الاستسلام لقدر الله
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حق التقوى، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
إخوتي في الله! الاستسلامُ للهِ في قضائِه وقَدَرِه رُكْنٌ عظيمٌ من أركان الإيمان، وقُوَّةٌ كبيرة في النفسِ، لا تضعُف مع كِبَر السنِّ وانْصِرام الزَّمان، بل هي تَزِيد قُوةً وصلابةً كُلَّما شَعر المؤمن بأثرها، وسِرُّها الاستسلامُ لله عز وجل، وصلت البشريةُ إلى حقيقةٍ هي عندنا عقيدةٌ، وقد ألَّف فيها كبار المفكرين الغربيين، وهي أنَّ الاستجابةَ للْقَدَرِ بكل أحوالِه يعطي القوةَ والطمأنينةَ، لكنَّهم لم يُوفَّقوا لتوحيدِ المقدِّر جل وعلا.
وعلى النقيضِ من ذلك التمرُّدُ على قضاءِ الله، فهو النهاية الدنيوية والأخروية، وهذا معنى ما جاء في صحيحِ مسلمٍ من حديث صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لأَمْرِ المؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»([1])، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن يتضاعَفُ غُنْمُه وخَيْرُه وثمَرَاتُ أعماله في كل ما يَطْرُقُه من السرور والمكاره.
لهذا تجد اثْنَيْن تطرُقُهما نائبةٌ من نوائب الخيرِ أو الشرِّ، فيَتفاوتان تفاوتًا عظيمًا في تَلقِّيها، وذلك بحسب تفاوتهما في الإيمان والعمل الصالح. فالمؤمِنُ يَحْدث له السرور والابتهاج، وزوالُ الهمِّ والغمِّ، والقلقِ، وضيقِ الصدْرِ، وشقاءِ الحياة، وتتمُّ له الحياةُ الطيِّبةُ في هذه الدارِ. فالمؤمن إذا ابْتُلِي بمرضٍ أو فقرٍ، أو نحوِه مِن الأعراض التي كلُّ أحدٍ عُرْضَةٌ لها، فإنه - بإيمانه وبما عنده من القناعةِ والرضى بما قسم الله له- يكونُ قريرَ العينِ، لا يتطلَّبُ بقلبه أمرًا لم يُقَدَّرْ له، ينظر إلى مَنْ هو دونه، ولا ينظر إلى مَنْ هو فوقه، وربما زادت بهجتُه وسرورُه وراحتُه على من هو مُتَحَصِّلٌ على جميعِ المطالب الدنيوية إذا لم يُؤْتَ القناعةَ.
فالمؤمنُ يتلقَّى المكارِهَ والمضارَّ والهمَّ والغمَّ بالمقاومةِ لما يمكنُه مقاومته، وتخفيفِ ما يمكنُه تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهُ منه بُدٌّ، وبذلك يحصل له مِن آثار المكارِه مِنَ المقاومات النافعة، والتجارب والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمور عظيمة تضمحلُّ معها المكاره، وتحلُّ محلها المسارُّ والآمالُ الطيبة، والطمعُ في فضل الله وثوابه.
فالبَّرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية، وفي الغريزة التي تُلَطِّف المخاوف وتُهَوِّنُها، ولكن يتميز المؤمنُ بقوة إيمانِه وصبره وتوكُّلِه على الله واعتماده عليه، واحتسابِه لثوابه. أمورًا تزداد بها شجاعته، وتخفف عنه وطأةَ الخوف، وتهوِّن عليه المصاعب، كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَالمونَ فَإِنَّهُمْ يَالمونَ كَمَا تَالمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النساء: 104].
إن الله -جل وعلا- ضرب للمؤمنين أمثالًا في التسليم لقضائِه بأفضل الخلق، وهم أنبياؤُه؛ فَمَا مِنْ نبيٍّ إلا ولَقِي مِن الشدةِ والبلاء والمعاداة والاضطهاد ما ينوء بحَملِه غيرُهم، فابْتُلُوا بأنفسِهم مِن الأمراض العظيمةِ، وابْتُلوا بالفقرِ، وبالوحدة، والطرد، والضيم، وتسلُّط الآباء، وعُقوق الأبناء، وهم أصفياؤُه، وأَخْبَر اللهُ أنه بصبرهم نالوا ما نالوا، قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة: 24]، فالاستسلامُ لقضاء الله وقدرِه عوائدُه مُبارَكَةٌ، وصفقته رابحة.
أين هؤلاءِ المتمردونَ على القضاءِ بسبب أنهم لا يملكون سيارةً أو بيتًا أو وظيفةً؟ أأصبح التمرُّد على قضاء الله مسوِّغًا مُبَرِّرًا عند كثير من الناس، ولو أدَّى إلى الانتحارِ وقتل النفسِ؟
أين هُم مِن كثيرٍ من عباد الله الذين أصابهم البلاءُ الذي يفطر الأكبادَ ويُدْمي القلوبَ، ومع ذلك فهم يتلقَّوْن قضاءَ الله بالتسليم والاعتراف وادخار أجر المصيبة عند الله؟!
