الاستشارة .. آداب وأحكام | د. محمد العريفي

الاستشارة آدابٌ وأحكام

إنَّ الحمدَ لله نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ تعالى من شُرورِ أنفُسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَه، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، جَلَّ عن الشبيهِ والمثيلِ والكُفْءِ والنظير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وصَفيُّهُ وخليلُه، صلى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ الطيبين، وأصحابهِ الغُرِّ الميامين، ما اتَّصلت عينٌ بِنَظَر، ووَعَتْ أُذُنٌ بخَبَر، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيُّها الإخوةُ الكرام:

 خلقَ اللهُ - جَلَّ وعلا- الخلقَ، وفاوَتَ بينَهم، ففضَّلَ بعضَهم على بعضٍ في الأرزاق، أو في الذَّكاء، أو في الحكمةِ والـمَشورة والرأي، وأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وآلهِ وسلمَ أن يُحسِنَ كُلُّ امرئٍ إلى أخيه بما أنعَمَ اللهُ تعالى بهِ عليه؛ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ» قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ" رواه مسلم.

واللهُ تعالى وصفَ المؤمنينَ بأنَّهم إخوةٌ في الدين والإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وإنَّ من لَوازِمِ الأُخُوَّةِ الإيمانيةِ أن تَبذُلَ الرأيَ والـمَشورَةَ لأخيكَ ، وهو من أعظمِ ما يَبذُلُه المؤمن لأخيه ، ثم إنَّ اللهَ تعالى أمرَ المؤمنينَ أن يَتَحلَّوا بهذا الخُلُقِ العظيم والوَصف النبيل ، فقالَ سبحانه: {وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ثمَّ قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}  فمن آمنَ وعملَ صالحاً وبذلَ النُّصحَ بالحقِّ والصبرِ فقد انتفى عنه وصفُ الخسران، والتحقَ بركبِ أهلِ الفلاح.

وقد وصفَ اللهُ جلَّ وعلا المؤمنين بأنَّهم يبذلونَ المشورةَ لبعضِهم ويتداولونَها بينهم، فقال سبحانه: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فيُشيرُ صاحبُ الخبرةِ الواسِعةِ على من هو أقلُّ خبرةً منه، ويشيرُ صاحبُ الحكمةِ الكبيرةِ على من حُرِمَ من ذلك، ويشيرُ صاحبُ الذكاءِ والمعرفةِ والرأي على من كانَ دونَهُ في ذلك، فأمرُهم شورى بينهم.

بل جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تقديمَ النُّصحِ وبَذْلَ المشورةِ من حقِّ المسلمِ على أخيهِ المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ" رواه مسلم . وذكرَ منها عليه الصلاة والسلام: "وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ" أي: إذا طلبَ مَشورَتَكَ أو رأيك أو الاستفادةَ من خِبرَتِك فيجبُ عليكَ أن تَبذُلَ له ذلك، وهو حقٌ له عليك.

بل أمرَ اللهُ جلَّ وعلا نبيَّنا عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، وهو الذي يأتيهِ الوَحيُ من السماء؛ ومعَ ذلك أمرَهُ اللهُ تعالى بطلبِ المشورةِ فقالَ جلَّ وعلا: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} شاورهم في أمرِ حَربِكَ وسِلمِكَ، شاورهم في أمر استقبالِكَ للوفود، شاورهم في قراراتِكَ قبلَ أن تَتَّخذَها.

 

أيُّها الإخوةُ المؤمنون:

مَن نَظَرَ في حياةِ سَيِّدِنا رسولِ الله عليه الصلاة والسلام وجدَ أنهُ كان يَعُمُّ حياتَه بالمشورةِ، سواءً أكانَ بطلبِها من الناسِ أو بذلـِها لهم، فها هو صلى الله عليه وسلم لما أقبلت قريشٌ لقتالِ المسلمينَ في بَدرٍ، جمعَ عليه الصلاة والسلام أصحابَه وقال لهم: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ" رواه البيهقي في دلائل النبوة .

