الاستفادة من الوقت في رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستفادة من الوقت في رمضان

خطبة 8/9/1433هـ

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الداعي إلى بابه الموفق من شاء لصوابه أنعم بإنزال كتابه يشتمل على محكم ومتشابه، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتيسير أسبابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرجو بها النجاة من عقابه.

 

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

 

يا رب يا جبار يا متكبـــرٌ *** يا خالق الأكوان يا باري البشر

يا قابضٌ يا باسط يا خـافضٌ *** يا رافعٌ أنت المعز لمن جـأر

أنت المذلّ لمن بغى أنت السميع *** لمن دعا أنت البصير بمن مكر

جُد يا حسيب ويا جليل ويا كريم *** ويا رقيب ويا مجيب من انتصر

 

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل ا لناس عملا في ذهابه وإيابه.

 

إن البرية يوم مبعث أحمد *** نظر الإله لها فبدّل حالها

بل كرم الإنسان حين اختار من *** خير البرية نجمها وهلالها

لبس المرقع وهو قائد أمة *** جبت الكنوز فكسّرت أعلامها

لما رآها الله تمشي نحوه *** لا تبتغي إلا رضاه سعى لها

 

عباد الله: في رمضان تزدحم الوظائف التعبدية: كالصيام، والقيام، والتهجد، والزكاة، والصدقة، وقراءة القرآن، والاعتكاف، وتفطير الصائم.

 

وفي هذه الحالة يجب على المسلم عدة أمور:

أولها: أن ينظر إلى الفرائض أولاً فيؤديها؛ فما تقرب عبد إلى الله -تعالى- بأحب مما افترضه عليه؛ فلا يجوز أن يتصدق وهو مدين ومطالب به، أو لم يؤد زكاته، أو لم يعط أهله نفقتهم، ولا يجوز أن يتنفل بالصلاة وعليه قضاء فرائض، أو وجب عليه الجهاد، أو الفتوى حالاً، وهنا تكون العبادة بالنافلة لهواً؛ كما قيل:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الكريهة تتعب

أو كان يخضب جيده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** رهج السنابك والغبار الأطيب

 

ودخل ابن مسعود -رضي الله عنه- على أناس يجلسون في مسجد البصرة يسبحون والأعداء من الفرس يخططون لقتالهم، فطردهم من المسجد، وقال في معنى كلامه: إن جلستم هاهنا فمن يقاتل العدو ومن يحمي الثغور؟

 

ثانيها: أن يغتنم المسلم وقت النشاط والحالة الجمعية الخيِّرة التي تعم البلاد والعباد؛ فإنها فرصة لا تقع دائماً، فليس المساجد معمورة في غير رمضان مثله، ولا الصدقات توزع في غيره مثله، ولا القرآن يتلى في غيره مثله، ولا التراويح تصلى إلا فيه، وكذلك الاعتكاف، وفوق ذلك الشياطين مسلسلة والجنة مفتوحة وجهنم مغلقة والملائكة عامرة، وهذا يشجع ويشد المسلم إلى المشاركة في العبادات والنشاطات الرمضانية؛ فعلينا أن نغالب أنفسنا في هذه الأوقات المباركة، ونبادر نشاطها؛ قال صلى الله عليه وسلّم: "إن لكل عمل شرَّة، ولكل شرةٍ فترة"(رواه أحمد بسند حسن)، وقال صلى الله عليه وسلم: "تعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده"(رواه الطبراني والبيهقي عن أنس بسند جيد" .

 

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وإن لها فترة وإدباراً، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها .

 

ثالثها: التنافس مع الآخرين في الخير؛ قال سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وقيل: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما علم أن موسى -عليه السلام- أتباعه كثيرون يسدون الأفق حزن أنه لم يصل لهذه المنزلة؛ فأرضاه الله -سبحانه-: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)؛ فكان يحب أن يكون هو السابق في كل خير صلى الله عليه وسلم.

 

فلمَ ترضى أن يسبقك غيرك إلى الخير وأنت قادر على سبقه، بعلمك أو قوتك أو مالك أو سعيك في الأرض؟ أعرف بعض التجار الذين إذا حضروا في عمل خيري لا يرضون إلا أن يكونوا السابقين مهما كان المبلغ المدفوع.

 

التنافس المرجو خيره هو في مرضاته -سبحانه- وفي الذكر الحسن عند المؤمنين، لا التنافس في اللهو واللعب والمتعة بما يشغل عن ذكر الله، صحيح أن التنافس في المباحات جائز لكن في غير هذه الأوقات المخصوصة.

 

رابعها: معرفة قيمة الوقت وسرعة انقضائه؛ قال صلى الله عليه وسلّم: "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك"(رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس)، والوقت هو العمر، وما أسرع ذهابه؛ (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، الأذكياء يعلمون أهمية الوقت واغتنامه، ووالله ما نجح تاجر ولا عالم ولا قائد أمة إلا باغتنام الأوقات، واقتناص الفرص.

 

إن لله عباداً فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحيٍّ وطنا

جعلوها لجةً واتخذوا ص *** الح الأعمال فيها سفنا

 

قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

 

أيها المسلمون: وخامس ما ينبغي للصائم فعله في رمضان مع ازدحام العبادات فيه هو التنويع في العبادات؛ فمن الأفضل أن يكون المسلم له مشاركة فاعلة في كل أمر فيه خير، ولا يقصر نفسه على باب خير واحد إن استطاع؛ فقد سبق أبو بكر -رضي الله عنه- أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيمان والتصديق، وسبقهم في الإنفاق، وسبقهم في الجهاد، وسبقهم في الخشوع، وسبقهم في حب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرجو أن تكون من الذين يدعون من أبواب الجنة كلها".

 

أيها المسلمون: ومن حكمة الله -تعالى- أن تتنوع الأعمال الخيرية، والذين يقصرون العمل الأفضل على سقي الماء أو إطعام الفقراء أو الجهاد أو الصلاة مخطئون؛ فكل ميسر لما خلق له، وسقي الماء يكون أفضل في القحط والمناطق القاحلة، والجهاد يكون أفضل في حال الخطر على الأمة... وهكذا.

 

عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.

 

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.

 

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.

 

المشاهدات 286 | التعليقات 0