الاحتساب والمحتسبون, صمام الأمان
د. منصور الصقعوب
1433/03/24 - 2012/02/16 14:32PM
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
عباد الله: سفينة المجتمع تسير بركابها, والعواصف والأمواج من حولها, والمياه المغرقة تحيط بها, فإن ظلت السفينة متينة وركابُها متماسكين, عبرت البحر بأمان, وإن أصابها الخلل فلن يسلم من الغرق إلا من رحم الله, ولكنّ ثمة أناس يحاولون خرقها, ويسعون جهدهم لإتلافها, نظروا لمصلحتهم وغفلوا عن هلاكهم وهلاك غيرهم, وحين يترك القوم هؤلاء يغرق الجميع, إنها سفينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ضرب لها النبي < مثلاً معبراً فقال " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا " رواه البخاري.
والمرء يقرأ هذا الحديث كأنه يصور واقعنا, حين ترى المحتسب يريد أن يغلق الخلل في السفينة, وترى الممانع يريد أن يبقى الناس معه في الشر, وأن يقف أمام وجه المصلح الناصح
إن الأمة أيها الكرام حين يقلّ ناصحوها ويكثر مسرفوها, فإنها حينئذٍ تكون على شفا هلكة, لأن الشر يشيع والمنكرَ ينتشر ويذيع, وما تزال المنكرات تتوسع على مرأى من الناس وسكوتهم, حتى يصير المنكر مألوفاً, والمنكِر ملوماً, وحين يتحمل الجميع الهمّ, ويتعود عليه الكافّة, ويُكسر حاجز الخوف والحياء, فالأمة إلى خير, وإذا كان الله يمكِّن في الأرض لأمم, فإن من آكد الصفات لمن أرادوا أن يعلي الله شأنهم في العالمين ويرفع ذكرهم بين الأمم أجمعين هذه المهمة الشريفة والرتبة المنيفة ( الذين إن مكناهم في الأرض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
عباد الله: الاحتساب على المنكرات إذا فشا تميزت السنة من البدعة، وعُرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
وإذا تعطلت هذه الشعيرة ودُكَّ هذا الحصن وحُطِّم هذا السياج فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين)[1].
الاحتساب مهمة يقوم بها الكرام من النساء والرجال, وهمّ تترجمه الأقوال والأفعال, له فضيلة وفي تركه وبال, ففي فضله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وفي الحديث "وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة" [2]
وفي عقوبة تركه «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ اللّه أن يبعث عليكم عقابا منه ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم» [3]
وأبو بكر ط قال "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ < يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ - وَفِي لَفْظٍ: إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ - أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»[4]
معشر الكرام: الاحتساب على المنكر حين يُرى يتعلق بكل من رأى, ولم يكن ذلك الأمر يوماً من الأيام منوطاً بفئة معينة, أو أناس لا يجوز لغيرهم أن ينكر, فمن كان مؤمناً فواجبه أن يأمر وينهى, فاقرأ في القرآن في صفة أهل الإيمان (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ثم في صفة أهل النفاق (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ..) بل ولا تتحقق الخيرية في الأمة حتى تقوم بالأمر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)
وبهذا تعلم أن كل مؤمن فهو محتسبٌ آمر بالمعروف أو هكذا ينبغي أن يكون, لا تشترط له بطاقة, ولا يحول بينه وبين الاحتساب إلا ظالمٌ أو محب لإشاعة المنكر.
ومع هذا فعلى المحتسب التحلي بأدب الاحتساب؛ الرفق والحلم والعلم, وأن يكون رائده حب أن يطاع الله, وكراهة أن يعصى مولاه, وقصده إزالة منكر قد يضر بالعامة.
عباد الله: وفي زمن قد تتقلب المفاهيم عند البعض ربما رأيت من يغني ويرقص يُجلُّ ويُحترم, ومن يحتسب وينكر يؤذى ويبتلى, ولا غضاضة على المبتلى, فطريق الاحتساب طريقٌ لابد معه من الصبر, فلا احتساب بلا صبر.