 ولما أقبلت قريش في معركة الخندق جمع أصحابه صلى الله عليه وسلم واستشارَهم ، فلم تَمنعه رتبةُ النبوةِ أو العقلِ الوافرِ أو النسبِ الرفيع أو الخبرة الكبيرة من أن يستشير الناسَ بكلِّ تَواضع.

بل كان صلى الله عليه وسلم يستشيرُ حتى في بعض أموره الخاصة المتعلقةِ بأهلهِ وبيته أحياناً ، فكان عليه الصلاة والسلام يستنيرُ برأيِ غيره ممن هم أقلُّ منه، لعله يظهرُ له منهم رأيٌ يفيده صلى الله عليه وسلم، ألم ترَ لما وقعت حادثةُ الإفك، وكثُرَ الكلامُ على عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام وهي الطاهرةُ المطهرةُ المبرأةُ عائشةُ رضي الله عنها، فإذا به صلى الله عليه وسلم يدعو علياً وأسامةَ بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وأسامةُ يومئذٍ غلامٌ، ودعاهما لأنهما ممن خالَطَ أهلَ بيتهِ ويعرفانِ ما يدورُ داخلَ بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: "أشيرا علي؟" فما أصنع فيما يتكلم الناس به على أهلي؟.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يستشيرُ الناسَ، ويسمعُ رأيَهم، فلم يكن يتخذُ قراراً يخصُّ عامةَ الناسِ مُباشرةً من تِلقاءِ نفسه، بل كان إذا أشارَ عليه أحدٌ لم يَتكبَّر عن قبولِ مَشورَته، ففي صُلحِ الحُديبية خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهُ ألفٌ وأربعمائةِ صحابي، قد جاءوا بلباسِ إحرامِهم، قد أقبلوا وقلوبُهم معلقةٌ بالعمرة، فإذا بقريشٍ تمنعُهم من دخول الحرم، فلما طالَ عليه ذلك كتبَ عليه الصلاة والسلام بينه وبينَ قريشٍ صلحَ الحديبية المشهور، وفيه: أن يرجعَ المسلمون فلا يعتمروا من عامِهم هذا، وفيه: أنَّ من ارتَدَّ من المسلمين من المدينة، وأرادَ أن يلحقَ بمكة فيُقبل، وأما مَنْ آمن مِنْ أهل مكة وأراد أن يلحق بالمسلمين في المدينة فلا يُقبَل.

فكأنَّ الأمرَ اشتَدَّ على الصحابةِ فهم يرونَ صُلحاً ظاهِرُ بعضِ بُنودِه فيه ذُلٌّ للمسلمين، فلما انتهى من الصلحِ وعلمَ أنَّهم قد أُحصِروا عن بلوغِ المسجدِ الحرام، والمحصَرُ يَنحرُ هَديَهُ ويحلقُ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا"، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ ،فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا" رواه البخاري ، وقَضَت أمُّ سلمةَ بهذا الرأي، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بقبولِه على أمرٍ كان قد أهمَّه، فلا تَحقِرَنَّ أحداً أن تأخذَ منه الرأي.

فأم سلمة لما عرضت رأيَها ما قال لها: من أنتِ حتى تعطيني الرأي؟ أو كيف تتجرئين أصلاً أن تعرضي رأيك؟ وأنا الذي لا أنطقُ عن الهوى، ويأتيني الوحيُ من ربِّ السماء! بل قَبِلَ رأيَها، فكان رأيُها رحمةً ونجاةً للمسلمين من غضبِ الله ورسوله.

أيُّها الأحبَّةُ الكرام:

كانَ الصحابةُ - رضوان الله عليهم- يَستشيرونَ غيرَهم، فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- لما تُوفِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت فتنةُ المرتدين، جَمَعَ الصحابةَ؛ وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس! وجعلَ يسمعُ منهم، ولم يكن يتخذُ قراراً إلّا وقد استشارَ الصحابةَ الكرام فيه.

