الاستطالةُ على الأعراض

د عبدالعزيز التويجري
1444/06/26 - 2023/01/19 15:43PM
الخطبة الأولى : الاستطالةُ على الأعراض      27/ 6 / 1444ه
الحمد لله ذي العزة التي لا ترام والملكِ الذي لا يضام، قيوم لا ينام، عزيز ذو انتقام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً أما بعد عبدالله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم مزيدا ....
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
قال ابن إسحاق إمام المغازي والسير بينما رسول الله ﷺ يسوي صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ برجل من الْأَنْصَارِ يقال له سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ، فَطُعِنَ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ، وَقَالَ: اسْتَوِ يَا سَوَّادُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْجَعْتنِي وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، قَالَ: فَأَقِدْنِي . فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: اسْتَقِدْ، قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ: فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَّادُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r بِخَيْرِ.
     وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني          وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
     خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيـــــــبٍ           كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ
 رسالةُ وعظمةُ من هذا الرسولِ الكبير، أنّ كلَ حقٍ أو عتداءٍ في النفسِ أو في العرضِ أو في المالِ، صغرَ او كبر على أي مخلوق كان لابد أن يُردُ وأن يُقتَصَ منه«لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»أخرجه مسلم
الاعتداءُ بغيرِ حقٍ على الضعفةٍ والمساكينِ صغارا او كبارا شنيعةُ تستوجب النارَ. قال عليه الصلاة والسلام: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ».
 قال أَبو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ r، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ» أخرجه مسلم.
 من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد ،أركانها ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات ..
ذكرك أخاك بما يكره في حضوره سب وشتم وبما يكره في غيبته ؛ في بدنه، أو دينه أو دنياه، أو نفسه أو خَلقه، أو خُلقه أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسه، ذكره بواحدة من هذه بلفظ، أو إشارة، أو رمز، أو كتابة غيبة إن كان فيه، فإن لم يكن فيه ما قلت فغيبة وبهتان وظلم وكذب ظلمات بعضها فوق بعض، مع تعد لحدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
أعراضُ المسلمين عظيمةُ ولو كانت بكلمات قصيرة.. قالت عائشة رضي الله عنها: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبُكَ، من صفِيّة كذا وكذا - تعني قصيرةً- فقال: "لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحرِ لمزجتْه" قالت: وحكيتُ له إنساناً، فقال: "ما أُحِبُّ أنى حكيتُ إنساناً وإن لي كذا وكذا" أخرجه أبوداود بسند صحيح.
 وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ يَهُونَ على الْإِنْسَانِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، كما قال ابن القيم رحمه الله "فَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».
في سنن أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: "لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفارٌ من نُحاسٍ يخمُشونَ بها  وجُوهَهُم وصدُورَهُم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناس، ويقعونَ في أعراضِهِم". {جَزَاءً وفاقاً} {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
بحروف ملفوظة أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويُرضى عنه أو يُسخط عليه، إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات في الجنة ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ يهوي بها في جهنم }.
