الاجتماع على السُّنَّة ونبذ الفرقة (مناسب للتعميم)

إبراهيم بن صالح العجلان
1441/06/26 - 2020/02/20 21:40PM

(الاجتماع على السنة ونبذ الفرقة) 26/6/1441 هـ

أخوة الإيمان:

وُحدَةُ الأمةِ مقصدٌ من مَقاصدِ الدِّين، وهدفُ منشودٌ سَعَى لتحقيقِه خَيْرُ المرسلينَ، فقد جاءَ صلى الله عليه وسلم إلى قومِه وهُمْ في هُوَّةٍ سحيقةٍ من التَّشَتُّتِ والتَّمزقِ.

كانت العرب في جاهليتها تُسَلُّ سُيوفها، وتَسِيلُ أرواحها، لأتفه أسباب بينها.

فعاشوا أشتاتاً متفرقينَ مُتناحرينَ، تَجْمَعُهم القبيلةُ، وتُفَرِّقُهم العَصَبِيَّةُ، فعمَّت فيهم الفوضى والتَّحزُّباتُ، وشُرْعِنَ للظُّلمِ والانتقامات، حتى قال زُهير بن أبي سُلْمَى:

ومَنْ لا يَذُدْ عن حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ ... يُهَدَّمْ، ومَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

فأرسل اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً، للخلقِ عامة، ولقومِه خَاصةً، فَجَمَعَهُم بعد تَنَاحُرٍ، وأَلَّفَ بينهم بعد تَنَافُرٍ، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.

فنقل صلى الله عليه وسلم أمةَ العربِ من ضِيْقِ التَّحزُّبِ إلى رَحَابةِ الدِّين، وأضحت عُبيَّةُ الجاهليةِ وشَتَاتُها من أحاديث الذكريات.

يا أهل الإيمان.. لقد جاءتْ نُصوصُ الوحيينِ آمرةً وحاسمةً في الأمرِ بالاجتماع، ونبذ الفرقة،{إنما المؤمنون إخوة}،{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}.

وجاءتِ النُّصوصُ ناطقةً صريحةً أنَّ اجتماعَ الأمةِ لا يكون على عَصَبِيَّةٍ، ولا رايةٍ عَمِيَّةٍ، ولا على عِرْقٍ، أو تُرابٍ، بل يكون اجتماعها على الكتاب والسنة.

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وأخبرَ من لا يَنطِقُ عن الهوى أنَّ أمَّتَه سَتَرى اختلافاً كثيراً، ثم أَرْشدَها إلى سبيلِ النَّجاةِ والاجتماعِ بقوله: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدين).

فالأمةُ الواحدةُ التي يُتطلع إليها هي أُمَّةُ تَعيشُ مع النَّصِ قرآناً وسُنَّةً، وتُقَدِّسُهُ وتَحْتَرِمُهُ، ولا تُقَدِّمُ عليه قولَ أحدٍ كائناً مَنْ كان.

الأمةُ الواحدةُ يـُحْـيِيْ أهلُها السُّنَّةَ،ويُميتونَ البدعة، يأمرونَ بالمعروفِ ويأتونَه، ويَنهونَ عن المنكر ويَقْلُوْنَه.

الأمةُ الواحدةُ يسعى أفرادُها في حِفْظِ سُمْعَتِها، وردِّ الشبهاتِ عنها.

لقد جمع المصطفى صلى الله عليه وسلم صحابته ورباهم وزكاهم على القرآن والسنة، ومع هذا  تباين مجتمع المدينة في إيمانِهم وتقواهم، فكان فيهم السَّابقُ بالخيراتِ وهم الأغلبُ، وفيهم المقتصدُ، وفيهم الظالمُ لنفسِه، وفيهم منافقون، وفيهم سماعون للمنافقين، ومع ذلك لم يُشَطِّرْ مجتمَعه، بل كان حريصاً على جمعِهم واجتماعِهم، ورَدْمِ أيَّ فَجْوَةِ شِقاقٍ وافتراق.

ترك قَتْلَ المنافقينَ مع جُرْأَتِهِمْ واسْتِفْزَازِهِمْ، حتى يُحافظَ على سُمعةِ الدَّعوةِ،

وحتى لا يقولَ من لا يَعْرِفُ الحقيقيةَ: إن محمداً يقتلُ أصحابه، فيحصلُ التَّفرقُ بسبب هذا.

وترك صلى الله عليه وسلم بناءَ الكعبةِ ولم يبنها على قواعدِ إبراهيم لأن قومه كانوا حديثي عهد بجاهلية، ولن يستوعبوا ذلك.

