الاستعداد لرمضان

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكبير المتعال، الغني ذو الجمال والجلال، تنزه عن الشبه والمثال، والنقص والحلول، وتقدّس بصفات الكمال، سبحانه وتعالى من إله عظيم وخالق كريم وربٍّ كثير النوال، اختصنا بكتابه والسبع الطوال، وبرسوله الشاكر لربه على كل حال، فنحمده حمداً ليس له منتهى ولا يعقبه سؤال.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توحيداً بلا شرك، ووصفاً بلا تشبيه، وإثباتاً بلا تكييف، إلى أن نلقاه يوم الفصال، ونشهد أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله وأمينه على وحيه بلَّغ رسالة ربه كما أمره لا كما يقول أهل البدع والضلال، صلى الله وسلم عليه..

 

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: مدرسة ستفتح أبوابها بعد أيام قليلة؛ فهل ترى نحيا فندرك هذه المدرسة ونلتحق بها؟ وإذا التحقنا بها هل نخرج منها مع الفائزين أو الخاسرين؟ كان بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في آخر رمضان: يا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه ومن المحروم منا فنعزيه.

 

إنها مدرسة رمضان، مدرسة التقوى والقرآن، وموسم الرحمة والغفران، والعتق من النيران، إنها دورة إيمانية سنسجل فيها جميعاً، وتوزع علينا الشهادات في آخرها، ولكنها ليست كأي دورة، وليست شهادتها كأي شهادة، إنها دورة في التربية على قوة الإرادة والصبر: عن الطعام والشهوات، والغضب.، والتربية على النظام، وتقوية الجانب الروحي، والصحة الجسدية؛ "صوموا تصحوا"، والتذكير بالمحرومين، والتعود على الإخلاص، وشعور الإنسان بحاجته إلى الطعام تشعره بغنى الحالق.

 

وشهادتها هي المغفرة من جميع الذنوب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك رمضان فلم يغفر له فهو في النار"(رواه ابن حبان والحاكم)، الله أكبر، تعود بعد رمضان كما ولدتك أمك؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر"(مسلم).

 

عباد الله: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعد لاستقبال رمضان من بداية شعبان؛ فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي اللهُ عَنْهَا- قَالتْ: كَانَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُول: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُول: لا يَصُومُ؛ فَمَا رَأَيْتُ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَل صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ"(رواه البخاري).

 

وعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَال: قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، لمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؛ قَال: "ذَلكَ شَهْرٌ يَغْفُل النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ"(رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة وصححه).

 

وكان أحب الصوم إليه -صلى الله عليه وسلم- صوم شعبان(رواه أحمد عن أنس -رضي الله عنه-.(

 

معاشر المسلمين: لم يبق من شعبان كثيراً لنصومه، ولكن الاستعداد القلبي لرمضان، وتهيئة النية من الآن لصيام رمضان وقيامه؛ فإن العبد يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله، ويكتب للمسلم ما نواه بصدق وإن لم يدركه؛ قال الله -تعالى-: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

 

الاستعداد بالقرآن: قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضعيف والمسكين على صيام رمضان، وقال أحد السلف: شعبان شهر القُرَّاء.

 

أيها الإخوة: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيقول يوم القيامة: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)؛ فاحذروا أن تكونوا ممن هجر القرآن الكريم؛ ليس القرآن في رمضان فقط، القرآن الكريم في كل وقت، لا يقل أحدنا أنا مشغول بـأمور الخير، وأمور بيتي، وأمور عائلتي ...الخ، ولا وقت لدي لقراءة القرآن، والأهم هو العمل بالقرآن..الخ من الأعذار، ونقول له: لا تقل كلمة حق تريد بها باطل.

 

وهجر القرآن أنواع؛ منه: هجر التلاوة، وهجر العمل، وهجر التحاكم، وهجر التدبر، وهجر الإيمان؛ قال ابن كثير: وَتَرْك الْإِيمَان بِهِ وَتَرْك تَصْدِيقه مِنْ هِجْرَانه وَتَرْك تَدَبُّره وَتَفَهُّمه مِنْ هِجْرَانه وَتَرْك الْعَمَل بِهِ وَامْتِثَال أَوَامِره وَاجْتِنَاب زَوَاجِره مِنْ هِجْرَانه وَالْعُدُول عَنْهُ إِلَى غَيْره مِنْ شِعْر أَوْ قَوْل أَوْ غِنَاء أَوْ لَهْو أَوْ كَلَام أَوْ طَرِيقَة مَأْخُوذَة مِنْ غَيْره مِنْ هِجْرَانه.اهـ.

