الإيمان باليوم الآخر - جزء 8/3 (الإيمان بالحساب والجزاء)
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله حكيم في تشريعه، حكيم في تقديره، حكيم في جزائه، وإن من حكمة الله تعالى أن جعل لهذه الخليقة معادًا يجازيهم فيه على ما كلَّفهم به على ألسنة رسله، قال الله تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فتعالى الله الملك الحق﴾.
أيها المؤمنون، تقدم الكلام في خطبتين ماضيتين عن بعض مقتضيات الإيمان باليوم الآخر، وهي الإيمان بالنفخ في الصور، وأهوال القيامة، وبعث الخلائق، وحشر الناس إلى أرض المحشر، واليوم نتكلم بإذن الله عن الحساب والجزاء.
1. عباد الله، الحساب والجزاء حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، والدليل على ثبوتهما قول الله تعالى ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾، وقوله تعالى ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين﴾ .
2. عباد الله، والحساب والجزاء هو مقتضى الحكمة، فإن الله تعالى أنـزل الكتب وأرسل الرسل، وفرض على العباد قَبـول ما جاءوا به، والعمل بما يجب العمل به، وشرع قتال المعارضين له، وأحَلَّ دماءهم وذرياتهم ونساءهم وأموالهم، فلو لم يكن ثمة حساب ولا جزاء لكان هذا التشريع من العبثِ الذي يُنـزَّه الرب الحكيم عنه.
3. عباد الله، والحساب حسابان؛ حسابُ عَرضٍ وحسابُ مناقشةٍ وعذابٍ، يدل لهذا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ليس أحد يحاسَب يوم القيامة إلا هَــلَــك.
فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى ﴿فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا﴾ ؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنما ذلك العـَرْض، وليس أحد يُـــناقش الحساب يوم القيامة إلا عُــــذِّب.[1]
عباد الله، ويدخل في الصنف الأول من تُعرض عليهم ذنوبهم، وسترها عليهم في الدنيا، ثم يغفرها الله يوم القيامة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الله يُدنِـي المؤمن فيضَع عليه كَـــنَفَه[2] ويَستُـرُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟
فيقول: (نعم أيْ رب)، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك قال: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيُعطى كتابَ حَسناتِه.[3]
4. عباد الله، وفي ذلك اليوم توزن أعمال الناس بموازين لإظهار عدل الله في الناس، قال تعالى ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾.
· فإن قيل: كيف توزن الحسنات والسيئات مع كونها أمورا معنوية؟
فالجواب أن الأعمال تنقلب أجساما حسية بقدرة الله، وهكذا غير الأعمال، فالموت مثلا أمر معنوي لا حسي، وفي يوم القيامة يؤتى به على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار، ثم ينادَى: (يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت).[4]
· فإن قيل: هل توزن أعمال المؤمنين والكافرين جميعا، أم المؤمنين فقط؟ فالجواب أن الذي يوزن في الآخرة هو أعمال المؤمنين، فإن لم تكن على المؤمن معاصٍ دخل الجنة ابتداء، وأما إن كان عليه معاصٍ عُذِّب بها، ثم يُدخِلُه الله الجنة، أو يَغفر الله له ابتداءً فيدخل الجنة بلا عذاب، إما بشفاعة الشفعاء أو بِـمَـنِّ الله عليه. أما الكافر فلا توزن أعماله، لأن الله تعالى يجازيه بها في الدنيا بالصحة وسعة الرزق ونحو ذلك، فإذا لقي الله في الآخرة فإنه ليس له إلا النار ولو عمِل من الخير ما عمِل، قال تعالى عن الكفار ﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبِط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون﴾، وقال تعالى ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾، وقال تعالى ﴿مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء﴾، وقال تعالى ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا﴾، فالحاصل أن الكفار والمنافقين لا يحاسبون حساب موازنة بين الحسنات والسيئات، بل يحاسبون حساب تقرير وتقريع كما تقدم في حديث ابن عمر، فـــيُـــقَـــرَّرون بها ويُطْــــلَعون عليها، فإن أنكروا شَهِدَت عليهم أعضاؤهم، ثم ينادى بــهم على رؤوس الخلائق ﴿هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين﴾، ثم يُـــزَجُّ بهم في النار عياذا بالله. وفي هذا تنبيه على سِترِ الله للمؤمن وفضحِه للكافر.