ولذا قرَّرَ غيرُ واحدٍ من أهلِ التحقيقِ كابنِ تيميةَ وغيرِه أنه تتركُ المستحباتُ مِنْ أجلِ الحفاظِ على مقصدِ الاجتماع.

هذه الغايةُ الشَّرعيةُ يجبُ أن لا يُختلفَ عليها، ويَجب أن يسعى الكلُّ نحو تحقيقِها.

نَعَمْ... قد  افترقتْ الأمةُ كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، بيد أنَّ هذا الافتراقَ، لا يعني الرضا بالواقعِ، وتركَ إصلاحِه، فالذي أخبرَ بافتراق أمَّتِه هو الذي أوصاها بالاجتماع على الكتابِ والسُّنَّةِ في غيرِ ما حديث.

إنَّ دعوةَ المجتمعِ والأمةِ إلى الاجتماعِ لا يعني الاتفاق على رأيٍ واحد، فالاختلافُ في مسائلِ الشريعةِ موجود، والتفرقُ غير الاختلاف، فقد اختلفتْ آراءُ الصحابةِ في مسائلَ كثيرةٍ في العباداتِ والمعاملاتِ والجهادِ وغيرِ ذلك، ولم يتفرقوا.

إنَّ الاجتماعَ المنشود في كلِّ مجتمعٍ أنْ يُجْتَمعَ على مُحْكَمَاتِ الدِّينِ وأُصُولِ الاعتقاد،

ويتعاذرونَ في مسائلِ الاجتهاد، فَيَسَعُهُم ما وَسِعَ سَلَفُ الأُمَّةِ، فهم أبرُّ ممن أتى

 بعدهم وأتقى.

إخوة الإيمان :

وعبرَ تاريخِ الأُمَّةِ كان أهلُ السنةِ والجماعةِ هُم من يَجمعُ الأمةَ ويُوحِّدُ صّفَّهَا، فقررَّوا أنَّ الاجتماعَ غايةٌ ومقصد، وذكروا ذلك في كتبِ العَقَائِد لأهميِّته.

فكان أهل السنة والجماعة هم أرحم الخلق بالخلق، وأنصح الخلق للخلق، وأحرصهم على جمع الخلق، وكان مسلكهم هو المسلك الذي حفظ الأمة، وارتقى بالأمة، وعزَّ الأمة.

أهلُ السنةِ والجماعةِ هُم من يَتَّبِعُونَ السلفَ الصالحَ من الصحابةِ والتابعينَ وأئمةِ الدِّين في فهمِ النصوصِ والتمسكِ بالسننِ، وتعبيدِ الخلقِ وِفْقَ ما شَرَعَهُ الله.

أهل السنة دعوتهم تبدأ بغرس توحيدَ ربِّ العالمين،وتَطهير البواطنَ من الخرافاتِ والبدع في الدين.

أهل السنة هم أهل اجتماع وجماعة، وسمع بالمعروف لمن ولي أمرهم وطاعة، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّى اللَّهُ أَمْرَكُمْ....) أخرجه مسلم.

أهل السنة والجماعة امتازوا بتعظيم النصوص وجعلها أصلاً، فلا يردونها لذوق أو هوى، أو مصلحة يقدرها بشر، يصيب حيناً، ويخطئ أحايينا.

أهل السنة لا يتعصَّبون للآراء، ولا يقدسون الرجال، وإنما هم للنصوص يعظمون، وللوحيين يوقِّرون، ولاؤهم وبراؤهم للإسلام وحدة، لا يوالون ويتبرؤون لأجل حزب وجماعة، أو لرمز وبضاعة.

أهل السنة حقا هم الذين يؤمنون بشموليةِ الدينِ في العباداتِ والمعاملاتِ والسياسةِ والاقتصادِ وجميعِ شؤونِ الحياة, فلا يفصلون شيئاً من الحياةِ عن الدين.

أهل السنة أورع الخلق عن أعراض الخلق، يوقرون الأعلام، ويتثبَّتون في الأحكام،  وعن علم يُصَدِّرُون الأحكام، وبعدل يحكمون على الأنام.

فليسوا سباقين في التصنيفات والتضليلات، وليس عندهم هوس في التبديع والتحزيبات، وليس عندهم إسقاط بالجملة أو الدخول في النيات.

 هم أهل اعذار واستعذار، يتسامون عن التحريض والتجييش على كلمة قيلت، أو هفوة ندَّت، بأن ورآها ما ورآها من الأهداف الخفية.