وفي زمن تقلب مفاهيم البعض ربما وجدت من يرى الاحتساب تعدياً على الحريات, ومكدراً لصفو الاحتفالات, ومن سكت وداهن قيل هذا المتفهم, وليس هذا بجديد على من قلّ دينه, قال ابن النحاس: وألقى الشيطان في قلوب الناس أنه لا يُطالبُ أحدٌ بغير عمله يوم الدين, وصار إنكار المنكر زلة عند العامة لا تقال, ومزلة لا يثبت عليها إلا أرجل الرجال, فمن أنكر قيل ما أكثر فضوله, ومن داهن قيل ما أحسن عشرته المعقولة, فعمت الخطوب العظائم, إذ لم يبق إلا من لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال الإمام أحمد: صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً.
عباد الله: ترك الاحتساب وإبقاء المنكرات على وضعها بدون نكير من المؤمن نذير شؤم يحل بالعامة, وقد ذم الله قوماً ولعنهم, وحين ذكر سبب ذلك لم يذكر إلا (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) قال الزمخشري معلقاً: فيا حسرةً على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من مِلَّة الإِسلام في شيء، مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب .
عباد الله: ومن الغبن البالغ أن ترى من يرى المنكراتِ تزيد وتتوسع, وهو منشغل بدنياه, أو حتى بدينه, تاركٌ الشرور وأهلها بلا نكير ولا احتساب, وليست هذه فعال أهل الفضل والصلاح, قال ابن القيم: وأيُّ دِينٍ وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضيَّع ودينه يُتْرك، وسُنَّة رسول الله، r، يُرغب عنها، وهو بارد القلب ! ساكت اللسان ! شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق, وهل بَليَّة الدِّين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة ما جرى على الدين, وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله : بَذَلَ وتَبَذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه .
وجميل أيها الكرام أن نهب لإصلاح الدنيا, ونتواصى على ملاحقة المقصر فيها, ولكن هل نحتسب على أمر الدين كذلك؟ هذا هو المأمول والمرتجى
اللهم صل وسلم على محمد
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
عباد الله: إننا حين نتكلم عن الاحتساب فليس المقصود به المنكرات في الأسواق فحسب, بل هو أوسع من ذلك بكثير, فكل فسادٍ مالي أو إداري أو أخلاقي يخالف شرع الله ينبغي على القادر أن يحتسب عليه, ورب امريء يفتح له في الاحتساب في مجالٍ ولا يقدر في غيره.
ويبقى القول عباد الله: بأن الأرض والبلاد حين تشيع فيها المنكرات فإن الجميع مطالبٌ بدوره في الاحتساب وسدّ خرق السفينة
فالإنكار باللسان لا يعجز عنه كل ذي لسان لا يخاف من إنكاره الأذى, وكم من كلمةٍ من محتسب وجدت قلباً مفتوحاً فرد الله بها منكراً وهدى ضالاً وأطفأً معصية
والإنكار بالقلم, ومكاتبة صاحب المنكر ومراسلته, والتواصل معه بالخطى والزيارة, وسيلة آتت أكلها, وتدلت ثمارها
فإن عجزت باليد واللسان, وعجزت بعدما تحريت الإصلاح غاية الإمكان, فيبقى الانكار بالقلب والجنان, عملٌ لا تعجز عنه وهو أضعف الإيمان, ومعه مفارقة أماكن المنكر والعصيان, فليس بصادقٍ في إنكاره من يغشى أماكن اللهو والعصيان, ويرى القوم يعصون ربهم, ثم هو باقٍ لا ينكر, وموجود يكثر سواد أهل المعصية, فأين الإنكار ولو بالقلب حينها
وبعد أيها الكرام: فإننا ونحن نستمطر رب الأرض والسماء علينا قبل ذلك أن نجتنب أسباب سخطه.