دَعُونا من المبالَغَات والتَّعليلات الساذجة في صور الاعتراض على الْقَدَرِ، إِمَّا بالكلام أو الفعل، والحقُّ أن السبب الحقيقيَّ هو نقصُ الإيمان، وتسلُّطُ الشيطان، واعْتِراضٌ على قضاءِ الرَّحْمَن، هذا هو التعليلُ الحقيقيُّ، ومِن أقبح الأمور أن تُسمَّى الأمورُ بغيرِ مُسَمَّياتِها، بل وأعظم منه أن يُشتغَلَ بالسببِ ويُترَك الفعلُ نفسُه، ولا يُجَرَّم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[آل عمران: 200].
بَاركَ الله لي ولَكُم في القرآن العظيمِ، وَنَفعني وَإيَّاكم بِما فيه من الآيات والذكرِ الحكيمِ، أقُولُ ما سمعتُم، وأستَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُمْ، ولِسائر المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فَاستغفِرُوه وَتُوبُوا إِليه، إِنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ على توفيقه وامتنانِه، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدَّاعي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أيها المسلمون: إنَّ اللهَ ذَكر في كتابِه أصلًا عظيمًا وَكرَّرَه في كتابِه، وهو أنَّ كلَّ شيء وقع للعبد فهو مكتوبٌ ومسطورٌ في كتابٍ، ليس للعبدِ سبيلٌ عليه، قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، بل إنَّه كتب ذلك كلَّه قبل أن يخلُقَنا، وقبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخَمْسِينَ ألفِ سنةٍ، كما روى ذلك مسلمٌ في صحيحِه([2]).
أتدرونَ ما الحكمةُ مِن ذلك؟
إنَّ مِن أعظم الحِكَم أن يُسَلِّمَ المرءُ، وأن يَقْطَع تفكيرَه بقدْرَتِه على تغيير شيءٍ قد وقع وانقضى، ويقطع الحسرةَ التي هي عقوبةٌ على من لم يؤمِنْ بقضاء الله وقدَرِه، أَوَما تأمَّلْتُم قولَ الله تعالى في وصف الكافرين والمنافقين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران: 156].
إِذا وقع المكروهُ فإن الحسرةَ تبْدَأُ عِنْدَ مَن لم يستسْلِمْ، وهي عُقوبةٌ دنيويةٌ عاجلةٌ من الله، ويقولون:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، وهذا كَذِبٌ، فقد قال الله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
فالأسبابُ -وإِنْ عَظُمَتْ- إنما تنفعُ إِذا لم يُعَارِضْها الْقَدَرُ، فَإذا عَارَضَها الْقَدَرُ لم تنفع شيئًا، بَل لا بُدَّ أن يُمْضِي اللهُ ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة؛ ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا عن معارضة الْقَدَرِ، فروى مسلمٌ في صحيحِه من حديث أبي هريرةَ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([3])، وبهذه الروح المؤمِنَةِ تطمئنُّ النفسُ وترضى.
ولهذا قال عُمرُ بْنُ عبدِ العزيزِ: «أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر»([4])، الله أكبر، صبرُه وتحمُّلُه ورضاؤُه ينقلب سرورًا وانشراحَ صدرٍ، وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}[البقرة: 157].
وقد تعجَّب ذلك الكاتبُ الغربيُّ من حال المسلمين عندما عاشَ معهم، وتَجلَّى له تعامُلُ المسلمين مع أقدار الله، فاسمعوا ماذا يقول في مذكِّرَاتِه: «تعلَّمت من أهل الصحراء كيفَ أتغلَّب على القلقِ، فَهُمْ بَوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدَهم هذا الإيمانُ على العيشِ في أَمانٍ، وأَخْذِ الحياةِ مأخذًا سهلًا هيِّنًا، فهم لا يتعجَّلُون أمرًا، ولا يُلْقُون بأنفسهم بينَ براثن الهمِّ قلقًا على أمرٍ، إنَّهم يؤمنون بأنَّ ما قدَّر الله يكون، وأن الفردَ منهم لن يُصيبَه إلا ما كتبه اللهُ له، وليس معنى ذلِك أنَّهم يتَواكَلُون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلا..إِنني لَمْ أعانِ شيئًا من القلق قطُّ وأنا أعيشُ في الصحراء، بل هُنَالك في جنةِ الله وجدتُ السكينةَ والقناعةَ والرِّضا، ولقد أفلحَتْ هذه الطباعُ التي اكتسبتُها من العربِ في تَهدِئَة أعصابي أكثرَ مِمَّا تُفلح آلاف المسكِّنات والعقاقير»، إ.هـ. إن ما ذكره هذا الغربيُّ جزءٌ من ثمار هذا الإيمانِ الذي يجنيه في الدنيا، فكيفَ لو علم ما عند الله في الآخرةِ من الثواب العظيم والجزيلِ.
فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي المؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلَّا الجَنَّةُ»([5])، وروى مسلمٌ عن أمّ سلمةَ -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 156]، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قالت: ولما تُوفِّي أبو سلمة؛ قلت: ومن خيرٌ من أبي سلمةَ صاحبِ رسولِ الله، ثم عَزم الله عليَّ فقلتُها - فما الخلف؟- قالت: فتزوجت رسول الله»([6]).
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...
([1]) أخرجه مسلم (4/2295، رقم 2999).
([2]) أخرجه مسلم (4/2044، رقم 2653).
([3]) أخرجه مسلم (4/2052، رقم 2664).
([4]) جامع العلوم والحكم (1/287)، وانظر: سيرة عمر بن عبدالعزيز (ص97).