الاستخارة والندم والنفس اللوامة

د. منال محمد أبو العزائم
1445/11/20 - 2024/05/28 09:09AM

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

          لقد ذكر الله تعالى ثلاث أنواع من النفس في القرآن الكريم، وهي النفس اللوامة والنفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء. وأقسم بالنفس اللوامة في قوله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[1]. وهي النفس التي تلوم صاحبها على فعل المعاصي وترك الطاعات عند أكثر المفسرين[2]. والنفس اللوامة هي نفس عظيمة وكريمة الأصل، ولا عجب أن يقسم الله بها. ولو كانت غير ذلك لم تلم صاحبها. فهي أطهر معدنا من نفس الكافر التي لا تلوم صاحبها على ترك معروف ولا تندم على فعل منكر. فلا تجد تلك الصفة إلا في مؤمن. وذلك بدليل ما بينه النبي صلى الله عليه من أن المؤمن يفرح بحسنته ويستاء من معصيته، وذلك في قوله: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)[3]. وهذا يعرفه المؤمنون بالسليقة؛ حيث تجدهم يحملون هم الدنيا بما فيها إن وقعوا في معصية. بل تجد منهم من يبكي لذلك حتى تبل دموعه ثيابه من غزارتها. ومنهم من يقم الليل يتحسر على معصيته ويناجي ربه قائلاً: "يا رب ظلمت نفسي فاغفر لي ... يا رب عصيتك وقصرت في طاعتك فاعفو عني"، أو نحو ذلك. ويوافقه في ذلك ما ذُكِر في أنين المذنبين وتوبتهم وندمهم على المعاصي وتحسرهم على ما صدر منهم. ومثاله ما قاله الله تعالى على لسان آدم وحواء حينما تابا في قوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[4]. وقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي علمه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)[5]. وقوله في سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت)[6]. فإن لم تلم النفس صاحبها كيف لها أن تتوب وتحقق شروط التوبة التي قال العلماء أن من أهمها الندم على المعصية.

ثم إن الندم فيه فائدة بتزكية النفس. فهو نوع من الألم الروحي الذي يصيب صاحبه إن لام نفسه على فعل منكر. وبه رياضة روحية وإيمانية تطهر بها النفوس وتجلي القلوب من السواد الذي تركه الذنب فيها. ولذا النفس اللوامة تكون ذكية عادة بذلك اللوم وقوية الايمان والتقوى لربها. وإلا لمَ تتأذى من ذنب فعلته. وهذا خلاف نفس الكافر التي رتكب الفواحش والكبائر ولا تلقي لذلك بالاً. فهي لا تؤمن بالآخرة ولا يهمها إن عصت الله أو أطاعته؛ وذلك لفساد عقيدتها وكفرها. فهي لا تشعر بذنب ولا ندم لأن الكل عندها سيان، حيث لا تؤمن بالنار فتخاف من عذابها، ولا بالجنة فتطمع في نعيمها. وقلبها مظلم لعدم معرفة الله وتراكم أثر المعاصي والكفر عليه. فلم يعد يشعر بالخوف من الله ولا من عذابه لإنه قلب ميت لا حياة فيه بالإيمان. قال تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[7]. والندم ولوم النفس في هذا المساق محمودان؛ لأنهما وسيلة التوبة وتزكية النفس؛ ولذا لا يضيران الإنسان، بل يزيدانه إيمانا ورقة قلب ورفعة في الدرجات.

          وهناك نوع آخر من الندم الغير مستحب، وهو الندم على غير الوجه المذكور سابقاً. كأن يندم الإنسان على شيء فعله، ولم يكن معصية لام نفسه على فعلها ولا طاعة لام نفسه على تركها. بل ندم على أمر دنيوي بحت. وقد وجهنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نعجز ولا نقل لو اني فعلت كذا كان كذا؛ حيث قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)[8]. فلا فائدة من هذا النوع من الندم غير مجلبة القلق والحزن. فما صار قد صار ولن يرجع بندم أو لوم نفس. فلا نقعد نتحسر على اللبن المسكوب كما يقولون ولا على ما فات. بل نستعين بالله ولا نعجز. ونعلم أنه ما حدث شيء في الدنيا إلا بتقدير الله. وعلينا أن نتعلم من أخطائنا ونتجنبها في المستقبل. ونحرص على ما ينفعنا ثم نتوكل على الله تعالى.