وإن بقاء المصلحين في الأرض سبب لردّ الله الهلاك عن الأمم ( وماكان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) فكن محتسباً على منكر تراه في بيتك أو حيك, أو عملك أو بلدك, أو كن معيناً للمحتسبين وذابّاً عن أعراضهم, ولا تكن الثالثة فتهلك, وإننا نقول لكل امريء مشى في طريق الاحتساب أبشر بالأجر, واثبت على الطريق, وصابر واحتمل, فربما كان الفاجرجلِداً, وحينها لا ينبغي للمؤمن أن يكون ضعيفاً, يا أيها الآمرون بالمعروف, يا رجال الاحتساب
لله أنتم تسحقون المنكرا** وتمعرون الوجه منه تأثرا
لله أنتم كيف يغرق مركبٌ** أنتم به هيهات لا لن ينخرا
ياخيرنا يافخرنا ياذخرنا *** حق علي بمثلكم أن أفخرا
لا تتركوا للمفسدين بقية *** لا تمهلوا زرع البغاة فيكبرا..
هي أمتي جسد إذا عضو ** طغى فيه الفساد فحقه أن يبترا
يا آمراً بالخير ألف تحية *** من خافق لما رآك تبخترا
كم من فتاة قد حفظتم عرضها** توصونها باللين أن تتسترا
كم غافل أرشدتموه إلى الهدى*إذ عاد من بعد الضلالة مبصرا
يا من إذا نمنا بثوب أماننا*فتحوا العيون الناعسات لتسهرا.
وإذا أتينا للبيوت بمنكر ** عصروا القلوب إذا رأوه تحسرا
من يدعوا للمعروف يجز بمثله ** والله أكثر للفتى إن أكثرا
يا أنجم الهيئات شعري حائر *** لما ركبت جواده فتعثرا
هيئاتنا تاج على هاماتنا *** أخشى بدونهم بألا نمطرا
يارب زلزل من يريد بجمعهم ** سوءاً وشل يمينه والمنخرا
هم للورى ركب النجاة تقدما*وبدونهم تمضي الركاب للورى.
[1] من خطبة الشيخ صالح بن حميد
[2] رواه الترمذي من حديث أبي ذر ط
[3] رواه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان وحسنه
[4] رواه أبو داود والترمذي وصححه.
عباد الله: سفينة المجتمع تسير بركابها, والعواصف والأمواج من حولها, والمياه المغرقة تحيط بها, فإن ظلت السفينة متينة وركابُها متماسكين, عبرت البحر بأمان, وإن أصابها الخلل فلن يسلم من الغرق إلا من رحم الله, ولكنّ ثمة أناس يحاولون خرقها, ويسعون جهدهم لإتلافها, نظروا لمصلحتهم وغفلوا عن هلاكهم وهلاك غيرهم, وحين يترك القوم هؤلاء يغرق الجميع, إنها سفينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ضرب لها النبي < مثلاً معبراً فقال " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا " رواه البخاري.
والمرء يقرأ هذا الحديث كأنه يصور واقعنا, حين ترى المحتسب يريد أن يغلق الخلل في السفينة, وترى الممانع يريد أن يبقى الناس معه في الشر, وأن يقف أمام وجه المصلح الناصح
إن الأمة أيها الكرام حين يقلّ ناصحوها ويكثر مسرفوها, فإنها حينئذٍ تكون على شفا هلكة, لأن الشر يشيع والمنكرَ ينتشر ويذيع, وما تزال المنكرات تتوسع على مرأى من الناس وسكوتهم, حتى يصير المنكر مألوفاً, والمنكِر ملوماً, وحين يتحمل الجميع الهمّ, ويتعود عليه الكافّة, ويُكسر حاجز الخوف والحياء, فالأمة إلى خير, وإذا كان الله يمكِّن في الأرض لأمم, فإن من آكد الصفات لمن أرادوا أن يعلي الله شأنهم في العالمين ويرفع ذكرهم بين الأمم أجمعين هذه المهمة الشريفة والرتبة المنيفة ( الذين إن مكناهم في الأرض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
عباد الله: الاحتساب على المنكرات إذا فشا تميزت السنة من البدعة، وعُرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
وإذا تعطلت هذه الشعيرة ودُكَّ هذا الحصن وحُطِّم هذا السياج فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين)[1].