وهذا الفاروقُ عمرُ -رضي الله عنه- كان عندَهُ مجلسٌ للشورى، وكان يحتوي شباباً وشيوخاً، فلم يَحصُر مجلِسَهُ بكبارِ السنِّ فقط؛ بل لا بُدَّ أن يكون الذين يُعطونك الرأي مُتنوعين في إدراكِهم وعُقولِهم وحياتِهم، ولما طعنَ المجوسيُّ أميرَ المؤمنين، وأحسَّ بِدُنُوِّ أجلِهِ، وهو في ساعةِ الاحتضار، مع ما يُعانيهِ من آلام، دعا مجلسَ الشورى من الصحابة، فقال لهم: ما رأيُكم من يَتَولَّى الأمرَ؟ فأشاروا عليه أن يجعلَ الأمرَ في ستةٍ من الصحابة، وهم يَختارون واحداً منهم، فاختارَ ستةً من الصحابةِ، وقال: أمرُ الخلافةِ لا يخرجُ عن هؤلاءِ الستة، والمشرفُ عليهم عبدُالله بن عمر، وليس له في الخلافةِ شيء، فلما اجتمعَ الستةُ بعد وفاةِ عمر، قال لهم عبدُالرحمن بن عوف :إني أتنازلُ عن حقي، وبقيتم أنتم أيها الخمسة.

ثم جعلَ عبدالرحمن يطوفُ على أهلِ المدينةِ يَستشيرُهم، قالوا: حتى كان يدخلُ على الأيتام، ويدخل على العجائزِ يستشيرُهم: من تَرضَون؟ هل تريدونَ فلاناً أم فلانا؟ وظَلَّ يستشيرُ حتى أجمعوا بعد ذلك على عثمانَ رضي الله تعالى عنهُ فصارَ هو الخليفةُ على المسلمين.

أيُّها الأحبَّةُ في الله :

كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يُعظِّمُ أمرَ المشورةِ جداً، ويُثني على الذي يَستشير، ولما نزلت آيةُ التخييرِ وهي قول الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} أي: أعطيكنّ المؤخرَ من الصداقِ وأطلِّقُكن.

دخلَ صلى الله عليه وسلم على نسائِهِ يَستشيرُهُنَّ يعرضُ عليهنَّ ما أمرَهُ اللهُ تعالى بعرضِه، فدخلَ على عائشةَ ثمَّ خَيَّرَها صلى الله عليه وسلم بينَ أن تَصبِرَ على ما هو فيه من شَظَفِ العيشِ أو يطلقها فتتزوجَ مَن عندَهُ شيءٌ من الدنيا، فقال لها: لا تَعجَلي! حتى تُشاوِري أبويك، قالت: يا رسول الله! أفيكَ أُشاوِر؟ بل أختارُ اللهَ ورسولَهُ والدارَ الآخِرَةَ فكان عليه الصلاة يأمُرُهم أن يُشاوِروا.

ولما عُرِجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفَرَضَ الله تعالى عليهِ الصلاةَ خمسينَ صلاةً في اليومِ والليلة، فمَرَّ بموسى عليه السلام، فقال له موسى: كم فرضَ عليكَ رَبُّك؟ قال: فرضَ عليَّ خمسينَ صلاة، قال: إنَّ أمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك!

ثم أعطى موسى لرسولِ اللهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ رأياً ومَشورةً فقالَ له: ارجِعْ إلى رَبِّكَ فاسألهُ التخفيفَ لأمتِك، فَقَبِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الرأيَ فرجعَ إلى ربِّهِ فسألَهُ التخفيفَ، فوضعَ عنهُ الله جلَّ وعلا عشرَ صلواتٍ، ثم رجعَ إلى موسى قال: كم فرضَ عليك ربُّك؟ قال: فرض عليَّ أربعينَ صلاةً، قال: إنَّ أمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك! ارجِعْ إلى رَبِّك فاسألهُ التخفيف لأمتك. فرجع عليه الصلاة والسلام فوضع الله عنه عشراً،  وكان صلى الله عليه وسلم يَقبَلُ من موسى مَشورَتَهُ حتى جعلَها الله تعالى خمسَ صلواتٍ على هذه الأمَّة.