 

عباد الله: إن تلاوة القرآن الكريم بركة وطهارة، وتزكية وحضارة، ورقي واستعلاء على الشهوات، وحرية وشجاعة أمام الشياطين من الإنس والجن، ربع ساعة تستطيع أن تقرأ فيه نصف جزء أو نحوه، وبذلك تقرأ جزأين في اليوم قبل الصلوات أو بعدها وتختم في 15 يوم، والمتوسط الختم خلال شهر في غير رمضان، والذي يفوته يوم لا يقرأ فيه شيئاً من القرآن يعوضه في اليوم التالي بمضاعفة القراءة.

 

الاستعداد بتصفية النفوس: شعبان شهر ترفع فيه الأعمال رفعاً شاملاً غير الرفع الأسبوعي واليومي؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين"(رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة؛ فإذا كانت ترفع الأعمال أو يسجل فيه عمل السنة، فحري بالمسلم أن يتجنب أي أمر يحجب رفع الأعمال؛ كالحسد والبغضاء والتقاطع بسبب الدنيا والخلاف حول عرضها الزائل.

 

أيها المسلمون: إننا بحاجة إلى القلب السليم، الذي دعا إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يلقى ربه به؛ فقال عليه السلام: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، والقلب السليم الذي سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- القلب المخموم؛ قال -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: أيُّ الناس أفضل؟ فقال: كلُّ مخمومِ القلب، صدوقِ اللسان؛ قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفه، فما مخمومُ القلب؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هو التَّقيّ النَّقيّ، لا إثمَ فيه ولا بَغْي، ولا غِلّ ولا حَسَد"(رواه ابن ماجه بسند صحيح(.

 

لا يليق أن يستقبل المسلم رمضان بقلب حقود، أو حسود؛ هل تعلمون -أيها الإخوة- أن الله -تعالى- يهدي من اختار الهداية، وهيأ قلبه للإيمان والسعادة؛ قال الله -سبحانه-: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)، وقال عزوجل: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)؛ فرمضان إنما يعطي هباته ويمنح نفحاته للقلوب المقبلة المهيأة للصلاح.

 

الاستعداد بالتلاحم: وبمناسبة الأحداث الأليمة في منطقتنا العزيزة التي تريد أن تشغل المسلمين عن فريضتهم وعن اهتماماتهم الأخروية يحتم علينا واجب الوقت أن لا ننشغل بالقيل والقال والتحليلات والأخبار عن تلاوة القرآن الكريم، ولا نستجيب لمحاولات تفتيت المجتمع بالتفجيرات والأعمال الإجرامية؛ فقد وحدنا الصيام ووحدنا رمضان فلم الفرقة؟

 

لا يجوز أن يشغلنا الأعداء عن فرائضنا وسنننا وصيامنا وقيامنا وصدقاتنا، بالعكس من ذلك؛ فإن الطبيعي أن يلجأ الناس إلى ربهم -سبحانه- في الشدائد؛ قال سبحانه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).

 

أما المؤمنون فهم يعرفون الله -تعالى- في الرخاء والشدة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"(رواه أحمد)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء"(رواه الترمذي والحاكم وصححه).

 

لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلتحم بإخوانه المؤمنين في مواجهة الأعداء، كما فعل في الخندق، وبدر وأحد، وفي الوقت نفسه يذكر الله -تعالى- في هذه المواقف العصيبة؛ كما روى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتهل إلى الله -تعالى- بالدعاء ويتضرع إليه بين يدي غزوة بدر وهو في العريش: "اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني"، حتى كاد رداؤه يسقط عن عاتقيه، هذا وهو موعود بالنصر، فكيف حال من لم يكن موعوداً كحالنا؟

 

قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

 

أيها الإخوة المؤمنون: بعد الابتعاد عن المكث في المساجد 11 شهراً، بعد هجر ختم القرآن الكريم، بعد قلة النوافل، بعد قلة الصيام، سيحل بنا شهر رمضان المبارك، فالله الله بتزكية النفوس، والاهتمام بالقلوب.

 

لا شيء في الإسلام يعدل القلب؛ قال الله -سبحانه-: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، إذاً: مدار الجسد كله على القلب؛ فهل حان الوقت لنلتفت إلى قلوبنا؟

 

قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: القلب ملك والأعضاء جنوده؛ فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده؛ وقال ابن القيم: أعمال القلوب هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة، وأن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث؛ فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.

 

عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.

 

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ

 

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.

المشاهدات 59 | التعليقات 0