الاحتساب مهمة يقوم بها الكرام من النساء والرجال, وهمّ تترجمه الأقوال والأفعال, له فضيلة وفي تركه وبال, ففي فضله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وفي الحديث "وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة" [2]
وفي عقوبة تركه «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ اللّه أن يبعث عليكم عقابا منه ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم» [3]
وأبو بكر ط قال "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ < يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ - وَفِي لَفْظٍ: إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ - أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»[4]
معشر الكرام: الاحتساب على المنكر حين يُرى يتعلق بكل من رأى, ولم يكن ذلك الأمر يوماً من الأيام منوطاً بفئة معينة, أو أناس لا يجوز لغيرهم أن ينكر, فمن كان مؤمناً فواجبه أن يأمر وينهى, فاقرأ في القرآن في صفة أهل الإيمان (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ثم في صفة أهل النفاق (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ..) بل ولا تتحقق الخيرية في الأمة حتى تقوم بالأمر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)
وبهذا تعلم أن كل مؤمن فهو محتسبٌ آمر بالمعروف أو هكذا ينبغي أن يكون, لا تشترط له بطاقة, ولا يحول بينه وبين الاحتساب إلا ظالمٌ أو محب لإشاعة المنكر.
ومع هذا فعلى المحتسب التحلي بأدب الاحتساب؛ الرفق والحلم والعلم, وأن يكون رائده حب أن يطاع الله, وكراهة أن يعصى مولاه, وقصده إزالة منكر قد يضر بالعامة.
عباد الله: وفي زمن قد تتقلب المفاهيم عند البعض ربما رأيت من يغني ويرقص يُجلُّ ويُحترم, ومن يحتسب وينكر يؤذى ويبتلى, ولا غضاضة على المبتلى, فطريق الاحتساب طريقٌ لابد معه من الصبر, فلا احتساب بلا صبر.
وفي زمن تقلب مفاهيم البعض ربما وجدت من يرى الاحتساب تعدياً على الحريات, ومكدراً لصفو الاحتفالات, ومن سكت وداهن قيل هذا المتفهم, وليس هذا بجديد على من قلّ دينه, قال ابن النحاس: وألقى الشيطان في قلوب الناس أنه لا يُطالبُ أحدٌ بغير عمله يوم الدين, وصار إنكار المنكر زلة عند العامة لا تقال, ومزلة لا يثبت عليها إلا أرجل الرجال, فمن أنكر قيل ما أكثر فضوله, ومن داهن قيل ما أحسن عشرته المعقولة, فعمت الخطوب العظائم, إذ لم يبق إلا من لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال الإمام أحمد: صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً.
عباد الله: ترك الاحتساب وإبقاء المنكرات على وضعها بدون نكير من المؤمن نذير شؤم يحل بالعامة, وقد ذم الله قوماً ولعنهم, وحين ذكر سبب ذلك لم يذكر إلا (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) قال الزمخشري معلقاً: فيا حسرةً على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من مِلَّة الإِسلام في شيء، مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب .
عباد الله: ومن الغبن البالغ أن ترى من يرى المنكراتِ تزيد وتتوسع, وهو منشغل بدنياه, أو حتى بدينه, تاركٌ الشرور وأهلها بلا نكير ولا احتساب, وليست هذه فعال أهل الفضل والصلاح, قال ابن القيم: وأيُّ دِينٍ وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضيَّع ودينه يُتْرك، وسُنَّة رسول الله، r، يُرغب عنها، وهو بارد القلب ! ساكت اللسان ! شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق, وهل بَليَّة الدِّين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة ما جرى على الدين, وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله : بَذَلَ وتَبَذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه .
وجميل أيها الكرام أن نهب لإصلاح الدنيا, ونتواصى على ملاحقة المقصر فيها, ولكن هل نحتسب على أمر الدين كذلك؟ هذا هو المأمول والمرتجى
اللهم صل وسلم على محمد
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
عباد الله: إننا حين نتكلم عن الاحتساب فليس المقصود به المنكرات في الأسواق فحسب, بل هو أوسع من ذلك بكثير, فكل فسادٍ مالي أو إداري أو أخلاقي يخالف شرع الله ينبغي على القادر أن يحتسب عليه, ورب امريء يفتح له في الاحتساب في مجالٍ ولا يقدر في غيره.
