( الِاجْتِهَادُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ )
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى - أَيُّهَا النَّاسُ - حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: عَشْرُ لَيَالٍ مُبَارَكةٍ؛ فِي هَذَا الشَّهْرِ المُبَارَكِ أَوَّلُهَا: لَيلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ؛ وَهِيَ مَغْنَمٌ عَظِيْمٌ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِيهَا مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِا.
تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيـــــهِ: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَـهُ )
كَانَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُمَيِّزُ العَشْرَ عَنْ غَيْرِهَا؛ وَيَحُثُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهَا؛ فَلْنَلْزَمْ سُنَّتَهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلْنَأْخُذْ بِوَصِيَّتِهِ، وَلْنَجْتَهِدْ وْلْنُجَاهِدْ أَنْفُسَنَا لِحِفْظِ عَشْرِنَا.
مَنِ اجْتَهَدَ فِيمَا مَضَى فَلْيَسْتَمِرَّ، وَلْيَتَزَوَّدْ، وَمَنْ فَرَّطَ فَلْيَتَدَارَكْ؛ فَأَمَامَهُ العَشْرُ بِخَيْرَاتِهَا.
عِبَادَ اللهِ: وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تُلْتَمَسُ لَيْلَةُ القَدْرِ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ وَيَقُــــــولُ: ( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )
وَلَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ؛ ذَاتُ شَرَفٍ وَقَدْرٍ؛ هِيَ لَيْلَةُ إِنْزَالِ القُرْآنِ؛ هِيَ لَيْلَةٌ وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا: مُبَارَكَةٌ، وَبِأَنَّهَا سَلَامٌ؛ وَبِأَنَّ المَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ فِيهَا؛ وَبِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ.
أُخْفِيَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ وَاللهُ عَلَيمٌ حَكِيْمٌ.
فَفِي البُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّـمَ قَالَ: ( إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ...) الخ
نَسْأَلُ اللهَ تعالى كَمَا بَلَّغَنَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ ثُمَّ العَشْرَ المُبَارَكَةَ أَنْ يُبَلِّغَنَا لَيْلَةَ القَدْرِ؛ وَيُوَفِّقَنَا لِقِيَامِهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا.
عِبَادَ اللهِ: ومِنَ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَهَذِهِ العَشْرِ الإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ؛ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فَقَالَ: { ادْعُوا رَبَّكُمْ } وَقَالَ: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَقَالَ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
فَعَلَيْكُمْ بالدُّعَاءَ؛ فِي اليُسْرِ وَالعُسْرِ، وَالغِنَى وَالفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالمَرَضِ، وَالسِّلْمِ وَالحَرْبِ؛ فَحَاجَتُنَا إِلَى رَبِّنَا جَلَّ وَعَلَا لَا تَنْقَطِعُ طَرْفَةَ عَينٍ؛ فَهُوَ الغَنِيُّ وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ القَوِيُّ وَنَحْنُ الضُّعَفَاءُ؛ قَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر 15]
وَفِي الحَـدِيثِ القُدْسِيِّ يَقُولُ تَعَالَى: ( يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ،...) [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ]
لِنَدْعُ اللهَ تَعَالَى، وَلْنُخْلِصْ لَهُ الدُّعَاءَ، وَلْنَتَحَرَّ أَسْبَابَ الإِجَابَةِ، وَمَوَاطِنَهَا، وَلْنَحْذَرْ مَوَانِعَهَا.
نَدْعُوهُ تَعَالَى بِتَذَلُّلٍ، وَخُضُوعٍ، وَحُضُورِ قَلْبٍ.
نَدْعُوهُ دُعَاءَ المُعَظِّمِ لِرَبِّهِ، المُعْتَرِفِ بِتَقْصِيرِهِ، الخَائِفِ المُشْفِقِ مِنْ ذُنُوبِهِ؛ الرَّاجِي لِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ لَا دُعَاءَ المُسْتَغْنِي الغَافِلِ اللَّاهِي.
وَلْنَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ جَوَامِعَهُ؛ وَلْنَحْرِصْ عَلَى آدَابِهِ وَلْنَحْذَرْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ؛ فَلَا نَدْعُو بِإِثْمٍ، وَلَا بِقَطِيعَةٍ رَحِمٍ، وَلَا بِمَا لَا يَنْبَغِي لَنَا.
نَجْتَنِبُ رَفْعَ الصَّوْتِ، وَتَكَلُّفَ السَّجْعِ، وَجَعْلَهُ مَوعِظَةً.
يَقُولُ ابْنُ جُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللهُ: [ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ وَالصِّيَاحُ فِي الدُّعَاءِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ ] اهـ
فَلَا يُرْفَعُ الصَّوْتُ بِالدُّعَاءِ؛ إِلَّا عِنْدَ الحَاجَةِ وَبِقَدْرِهَا؛ كَحَالِ الإِمَامِ فِي دُعَاءِ القُنُوتِ؛ يَرْفَعُ بِقَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ المَأْمُومُ وَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى المُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ خُصُوصًا مَعَ وُجُودِ مُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ.
رَزَقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ حُسْنَ الِاتِّبَاعِ، وَجَنَّبَنَا الِابْتِدَاعَ.
وَبَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَفِي هَذِهِ العَشْرِ بَلْ فِي سَائِرِ العُمُرِ: الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلُزُومُ الاِسْتِغْفَارَ؛ وَمِنْ أَعْظَمِ أَوْقَاتِهِ وَأَنْفَسِهَا: السَّحَرُ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران 17] وَقَالَ: { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات 18]
عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي العَشْرِ: الِاعْتِكَافُ؛ وَهُوَ لُزُومُ المَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ.
كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) [مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ]
وَيَشْتَغِلُ المُعْتَكِفُ بِالطَّاعَاتِ، مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ وَصَلَاةٍ، وَنَحْوِهَا، وَيَتْرُكُ مَا لَا يَعْنِيهِ.
وَمَنْ أرَادَ اعْتِكَافَ العَشْرِ؛ بَدَأ اِعْتِكَافَهُ لَيلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَرَجَ لَيْلَةَ العِيدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي أَحْكَامِ الاِعْتِكَافِ وَآدَابِهِ، وَيَلْتَزِمَهَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب 56 ]
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيكَ بِأَعْدَئِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1742429587_( الِاجْتِهَادُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ ).pdf
1742429599_( الِاجْتِهَادُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ ).docx