الاستراحات
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتقوا الله عباد الله، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: أسمِعْتُم نبأَ الغافِلِ الَّذي ركِبَتْه الذنوبُ وهو لا يدري؟
كم من عفيفٍ ناله وِزْر الفواحشِ وهو متلطِّخٌ بها!
وكم من رجُلٍ ظنَّ أنه نظيف الجيبِ وجيبه ملأى من السحت والحرام!
وكم من بارٍّ سقط في هوة العقوق!
وهم غافلون، إن نبأَ هؤلاءِ لعظيمٌ، أولئكم رجالٌ أعانوا في الوقوع على المنكرات، وكانوا سببًا في شيُوعِها، والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
لقد انتشرت ظاهرةُ تأجيرِ الاستراحات لأنَاسٍ يزاولون فيها الفواحِشَ والكبائر العظيمة، وما يُخِلَّ بالشرفِ، إما مِن حُدَثاء الأسنان، أو من كبارِهم، لسْتُ أتكلَّم عن الاستراحات التي يجتمع فيها الأصدقاء، ويكون فيها ما يعرفه الناسُ، وما لا يخلو منه اجتماعٌ، كلا.. إنما نتكلَّم عن استراحات قليلة يحدُث فيها أمورٌ عظائم تُخِل بالشرف والعفةِ، وتضر بالعقلِ والعرض.
والسؤال قبل أن نخاطِب هؤلاء: مَن الذي أجَّرهم، وهو يغلب على ظنِّه من خلال معرفة أسمائِهم، أو رُؤية هيئتِهم، أنهم ما اجتمعوا إلا على شرٍّ عظيمٍ، سواء مِن صاحب الاستراحَةِ أو صاحب المكتب؟
أمَا عَلِم أن الله -جل وعلا- يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81]
قرأ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيةَ، وقال كما روى الترمذي وحسنه، من حديث عبدِ الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ»،ثم قال: «كَلَّا والله لَتَأْمُرُنّ بالـمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنّ عن الـمُنْكَرِ وَلَتَأْخذُن على يَدَ الظالِمِ وَلَتأْطُرُنّهُ على الحَقِّ أطْرًا أوْ لَيَضْرِبَنَّ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ على بَعْضٍ ثمَّ يَلْعَنُكُمْ كما لَعَنَهُمْ»([1]).
وهؤلاءِ لم يتركوا الإنكارَ فقط، بل أعانوا مَن يفعلُه، مَن أجَّر هؤلاء أو سَعى في تأجيرِهم، هل امتثل أمرَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله فيما رواه الإمام مسلم، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»([2])، هل غيَّرَه أم هو من تسبَّب في وقوعِه؟
إنَّ كل من سعَى في تأجير هؤلاءِ وهو يعلم، أو يغلُب على ظنِّه أنهم يجتمعون على الكبائر العظيمة، وما يُخِلُّ بالشرف والعقل والعرض، فإنه مشارك لهم بالوِزْر، وواقع في الكبائر عند جمهور الفقهاء، كما نصَّ أهل العلم.
ولنستمع إلى فتوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في فتواه في تأجير هذه الاستراحات التي يقع فيها ما يخل بالشرف والعقل، قال -رحمه الله-: «أُحَمِّل المسئولية أصحابَ هذه الأحواش، وأصحابَ هذه الاستراحات، إذا أتاهم من يعلمون أو يغلب على ظنهم أنه سوف يكون فيها على الوجه الذي لا يرضاهُ الله ورسولُه، فليعلم أنه يأكل أجرتها سحتًا وحرامًا، وما أعظمَ أن يكون مُعِينًا على الإثم والعدوان، هذه الأجرة التي يأخذها سحتًا وحرامًا؛ لأن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنه. ثم إذا أكل هذا ما الذي يترتب عليه؟ جاء في الحديث: «كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»([3])، هذه واحدة.
أيضًا الذي يأكل الحرام يبعد أن تجاب دعوته -والعياذ بالله-، حتى لو دعا في أكبر الأسباب التي تُستجاب بها الدعوة؛ فإن إجابته بعيدة، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الرجل يطيل السفرَ، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: «يا ربِ! يا ربِ! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!»([4]). وكذلك الدلَّال أو مكتب التأجير كصاحب الملْكِ، إذا كان يعلم أن هؤلاء استأجروها للمعصية فهو حرام عليه».
أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.
أمَّا بَعْدُ:
مَعشَرَ المُصَلِّينَ: قد يقولُ قائِلٌ: أنا أؤجر الناسَ ولا أعلم عن حالهم شيئًا.