5. معاشر المؤمنين، ومن مشاهد الحساب أن الناس إذا دُعوا إلى حسابهم جَـــثوا على ركبهم مما أصابهم من الهم، قال تعالى في سورة الجاثية ﴿وترى كل أمة جاثية كلُّ أمة تُدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ .
6. أيها المؤمنون، وأول ما يحاسب عليه العبد من أعماله المتعلقة بحقوق الله صلاتُهُ، فإن صَلحت صَلَحَ سائرُ عمله، وإن فسدت فَسد سائرُ عمله.[5]
7. وأول ما يحاسب عليه العبد فيما يتعلق بحقوق الآدميين الدماء، والدليل على هذا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء.[6]
8. وفي ذلك اليوم تشهد أعضاء الإنسان عليه إذا أنكر ما عمله من السيئات، فيشهدُ عليه سمعه وبصره وجلده، قال تعالى ﴿ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يكسبون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون﴾ .
وقال الحسن البصري في قول الله تعالى (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا): يا ابن آدم، أَنصَفَك مَن خَلقك، جَـعَـلَـكَ حسيبَ نفسِك. وروى ابن جرير الطبري في «تفسيره» عن قتادة في قول الله تعالى (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا): سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
9. أيها المسلمون، وفي ذلك اليوم يُستثنى من الحساب سبعون ألفا، لا حساب عليهم ولا عذاب - جعلنا الله منهم - وهم المؤمنون الكُـمَّل، الذين قاموا بما أوجب الله عليهم من الطاعات، وسارَعوا في الخيرات، وتركوا المحرمات والمكروهات.[7]
وقد جاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه ما يدل على أن المشمولين بهذا الفضل أكثر من هذا العدد، فعنه رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: وعدني ربي أن يُدخِلَ الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثياته.[8]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
10. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الحساب يشمل الـجن والإنس، فإن الجن داخلون في عموم الرسالة كما هو معلوم، وهم مكلَّفون، قال تعالى ﴿قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار﴾ ، وقال في حور الجنة ﴿لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان﴾ ، فدلت الآية على أن في الجنة جِنًّا، يدخلونها كما يدخلها الإنس.
11. عباد الله، وفي ذلك اليوم يَقتَــــصُّ الله من البهائمِ بعضها لبعض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لتؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.[9] أي يُقتص للشاة التي لا قرون لها من ذات القرون التي نطحتها، فسبحان من أبهر بعدله وحكمته العقول.
وبعد عباد الله، فهذه عشرة أمور داخلة في الإيمان بالحساب والجزاء يوم القيامة، جعلنا الله ممن أخذ كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا.
ثم اعلموا رحمكم الله أن من أفضل أعمالكم يوم الجمعة وليلتها الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم. اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وعاف مبتلانا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلِّم تسليما كثيرا.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان الرسي، واتس: 00966505906761، وهي منشورة في:
www.saaid.net/kutob
https://t.me/jumah_sermons
[1] رواه البخاري (6537) ومسلم (2876) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] كنَـفه أي ستره، وقيل رحمته ولطفه. انظر «النهاية».
[3] رواه البخاري (2441) ومسلم (2768).
[4] انظر صحيح البخاري (4730) ومسلم (2849).
[5] رواه الطبراني في الأوسط (1880) ، ( الناشر: دار الحديث - القاهرة) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، وصححه الألباني كما في «الصحيحة» (1358).
[6] رواه البخاري (6533) ومسلم (1678) عن ابن عمر رضي الله عنه.
[7] انظر صحيح البخاري (6541) ، ومسلم (220) والترمذي (2446) وأحمد (1/271).
[8] أخرجه الترمذي واللفظ له (2437) وغيره، وصحح إسناده الألباني رحمه الله كما في «الصحيحة» (1909).
[9] رواه مسلم (2582).
المرفقات
1699709166_خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 3.docx
1699709167_خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 3.pdf