مَعَاشِرَ الـمُؤمِنين :

إنَّ قَبولَ الرأيِ الصالحِ السليمِ هو: كمالٌ في عَقلِكَ، وليسَ نَقصاً فيه، بل ولا يكون المرءُ عاقِلاً حتى يأخُذَ الرأيَ ممن هو دونَه، كما يأخذُهُ ممن هو أعلى منه أو يُماثِلُه،  فلا تَرغَبَنَّ عن رأيِ زَوجَتِكَ أو وَلَدِكَ أو ربما بعضِ عمالك؛ لأن المستشيرَ لا يُفكِّرُ بعقلٍ واحد، بل يُفكرُ بعشرةِ عقول؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم يقيسُ الأمرَ بعقلهِ وفكرته وحِكمته وخبرته وتجارُبه في الحياة، حتى إذا استشارَ المرءُ ثم أخطأَ من أشارَ عليه، فإنهُ في داخِلَةِ نفسهِ لا يَندَم.

فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد استشارَ أصحابَه في معركةِ أُحُد، وأشاروا عليهِ بالخروجِ إليهم خارجَ المدينةِ، فقبلَ عليه الصلاة والسلام هذهِ المشورةَ، مع أنه كان يرى أن يَبقَوا في المدينةِ فإذا هجمَ الكفارُ عليهم قاتلوهم، ونزلَ عليهِ الصلاةُ والسلام إلى رأيِهم وخرجوا، ومع ذلك لما وقعَ ما وقع في أحد من استشهادِ سبعينَ من الصحابةِ، وإصابةِ النبي عليه الصلاة والسلام؛ لم يَندَمْ لأنَّ القرارَ ليسَ قرارَهُ فقط، بل هو قرارُ الجميع.

وثَـمَّتَ أمرٌ مهمٌ ألا وهو: إذا أردتَ أن تستشيرَ أحداً ينبغي أن تختارَ صاحبَ الأمانةِ، فلربَّما حَدَّثْتَ هذا المستشارَ بمشكلةٍ خاصةٍ مع ابنتِك أو ولدِك أو مع زوجتِك، وربما كانت المشكلةُ تتعلقُ بالأعراضِ والعِفَّة، فإذا لم يكن هذا المستشارُ دَيِّناً أميناً يخافُ اللهَ ويحفظُ أسرارَ الآخرينَ ربما ضرَّكَ، وصارَ يتحدثُ بهذهِ القصةِ بينَ الناس، فسبَّبَ لك الفضيحة.

بل حتى في مسائلِ الأموال، لا تَستَشِرْ إلّا الأمينَ الذي يخافُ الله، فكم من رجلٍ جمعَ مالاً، وأرادَ أن يفتحَ مَشروعاً تجارياً جديداً، ثم استشارَ رجلاً غيرَ أمين، فسرقَ منه الفكرة، وإذا به يفتحُ تلكَ المشاريعَ والتجارةَ ويُضيعها عليه.

أيُّها المسلمون :

ومِن المسائل الواجب مُراعَاتها في الاستشارة ألا تستشير إلا رجلًا عاقلاً يُجيد الرأيَ والمشورة، واحذَرِ الجاهلَ لأنَّ فاقِدَ الشيءِ لا يُعطيه، وربما أَفْسَدَ من حيثُ أراد الإصلاح.

اجتَمعَ في الحجِّ ثلاثةُ رجالٍ من بينِهم الخارجيُّ المجرمُ عبدالرحمن بن ملجم الذي قتلَ علياً رضي الله تعالى عنه، فتذاكروا حالَ المسلمين وتألَّموا من تَفَرُّقِهم يومَذاك على ثلاثةِ ، فكانَ عليٌّ رضي الله عنه يحكمُ مكةَ والمدينةَ والعراقَ، ومعاويةُ رضي الله عنه يحكمُ الشامَ، وعمرو بن العاص رضي الله عنه يحكمُ مِصر.

فقال ابن ملجم لصاحبيه: أشيروا عليَّ؟ وهنا مكمنُ الخطأ أنَّه استشارَ جهلةً  غَوغاء، أضروا بالأمة من حيثُ أرادوا نَفْعَها.

