاءِ فِي إِدَامَةِ الأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَصَلاَحِ أَحْوَالِ البِلاَدِ وَالعِبَادِ..
وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى نُصْرَةِ إِخْوَانِنَا المُسْتَضْعَفِينَ فِي بُورْمَا وَسُورْيَا بِالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَنَحْنُ نَرَاهُمْ يَقُتَّلُونَ وَيُعَذَّبُونَ وَيُشَرَّدُونَ..
وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى نُصْرَةِ إِخْوَانِنَا الأَسْرَى المُعَذَّبِينَ فِي سُجُونِ النُّصَيْرِيِّينَ وَالصَّفَوِيِّينَ، يَتَشَفَّوْنَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ، وَيَنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ؛ لِإِطْفَاءِ أَحْقَادِهِمْ حِينَ أَطْفَأَ الصَّحَابَةُ نَارَ مَجُوسِيَّتِهِمْ.
وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى نُصْرَةِ إِخْوَانِنَا المُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِالدُّعَاءِ، وَالإِلْحَاحِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ الكَلَلِ وَالسَّأَمِ مَهْمَا طَالَتِ النَّوَازِلُ، وَعَظُمَتِ الفَوَاجِعُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ ابْتَلاَنَا بِنُصْرَةِ إِخْوَانِنَا كَمَا بَلاَهُمْ بِنَوَازِلِهِمْ، فَلاَ تَتْرُكُوا الدُّعَاءَ؛ نُصْرَةً لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَجَابُ لَكُمْ مَا لَمْ تَعْجَلُوا؛ [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] {غافر:60}
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات

الاستنصار والنصرة بالدعاء.doc

الاستنصار والنصرة بالدعاء.doc

الاسْتِنْصَارُ وَالنُّصْرَةُ بِالدُّعَاءِ.doc

الاسْتِنْصَارُ وَالنُّصْرَةُ بِالدُّعَاءِ.doc

المشاهدات 3938 | التعليقات 7

بارك الله فيك


جزاك الله خيراً ياشيخ إبراهيم على هذه الخطب الرائعة والنافعة
وأبارك لك بحصولك على درجة الدكتوراة نفع الله بك
وأود أقدم خدمة بسيطة لاخواني الخطباء وهو نموذج فارغ لصفحة وورد يقوم بحفظها في جهازه وإذا أعجبته خطبة من خطب مشايخنا الفضلاء وأراد أن يخطب بها يقوم بنسخ الخطبة ثم يفتح صفحة الوورد ويلصقها بها وينسقها ثم يضغط الزر في أعلى لوحة المفاتيح f12 ويكتب عنوان الخطبة ثم يضغط حفظ فتحفظ الخطبة ويبقى النموذج فارغاً للمرة القادمة ، ومن فوائده أنه يعطيك تصور عن طول الخطبة ، افتح النموذج من المرفقات واحتفظ به في جهازك


جزاك الله خيراً ياشيخ إبراهيم على هذه الخطب الرائعة والنافعة
وأبارك لك بحصولك على درجة الدكتوراة نفع الله بك
وأود أقدم خدمة بسيطة لاخواني الخطباء وهو نموذج فارغ لصفحة وورد يقوم بحفظها في جهازه وإذا أعجبته خطبة من خطب مشايخنا الفضلاء وأراد أن يخطب بها يقوم بنسخ الخطبة ثم يفتح صفحة الوورد ويلصقها بها وينسقها ثم يضغط الزر في أعلى لوحة المفاتيح f12 ويكتب عنوان الخطبة ثم يضغط حفظ فتحفظ الخطبة ويبقى النموذج فارغاً للمرة القادمة ، ومن فوائده أنه يعطيك تصور عن طول الخطبة ، والنموذج عبارة عن وجهين في صفحة تقصها من الوسط ،افتح النموذج من المرفقات واحتفظ به في جهازك


عملت إرفاق لملف الوورد لكن يظهر لي إشارة ملف خاطيء ولا أدري ما السبب؟
هل من مساعدة؟


نفع الله بك شيخنا الفاضل وبارك في جهودك..


جزاك الله خيرا ونفع بك


شكر الله تعالى لكم إخواني الكرام على مروركم وتعليقاتكم وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم ويجزيكم عني خير الجزاء آمين..
وأشكرك لك أخي القمة مباركتك لي، وأما ما سألت عنه فأنا جاهل في التقنيات فلعل الإخوة الفنيين في الموقع يجيبونك..