الاستبصار في الرياح والغبار

عبدالله بن رجا الروقي
1436/06/27 - 2015/04/16 14:40PM
أما بعد فإن الله سبحانه قد أمر بالتفكر في مخلوقاته ، وأخبر أنها آياتٌ يستدل بها أولو العقول على كمالات الرب سبحانه وتعالى قال عز وجل ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
وإن من جملة ماذكر الله في الآية تصريفَ الرياح فإن الرياح خلق من خلق الله وقد أقسم الله بها في كتابه
قال تعالى { والذاريات ذروا } فأقسم الله بالذاريات وهي الرياح تذرو المطر وتذرو التراب وتذرو النبات إذا تهشم كما قال تعالى { فأصبح هشيما تذروه الرياح } أي تفرقه وتنشره

فتفكر ياعبدالله في هذه الرياح من أنشأها بقدرته ؟ وصرفها بحكمته وسخرها بمشيئته وأرسلها بشرا بين يدي رحمته وعذابًا وعقوبة على من شاء فجعلها قاصفا وعاصفا ومهلكة وعاتية ؟
يصرفها الله سبحانه كيف شاء فتارة يحيي بها الزرع والثمار وتارة يغطيه ويهلكه بها وتارة يجعلها حارة وتارة باردة.
كل ذلك من تدبير الله فتبارك الله رب العالمين.

وفي الرياح من العبر هبوبها وسكونها ولينها وشدتها واختلاف صفاتها ومهابها وتنوع منافعها فللمطر خمسة رياح : ريح ينشر سحابه وريح يؤلف بينه وريح تلقحه وريح تسوقه حيث يريد الله وريح تفرقه
قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ ﴾ وقال تعالى : ﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾

والريح جند من جنود الله ينصر بها قومًا ويعذب آخرين ، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾
وقال تعالى : ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾

وقد جاء عن النبي ﷺ مايدل على هذا فعن عائشة رضي الله عنها قالت كان ﷺ إذا رأى غيما أو ريحا، عُرف ذلك في وجهه. فقالت: يا رسول الله ! أرى الناس، إذا رأوا الغيم، فرحوا. رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته، عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال: "يا عائشة ! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا". رواه مسلم

والمقصود أن الرياح من أعظم آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته
ولما كانت الريح مسخرة مدبرة كان الالتجاء عند هبوبها إلى خالقها ومدبرها - سبحانه وتعالى - فعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ). رواه مسلم
ولهذا أيضًا يحرم سب الريح لأنها تجري بتقدير الله وأمره ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ » رواه الترمذي .
أقول ماتسمعون ، وأستغفر الله لي ، ولكم...

الخطبة الثانية:
... أما بعد فإن ماقدره الله هذه الأيام من كثرة الغبار الذي تثيره الرياح : ينبغي ألّا يمر هكذا بل علينا أن نتفكر فيه كما أمرنا الله فإن في ذلك عبرًا ، منها بيان ضعف المخلوق فإنه ربما تضرر بسبب الغبار ضررًا عظيمًا ، وأصحاب الأمراض التنفسية - شفاهم الله - يدركون هذا .
وربما امتنع الإنسان عن السفر بسبب الغبار ، فسبحان الله ما أضعف المخلوق ، وما أشد افتقاره إلى خالقه ومولاه - سبحانه وتعالى - قال الله تعالى : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ ﴾
ومن العبر بيان شيء من قدرة الله عزوجل في تغيير الأحوال ، غبار فمطر فغبار كل هذا بقدرة الواحد القهار ، فالله - وحده - هو القادر على تغيير الأحوال من حال إلى حال.
ومن العبر معرفة نعمة الله بصفاء الهواء ، فإن خلو هذا الهواء من الغبار نعمة من نعم الله ، التي لاتحصى.
كل هذا ، وغيره ، يفيد إن الإنسان عليه أن يرجع باللوم على نفسه فيما يسوؤه ، ولهذا قال تعالى
﴿ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ ﴾
وقال تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
فمايصيب الإنسان مما يسوؤه هو بسبب ذنوبه ، ومن ذلك هذا الغبار ، والدليل على هذا: قوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
وكلمة: الفساد في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ) كلمة عامة تشمل كل فساد ، فجدب الأرض، وعدم نباتها، والأعاصير والغبار كل هذا من الفساد.
وظهور الفساد في البحر بموت الحيتان، وكذلك أمواج البحر العظيمة وفيضاناته التي قد تدمر السفن، وتتلف الأموال، وتهلك النفوس، هذا أيضاً من الفساد.
أما سبب فساد البر والبحر فقد بينه الله بقوله تعالى: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ) ، أي بسبب ذنوبهم.
ثم بين الله الحكمة ، في هذه المصائب بقوله تعالى في الآية السابقة ( لعلهم يرجعون ) أي يتوبون إلى الله ، ويستغفرونه.

عباد الله : لاتكن حالنا كمن لاتزيده المصائب إلا قسوة في قلبه ، قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا۟ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴾
ولا تكن حالنا كمن قال الله فيهم:0
﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾
فعلينا جميعًا أن نتوب الله ، ونستغفره ، فإن أعظم سبب لحفظ نعم الله على عباده ، هو فعل ما أوجبه الله وترك ماحرمه يقول الله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
اللهم تب علينا أجمعين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ....
المشاهدات 2103 | التعليقات 0