ويبقى القول عباد الله: بأن الأرض والبلاد حين تشيع فيها المنكرات فإن الجميع مطالبٌ بدوره في الاحتساب وسدّ خرق السفينة
فالإنكار باللسان لا يعجز عنه كل ذي لسان لا يخاف من إنكاره الأذى, وكم من كلمةٍ من محتسب وجدت قلباً مفتوحاً فرد الله بها منكراً وهدى ضالاً وأطفأً معصية
والإنكار بالقلم, ومكاتبة صاحب المنكر ومراسلته, والتواصل معه بالخطى والزيارة, وسيلة آتت أكلها, وتدلت ثمارها
فإن عجزت باليد واللسان, وعجزت بعدما تحريت الإصلاح غاية الإمكان, فيبقى الانكار بالقلب والجنان, عملٌ لا تعجز عنه وهو أضعف الإيمان, ومعه مفارقة أماكن المنكر والعصيان, فليس بصادقٍ في إنكاره من يغشى أماكن اللهو والعصيان, ويرى القوم يعصون ربهم, ثم هو باقٍ لا ينكر, وموجود يكثر سواد أهل المعصية, فأين الإنكار ولو بالقلب حينها
وبعد أيها الكرام: فإننا ونحن نستمطر رب الأرض والسماء علينا قبل ذلك أن نجتنب أسباب سخطه.
وإن بقاء المصلحين في الأرض سبب لردّ الله الهلاك عن الأمم ( وماكان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) فكن محتسباً على منكر تراه في بيتك أو حيك, أو عملك أو بلدك, أو كن معيناً للمحتسبين وذابّاً عن أعراضهم, ولا تكن الثالثة فتهلك, وإننا نقول لكل امريء مشى في طريق الاحتساب أبشر بالأجر, واثبت على الطريق, وصابر واحتمل, فربما كان الفاجرجلِداً, وحينها لا ينبغي للمؤمن أن يكون ضعيفاً, يا أيها الآمرون بالمعروف, يا رجال الاحتساب
لله أنتم تسحقون المنكرا** وتمعرون الوجه منه تأثرا
لله أنتم كيف يغرق مركبٌ** أنتم به هيهات لا لن ينخرا
ياخيرنا يافخرنا ياذخرنا *** حق علي بمثلكم أن أفخرا
لا تتركوا للمفسدين بقية *** لا تمهلوا زرع البغاة فيكبرا..
هي أمتي جسد إذا عضو ** طغى فيه الفساد فحقه أن يبترا
يا آمراً بالخير ألف تحية *** من خافق لما رآك تبخترا
كم من فتاة قد حفظتم عرضها** توصونها باللين أن تتسترا
كم غافل أرشدتموه إلى الهدى*إذ عاد من بعد الضلالة مبصرا
يا من إذا نمنا بثوب أماننا*فتحوا العيون الناعسات لتسهرا.
وإذا أتينا للبيوت بمنكر ** عصروا القلوب إذا رأوه تحسرا
من يدعوا للمعروف يجز بمثله ** والله أكثر للفتى إن أكثرا
يا أنجم الهيئات شعري حائر *** لما ركبت جواده فتعثرا
هيئاتنا تاج على هاماتنا *** أخشى بدونهم بألا نمطرا
يارب زلزل من يريد بجمعهم ** سوءاً وشل يمينه والمنخرا
هم للورى ركب النجاة تقدما*وبدونهم تمضي الركاب للورى.
[1] من خطبة الشيخ صالح بن حميد
[2] رواه الترمذي من حديث أبي ذر ط
[3] رواه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان وحسنه
[4] رواه أبو داود والترمذي وصححه.
المشاهدات 2855 | التعليقات 3
جزيت خيرا اخي
اتمنى من الأحبة ذكر إضافاتهم ليتم الموضوع فقد كتبها على عجل
شكر الله الجميع
بارك الله فيك
أبو العنود
وفقك الله يا شيخ منصور ..
طرح متزن وواع ..
نفع الله بك
تعديل التعليق