إن من الغبنِ العظيمِ والخسرانِ المبين أن يجتهدَ المرءُ رجلاً كان أم امرأة بجمع حسناتٍ عظيمةٍ من صلاةٍ وصيامٍ وبرٍ وإحسانٍ فيُهدرُها بكلمةِ تنقصٍ أو إزدراءٍ أوتفكهٍ أو حسدٍ لمسلمٍ أو مسلمة «فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». ووالله لايدخلُ أحدُ الجنةَ وعندَهُ مظلمةٌ لأخيهِ حتى يُقتصَ منه..في صحيح الإمام البخاري قال عليه الصلاة والسلام: " إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ،
 ومن المصائبِ والمصائبُ جمةٌ .. أن يبتلى المرءُ بصديقٍ له يأمنه، يَعرفُ منه ما لا يعرفه غيرُهُ، فيغدُرهُ بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيرهٍ، ليَذْكُرُه عندَه بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليُجازَى بجائزةٍ إنما هي لعاعةٌ من الدنيا، طعامٌ أو كساءٌ أو دينارٌ أو إطراء ، إنما هي بمثِلها في جهنم.. أخرج أبو داود في سننه وصححه الألباني أن رسول الله ﷺ قال: "من أكل بِرجُلٍ مُسلم أكلةً فإنَّ اللهُ يطعمهُ مِثلَها مِن جهنَّم، ومن كُسِي ثوباً برجُلٍ مسلم فإنَّ الله يكسوه مِثْلَهُ من جهنَّم، ومن قام برجل مقام سُمعَةٍ ورِياء فإن الله يقومُ به مقامَ سُمعة ورِياء يومَ القيامَةِ".
 ألا أبعد اللهُ لقمةً أوخبزةً أهتكُ بها ديني وأخاطرُ من أجلِها بآخرتي."ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريدُ شَيْنَهُ بهِ حبسهُ الله على جسرِ جهنم، حتى يخرُجَ مما قال"اخرجه اهل السنن.
 ألم تر أن الليث ليس يضيره       إذا نبحت يوماً عليه كلاب
حق المسلمِ على أخيهِ أن ينصرَه إذا ظُلِم، ويَذبَ عن عرضه إذا خيض فيه، فإن في ذلك أجراً عظيماً، وفي خذلانه إثماً مبيناً، والمؤمنُ مرآة المؤمنِ يحوطه من ورائه . ثبت أن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " "من حمى مُؤمناً مِن مُنافِقٍ بعثَ اللهُ مَلَكاً يحمي لحمَه يوم القيامةِ من نارِ جهنم، وما من امرئٍ يخذُلُ امرَأً مسلماً في موضعِ تُنتهَكُ فيه حرمتُهُ، ويُنتقَصُ فيه من عِرْضِهِ، إلا خذلَهُ الله في موطِنٍ يُحبُّ فيه نُصرَتَهُ، وما من امرئٍ ينصُرُ مُسلِماً في موضعِ يُنْتَقَصُ فيه مِن عِرْضِهِ، ويُنتهَكُ فيهِ من حُرمتِه إلا نصرَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ في موطنٍ يُحِبُّ فيه نُصرتَه" وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله ﷺ في حق إخوانهم .. ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مقراً لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعاً لمثله بالرد والذب.
أقول أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور
 الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله اجمعين اما .. بعد
 الوقيعةُ في الأعراض بضاعةُ الجبناء، وكفُّ اللسانِ عن المسلمين سمةُ العلماء، وكلُ إلى جنسه يحن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفظهم وطهر ألسنتهم، اجتنبوا الغيبةَ والطعنَ والهمزَ واللمزَ كما تُجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تدار في مجالسهم كما لا يسمحون لكئوس الخمر أجارهم الله أن تدار فيها.
يقول أحدهم: صحبت فلاناً عشرين سنة والله ما سمعت منه كلمة تعاب. ويقول آخر والله ما اغتبت مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة.
الإمامُ أبو عبدالله البخاري كان إذا أراد ان يُضعف رجلا في الحديث، قال: فيه نظر . وكان يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
 قال ابن معين -إمام علم الرجال في الحديث- : انا لنطعن على اقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة، قال ابن جنيد: فدخلتُ على ابن أبى حاتم وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى وارتعدت يداه وسقط الكتاب وجعل يبكى ويستعيدني الحكاية.
 سلفٌ إذا مر الزمانُ بذكرهم      وقف الزمانُ لهم مجلاً مكبرا
 اللهم طهر قلوبنا من النفاق ، وألسنتنا من الغيبة وقول الزور ، واموالنا من الربا وأكل الحرام واحفظنا بحفظك واستر علينا بسترك يا عزيز يارحيم
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..
المرفقات

1674136409_الاستطالةُ على الأعراض.pdf

1674136413_الاستطالةُ على الأعراض.docx

المشاهدات 1029 | التعليقات 0