والجواب: أن من لم يعلم فليس بمؤاخَذٍ حتى يعلم، فإذا غلب على ظنِّك الشرُّ، أو جاءك من الناصحين، وأخبرَك أن استراحَتَك فيها أمورٌ لا ترضي اللهَ؛ فعليك بالتثبُّت، وهنا يجب عليك التأكُّد، ولكن يبقى -عبادَ الله- موالاةُ المؤمنين، والنصحُ لهم، والحبُّ لهم ما تحبه لنفسك.
هؤلاء إخوتُك وأبناء إخوتِك، ألا تحبُّ الخيرَ لهم؟ هل تنام مُرتَاح البال وأنت لا تعلَمُ عن استراحتِك، هل كانت سببًا في الموبقات والسهرات؟
نسمع عن واقعِ قليلٍ من هذه الاستراحات ما لا يرضي الله، أين غَيْرَتُك لدِين ربِّك؟ إن من كمال الإيمان أن يقوم صاحبُ الاستراحةِ باختيار مَنْ يؤجِّرُهم أو يَظهر عليهم مظاهرُ العقل والرشد والرجولة، لقد نصَّ الفقهاء على تحريم بيع العِنَب لمن يغلُب على ظنِّه أنه يتخذُه خمرًا، مع أنَّ البيعَ حلالٌ.
روى ابنُ سيرين أنّ قيّمًا كان لسعد بن أبي وقّاصٍ -رضي الله عنه- في أرض له، فأخبرَه عن عنَبٍ أنّه لا يصلح زَبيبًا، ولا يصلُح أن يُباع إلَّا لمن يعصِرُه، فأمرَه بقلْعِه، وقال: «بئس الشّيخُ أنا إن بعْتُ الخمرَ»([5])، فانْظُر إلى سعدٍ كيف جعل بيعَه للعنب كأنَّه باع الخمرَ نفسَه.
وقد روى الطبرانيُّ بإسنادٍ حسَّنه ابْنُ حجر عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ»([6])، فهو عامٌّ في كلِّ عقد قصد به الحرام.
قال ابنُ قُدامة: «وهكذا الحكْمُ في كلِّ ما قُصِد به الحرام، كبيع السلاح في الفتنة، أو لأهْلِ الحرب، أو لقُطَّاع الطريق، وبيعِ الأَمَة للغِنَاء، أو إجارَتها لذلك؛ فهو حرامٌ، والعقد باطل»([7]).
نحنُ على بحرٍ واحد، وفي متن سفينةٍ تسيرُ، وليس من العقل أن نقولَ: دعوا الناسَ يفعلون فيها ما يشاؤون، ونحن نعلم أنهم يُفسدِونها ويهلكوننا جميعًا، قال المعصوم كما في صحيحِ البخاريِّ: «فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»([8]).
لتدْرِكوا أن أهلَ الباطِل عندما يدُكُّوا بمعاول باطِلهم سفينةَ النجاةِ الَّتي يسيرُ فيها المجتمعُ، إذا لم يُؤْخَذْ على أيدِيهم وتُكْسَرْ معاوِلُهم، فإنَّ الغرق يهدِّد المجتمعَ بأكملِهِ.
وختامًا: على أولياءِ الأُمورِ أن يتفقَّدُوا أولادَهم، وأن يقوموا بأمانَتِهم التي أوجبها اللهُ عليهم من متابعة أبنائهم، والتأكدِ مِن واقعهم، وزيارتهم في استراحاتهم، وفي نصحِهم وتوجيههم.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- موجهًا ناصحًا الأولياء: «أحَمِّل المسئوليةَ أولياءَهم أمام اللهِ، ثم أمام مجتمعِهم، أحمِّل المسئوليةَ لآبائهم الذين استرعاهم اللهُ -جل وعلا- عليهم، فإن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وكَّلَ كُلَّ إنسانٍ على أهلِه، أنتَ راعٍ بوكالةِ الرَّسُولِ
-صلى الله عليه وسلم-: «الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([9])، هل يمكن أن تنفَكَّ عن هذه الوَكالة التي ألزمك بها رسولُ الله؟ لا يُمكن، إذًا: قم بالوَكالَةِ على الوجه المطلوب، وإلا فسَتُسْأَل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، أين جوابك يوم القيامة إذا لقيت الله عز وجل؟
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
([1]) أخرجه أبو داود (4/121، رقم 4336)، والترمذي (5/253، رقم 3048 )، والبيهقي (10/93، رقم 19983).
([2]) أخرجه مسلم (1/69، رقم 49).
([3]) أخرجه الترمذي (2/512، رقم 614) وقال : حسن غريب.
([4]) أخرجه مسلم (2/703، رقم 1015).
([5]) تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (4/ 88).
([6]) أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط (5/294، رقم 5356).
([8]) أخرجه البخاري (2/882، رقم 2361).
([9]) أخرجه البخاري (2/848، رقم 2278)، ومسلم (3/1459، رقم 1829).
المرفقات
349138
349138