          وهناك كنز ثمين علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، فيه سلامة وحل لمشاكل التردد وسوء الاختيار والتصرف التي كثيرا ما يندم عليها الإنسان وينتج عنها ما يضره. ألا وهو الاستخارة التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن. وما ذلك إلا لفائدتها الكبيرة في هذا الباب وفي كل أمور الحياة؛ حيث تحفظ الإنسان من الكثير من الخسائر والمضار التي يمكن أن تصيبه من سوء التصرف؛ سواء في المال أو الصحة أو الولد أو العمل أو الزواج أو غيره من أمور الدنيا. فالاستخارة تساعده على حسن الاختيار والتصرف بما ينفعه ويصلح أمره. وهي فضل من الله تعالى علينا، حيث يكرمنا بما يعلمه وكتبه ويساعدنا في إختيار ما هو أفضل لنا. فنحن بشر لا نعلم الغيب ولا ما سيأتي من أقدار. وقد نختار من الأمور ما يضرنا في المستقبل أو يهلكنا في الآخرة. ولكن بالاستخارة يوجهنا الله تعالى لما فيه الخير لنا. فله الحمد والمنة على ذلك. ونص الاستخارة مذكور في حديث جابر بن عبد الله السلمي - رضي الله عنه - حيث قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هذا الأمْرَ - ثُمَّ تُسَمِّيهِ بعَيْنِهِ - خَيْرًا لي في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - قالَ: أوْ في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي - فَاقْدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، اللَّهُمَّ وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّه شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي - أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثُمَّ رَضِّنِي بهِ)[9]. فيا لها من كنز عظيم، يحمي الأنسان من المسالك والخيارات الضارة. ورأينا منها من الخير الكثير في التجارب السابقة. فكم من مرة يريد الإنسان أن يفعل شيء فيستخير الله ثم إذا به غير رأيه دون سبب وصرف النظر عنه. وما تمر الأيام حتى تكشف عن مكروه كبير كان يختبئ في ذلك الشيء وكان سيوقعه في الندم الكبير لولا لطف الله ورحمته ثم الاستخارة التي جعلته يغير رأيه وينتهي عن ذلك الأمر. فهي نعمة من الله تستحق الشكر والامتنان. وحري بكل مسلم ألا يترك هذا الكنز العظيم الذي لا يندم معه على شيء فعله. وحتى إن بدت الأمور على غير ما يرام فإن مرور الوقت يثبت أن ما جاء في الاستخارة كان هو الخير له. وحتى إن قدر الله وخسر الانسان شيئاً بعد ذلك لحكمة لا يعلمها تكون نفسه مرتاحة من اللوم والندم، حيث يقول المؤمن: الخيرة فيما اختاره الله. فلا يلوم نفسه على شيء فعله؛ لأن فعله كان بعد استخارة الله تعالى.

          والاستخارة مع ذلك تزيد إيمان المرء واستسلامه لله وتسليمه الأمر إليه، والإستعانة بحوله وقوته، واليقين بعلمه وحكمته، والتوكل والاعتماد عليه، والإيمان بقدرته وأمره النافذ على جميع عباده. فهي تشتمل على كل هذه العبادات القلبية التي تقوي إيمان المرء وترفع من درجته. فما أن استخرت الله إلا وشعرت بالراحة والإنشراح وزوال الهم والخوف من المستقبل ومن سوء الاختيار. فالله وكيلك بهذه الاستخارة وحاميك ومدبر لك أمورك. ولذا ينبغي على الانسان أن يستخير الله في كل اموره، لاسيما الجلل منها. ومثال ذلك الاستخارة على الزواج والعمل والسفر والدخول في مشاريع تجارية ونحو هذا من الأمور التي تكون بها قرارات تؤدي إلى تغيرات كبيرة في حياة الانسان. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة الاستخارة في الأمور كلها. فإذا عزم المسلم على أمر فليفكر ملياً فيما هو أصلح له، ويبحث الأمر من كل جوانبه، ويقرأ هنا وهناك، ويستشير من حوله من أهل الرأي والمشورة. فإن بقي على رأي فليستخير الله فيه ثم يتوكل عليه. فإن ما فيه الخير سييسره الله له. وإن كان ما أراد ليس فيه الخير سيصرفه الله عنه وينجيه منه. وسيشعر منه بنفور او عدم ارتياح ويغير رايه عنه. وبعد ذلك لا يلوم الإنسان نفسه على أمر من الدنيا اختاره واستخار فيه ربه. فحتى لو لم يبدو له الخير فيما اختار فليصبر حتى يكشف الله تعالى له الحكمة من هذا الخيار. وليطمئن قلبه بما اختار الله له ويرضى وتطيب نفسه به لأنه اختيار العليم الحكيم له. هذا والله تعالى أعلم. ونسأله سبحانه أن يتولانا بفضله في الدنيا والآخرة، ويختر لنا ما فيه الخير لنا في أمورنا كلها. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

المراجع:

-      القرآن الكريم.

-      الموسوعة الحديثية لتخريج الأحاديث، الدرر السنية.

 



[1] القيامة 2.
[2] انظر أمهات التفاسير.
[3] صححه السيوطي في الجامع الصغير (672).
[4] الأعراف 23.
[5] أخرجه البخاري (6326)، ومسلم (2705).
[6] البخاري 6323.
[7] الأنعام 122.
[8] مسلم 2664.
[9] البخاري 7390.

المشاهدات 362 | التعليقات 0