قالوا: إنَّ المشكلةَ تَكمُنُ في الثلاثةِ الذينَ يَتَوَلَّون، فلو قَتلناهم لاجتَمعَ المسلمونَ على رجلٍ واحد! وفعلاً قَسَّموا القتلَ بينَهم، فقالَ ابن ملجم المجرم: أنا أقتلُ علياً، وقال الثاني: أنا أقتلُ معاويةَ، وقال الثالث: أنا أقتلُ عمرو بن العاص.

وخرجوا من الحجِّ بعدَما خَلَعوا إحرامَهم، ومضى كلُّ واحدٍ إلى واحدٍ من هؤلاءِ لِيَقْتُلَه، وذهبَ ابن ملجم فكَمَنَ لعليٍّ رضي الله عنه في المسجد، فلما دخلَ عليٌّ رضي الله عنه المسجدَ ليُصليَ بالناس، علاهُ ذلكَ المجرمُ بسيفهِ حتى قتلَه، ومضى من مضى إلى معاويةَ وضربهُ بالسيفِ لكنهُ ما استطاعَ أن يصيبَ منهُ مَقتلًا، ومضى من مضى إلى عمرو ليقتله، وإذا عمرو في ذلك اليومِ مريضٌ ولم يُصَلِّ بالناسِ إماماً، وصلَّى بهم خارجةُ بن زيد، فقَتَلَ خارجةَ يظنُّهُ عمراً حتى قال الشاعر:

يا لَيتَها إِذْ فَدَتْ عَمراً بخارِجَةَ           فَدَتْ عَلِيّاً بـِمـَنْ شَاءَتْ مِنَ البَشَرِ

يقول: يا ليتَ المنيةَ لما أخَّرَت عمراً، وفَدَتْهُ بخارجةَ فقُتِلَ خارجةُ مكانَ عمرو، يا ليتَها فَدَتْ علياً ذلك اليومَ أيضاً فأخَّرَتْه ولم يَخرُجْ للصلاةِ بالناسِ فقُتِل غيرُه.

فانظُر إلى نتيجةِ هذهِ المشورةِ الباطِلَةِ لما استشارَ الجهلَةَ وأصحابَ الفِكرِ السيِّءِ! لقد قَتَلَ سَيِّدَنا علياً رضي الله عنه، وشَتَّتَ الأمةَ بعد إرادَتِهِ لمَّ شَملِها، والأعظمُ من هذا أنَّهُ يعتقدُ أنَّ هذا الإجرامَ دينٌ وقُربَةٌ إلى الله.

فاحرِصْ أيها المسلم: على الاستِشارةِ دائماً في حياتِكَ كلِّها، سواءً في بَيعِكَ أو شِرائِكَ أو قَرارَاتِك وفي وظيفَتِك، بل في كلِّ أمرِك استَشِرْ أصحابَ الأمانَة، أصحابَ حِفظِ السِّر، أصحابَ العقولِ الراجِحَةِ فإنَّك لَن تَخيبَ ولن تَندمَ بإذنِ الله.

أسألُ اللهَ تعالى أن يَنفعَنا وإياكم بما سمعنا، وأن يُعطِيَنا وإياكم عقلاً راجحاً، وحِكمَةً واسِعًة.

أقولُ ما تَسعمون، وأستغفرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولَكم من كُلِّ ذَنبٍ، فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على تَوفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ تَعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى رِضوانِه، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلهِ وإخوانِهِ وخِلَّانِه، ومن سارَ على نَهجِهِ، واقْتَفى أثَــرَهُ، واسْتَــنَّ بسُنتهِ إلى يومِ الدين ، أما بعد:

أيُّها الأحبَّةُ في الله :

لا يَستَغنِي المسلمُ مع الاستشارةِ عن أمرَين:

الأمرُ الأول: أن يَدعو اللهَ أن يَهدِيَهُ إلى الخيرِ، فيقول: يا رَبِّ وَفِّقْني للخَير، ويَسِّرْ أمري للحقِّ والصواب، ويَسِّرْ ما فيهِ الخيرُ لي.