قال العَلَمُ الهُمامُ، ابنُ تيميةَ شيخُ الإسلام: (من عادى مخالفه وفرَّق بين جماعة المسلمين،وكفَّر وفسَّق واستحلَّ قتال مخالفه في مسائل الآراء والاجتهادات فهو من أهل التفرق والاختلافات).أهـ

مصطلح أهل السنة بمعناه العام هو المظلةُ الكبرى التي يَجتمعُ عليها المسلمون، فالمسلمُ بفطرتِه لو تُركَ بلا مشوشاتٍ، ولا غُذِّيَ بالبدع والمُحْدَثات، فهو بفطرتِهِ يَتَّبِعُ الدليلَ ويحترمُ فهمَ سلفِ الأمة، ومن شذَّ فهو المخالف، فأهل السنة هم القاعدة والأصل، وليسوا استثناء.

فأهل السنة إذاً ليسوا حزباً، ولا طائفة، ولا شخصاً، ولا بلداً، ولا رؤيةً ضيقة.

وعليه... إذا تقرر مصطلح ومنهج أهل السنة فليس هناك ناطِقٌ رسمي أو ممثلٌ لأهل السنة، بحيث يكون من خالفَه فقد خالفَ منهج أهل السنة.

وعليه ... فلا يجوزُ إخراجُ مسلمٍ من أهل السنة إلا إذا خالف أصلاً كلياً اتُفِقَ عليه بين السلف.

وعليه ... فوقوعُ بعضِ المنتسبينَ لأهل السنة في أخطاء، لا يصحُّ نسبتُه لأهل السنة، وإنَّما تنسب الأخطاءُ إلى قائِلها ليس إلا .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصبروا إنَّ الله مع الصابرين }.بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....

الخطبة الثانية

أما بعد فيا أهل الإيمان:

إن مما ينبغي أن يُعلم ويقال: أن كل افتراق حصل ويحصل سببه البعد عن الكتاب والسنة، فَبِقَدْرِِ التَّمَسُّكِ بالكتابِ والسُّنَّةِ تَجْتَمِعُ الأمَّةُ، وبِبُعْدِها عن نُوْرِهِما يكون الافتراقُ والشَّتَاتُ، كما قال سبحانه عن النَّصارى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

وتأمل في تاريخ المسلمين، ترى أن ظهور الفرق البدعية هو شرارة الاختلاف والتناحر، والتفرق والتدابر.

فالبعد عن منهج أهل السنة في العقائد والعمليات، والدعوة والسلوكيات، سبب لبروز الانحرافات، وتورم البدع والمحدثات.

وإذا كان في خير القرون قد ظَهَرَتْ فِرَقٌ زاغت عن سبيل المؤمنين، بما أحدثوه في الدين، فلا زال التاريخ والواقع يُجلِّي انحرافات وانحرافات تتبناها أحزاب وجماعات، تنتسب للإسلام وترفع راية الدعوة والعمل للدين.

والواجب على أهل العلم والإيمان والبصيرة، تبصير الناس بأخطاء من يدعون إلى الخير على غير علم وبصيرة، وعلى غير منهاج النبوة.

وبيان الأخطاء والتحذير من التجاوزات، ليس هو دعوة للفرقة والاختلاف، بل هو النصيحة وتحقيق الائتلاف.

وبيان أخطاء هذه الجماعات لا يعني الغلظة والفضاضة، فأبرز سمة تميز بها أهل السنة هو التقويم والتصويب، برفق ورحمة واستيعاب، فإن استجاب المخالفون المخطئون فالحمد لله، وإن أصروا وعاندوا فالواجب الحذر والتحذير، حفظاً لجناب الدين من كل شر مستطير.

قال العلامة ابن باز عن جماعة التبليغ التي تأسست في الهند، وكان عندها ما عندها من الأخطاء، والتزهيد في العلم والالتفاف حول العلماء، قال رحمه الله: (جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم، إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنّة والجماعة، حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير لأنهم نشيطون في عملهم، لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنَّة)أ.هـ

ولا شك أن أولى الأولويات، هو الدعوة لإصلاح المعتقدات، الذي من أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب،والذي عليه سيكون الفوز أو البوار يوم القيامة، فإذا صلحت العقائد صلح ما بعدها، وإذا فسدت فما سواها أفسد.

وكلُّ دعوة تَزْهَدُ وتُزَهِّدُ في تعلم وتعليم العقيدة فهي دعوة خرقاء عوراء، تحتاج أن تتعلَّم قبل أن تُعَلِّمْ، وتجثو الركب عند العلماء قبل أن تتصدَّرَ وتَتَكَلَّم.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم أجمع كلمة المسلمين في كل مكان على الهدى والدين، وعلى حب الله وتعظيم نصوص الوحيين.

المرفقات

الاجتماع-على-السنة-ونبذ-الفرقة

الاجتماع-على-السنة-ونبذ-الفرقة

المشاهدات 1037 | التعليقات 0