الأمرُ الثاني: أنْ يَسْتَخيرَ اللهَ عزَّ وجَلَّ فيما أقدمَ عليه، والاستِخارَةُ هيَ طلبُ المشورةِ من رَبِّنا تعالى.

روى البخاريُّ في صحيحهِ من حديث جابر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ" كزواجٍ, أو تجارةٍ, أو وظيفةٍ, أو طلاقٍ, أو قرارٍ مُعينٍ تتخذُهُ، فماذا يفعل؟

"فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ" أي يُصليَ ركعتين نافلةً، فلا بأسَ إذا دخلتَ المسجدَ وأردتَ أن تصليَ تحيةَ المسجدِ أو راتبةَ المغربِ أو العشاءِ أو غيرِها، فتنويَ بها تلكَ السنةَ والاستخارةَ معَا .

قال:"ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ  ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ " كأن يقول: إن كُنتَ تَعلَمُ أنَّ زواجي من فلانة؟ أو إنْ كُنتَ تَعلَمُ أنَّ طلاقي لزوجَتي؟ أو إن كنت تعلم أنَّ شِرائي لهذا الشيءِ؟ ويُسَميهِ باسمِه.

"اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - قَالَ: أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ ".

فإنْ كانَ قد حَفِظَ هذا الدعاءَ فَلْيَقْرَأْهُ في نهايةِ الصلاةِ قبلَ أن يُسَلِّمَ، وإن لم يَحفظهُ فليقرأهُ بعدَ أن يُتِمَّ صلاتَهُ ويُسَلِّم.

ويجوزُ لهُ أن يَجمعَ أمرَين أو أكثرَ في استخارةٍ واحدة، فيقولُ مثلاً: إن كنتَ تعلمُ أن زواجي من فلانةٍ، وشرائي لهذا البيتِ وسفري إلى كذا، خيرٌ فيَسِّرْهُ لي...

فإن تَبَيَّنَ لهُ الحقُّ، واطْمَأَنَّتْ نفسُهُ إلى قرار: فَبِهَا ونِعْمَتْ، وإلّا جازَ أن يَستخيرَ مرةً أُخرى، أو ثالثةً أو رابعةً حتى يَشعُرَ باطمئنانٍ إلى هذا الأمرِ أو يُصْرَف عنه، فيرى أنَّهُ لا يُوَفَّقُ له.

أسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يجعلَنا ممن يَتَخَلَّقونَ بأخلاقِ الأنبياء ، و من أهلِ الاستخارَةِ والاستشارَة.

أسألُ اللهَ أن يَهدِيَنا سُبُلَ الحقِّ والهدى، وأن يَجعلَنا ممن يَقتَدون بِنَبِيِّنا عليه الصلاة والسلام ويَهتَدونَ بِهَديِه.

 

اللهمَّ وفِقنا لفعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحُبِّ المساكين ، اللهمَّ اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا اللهمَّ من كانَ منهم حياً فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك واخْتِمْ لنا ولَه بخير ومن كان منهم مَيِّتاً فَوَسِّعْ له في قَبْرِهِ وضاعِفْ له حسناتِه وتَجاوزْ عن سيئاتِه واجمعْنا بهِ في جنَّتِك يا رَبَّ العالمين اللهمَّ أصْلِحْ أحوالَ المسلمين في كُلِّ مكان

اللهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الـمَهْمومين، ونَفِّسْ كَرْبَ الـمَكْروبين واقْضِ الدَّينَ عنِ الـمَدينين ، واشْفِ مَرْضَى الـمـُسلِمين .

اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ، ولا همّاً إلا فرّجْته ، ولا دَيناً إلا قضيته ، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته ، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين .

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين.

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ؛ كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مَجيد.

 

عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .

سبحانَ ربِّك رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين

 

المرفقات

آداب-وأحكام-5

آداب-وأحكام-5

آداب-وأحكام-6

آداب-وأحكام-6

المشاهدات 1839 | التعليقات 0