الإيمان باليوم الآخر - جزء 8/2 (فزع الناس - دنو الشمس - الحوض - الشفاعة)
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله حكيم في تشريعه، حكيم في تقديره، حكيم في جزائه، وإن من حكمة الله تعالى أن جعل لهذه الخليقة معادًا يجازيهم فيه على ما كلَّفهم به على ألسنة رسله، قال الله تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فتعالى الله الملك الحق﴾.
أيها المؤمنون، تقدم الكلام في الخطبة الماضية عن بعض مقتضيات الإيمان باليوم الآخر، وهي الإيمان بالنفخ في الصور، وأهوال القيامة، وبعث الخلائق، وحشر الناس إلى أرض المحشر، واليوم نتكلم بإذن الله عن بعض تفاصيل ما يحصل في أرض المحشر.
عباد الله، ومما يحصل في أرض المحشر أربعة أمور:
1. فزع الناس، ودليله قوله تعالى في مطلع سورة الحج ﴿إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾.
ومن شدة ذلك اليوم وعظيم كَرْبه أن عقول الناس تضطرب وتطيش في تـحديد مدة لبثهم في الدنيا، فمنهم من يقول ﴿إن لبثتم إلا عشرا﴾، ومنهم من يقول ﴿لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين﴾، وفي آية أخرى يقول الله عنهم ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة﴾.
ومن شدة ذلك اليوم وعظيم هوله أن الناس يَذهل بعضهم عن بعض، قال تعالى ﴿يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه﴾.
عباد الله، والذين يُصيبهم الفزع يوم القيامة هم أهل المعاصي من الكافرين والمبتدعين وعصاة المؤمنين، قال تعالى ﴿وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾، أما المؤمنون الكُـمَّل فلا، وهم الذين قاموا بطاعة الله واجتنبوا ما حرم الله، فمن خاف الله في الدنيا أمَّنه في الآخرة، ومن أمِنه في الدنيا أفزعه في الآخرة، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، أنه لا يجمع على عبده أمنين ولا خوفين، قال تعالى عن المؤمنين الصادقين ﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة﴾، وقال تعالى ﴿وهم من فزع يومئذ آمنون﴾، وقال تعالى ﴿أفمن يُلقى في النار خير أمَّن يأتي آمنا يوم القيامة﴾.
2. ومما يكون في أرض المـحشر دُنُــــوُّ الشمس من الخلائق حتى تكون بمقدار مِيل، قيل مِيل الـمِكحلة، وقيل ميل المسافة، وسواء هذا أو ذاك فالشمس ستكون قريبة جدا من الرؤوس.[1]
فإن قيل: هل يَسلمُ أحد من الشمس؟ فالجواب نعم، هناك أصناف من الناس يَقيهُمُ الله شمس ذلك اليوم، منهم السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وهو ظِلٌّ يَـخلُقه الله عز وجل، وهو ظل العرش، فيتَّــقي به أصناف من الناس شمس ذلك اليوم، جعلنا الله منهم، وهم إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجُـــلٌ دعته امرأة ذات منصب وجـمال فقال: (إنـي أخاف الله)، ورجُـــلٌ تصدَّقَ بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.[2]
3. ومما يكون في أرض المحشر ورود الناس على حوض النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي هو في أرض المحشر، فيشرب منه المؤمنون المستقيمون على الشريعة، ويُذاد عنه صنفان من الناس: الأول من ارتدوا عن الإسلام، كالذين ارتدوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومثلهم من ارتد ممن جاء بعدهم إلى يوم القيامة. والصنف الثاني هم أهل البدَع، سواء القولية أو العملية، فإنهم يُذادُون - أي يُطردون - عن الحوض كما تُذاد الغريبة من الإبل.[3]
وهذا الحوض يَصُبُّ فيه مِيزابان[4] من نَـهَر الكوثر الذي بالجنة، ومعنى الكوثر الخير الكثير، وطول الحوض مسيرة شهر، فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضا من اللبن، ورائحته أطيب من المسك، ومَذاقه أحلى من العسل، من يشرب منه شربة فإنه لا يظمأ بعدها أبدا، يصب فيه ميزابان من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من فضة، عرضه مثل طوله، كما بين صنعاء والمدينة.[5]
عباد الله، وحوض النبي (صلى الله عليه وسلم) موجودٌ الآن، كما قال عليه الصلاة والسلام: وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن.[6]
ومما ورد في أخبار الحوض أن لكل نبي حوضا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل نبي حوضا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ واردة)[7]، وهذا من حكمته تعالى ورحمته بعباده، ليشرب المؤمنون المتبعون للأنبياء السابقين من أحواض أنبيائهم، جزاء وِفاقا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
4. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا رحمكم الله أن مِن مشاهد الحشر يوم القيامة الشــفاعة العــظمى، حيث أن الناس يوم القيامة يطول بهم الموقف، مؤمنِهم وكافرِهم، فيذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم لبدء الحساب، ليرى كلٌّ سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيعتذر عنها الأنبياء الـــــخمسة، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ثم يُـحيلهم عيسى (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيذهبون إليه فيقول: (أنا لها)، فيسجد تحت العرش ما شاء الله أن يسجد، ثم يَفتح الله عليه من محامده وحُسن الثناء عليه شيئا لم يَـفْــتَحهُ على أحد قبله، ثم يُـــقال له: (ارفع محمد، وقُل يُسمع، واشفع تُشَفَّع، وسَل تُعطَ)، فيشفع لأهل الموقف عند الله لبدء الحساب فيقبل الله شفاعته، فيبدأ الحساب وفصل القضاء بين العباد كلهم، مؤمنهم وكافرهم، من لَدُن آدم إلى قيام الساعة.
وهذه الشفاعة هي المقام الـمـحمود الوارد ذكره في قوله تعالى )عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا(، وهو المقام الذي يحمَدُه فيه الأولون والآخِرون يوم القيامة، ويغبِطونه عليه، إذ تكون له المنة على جميع الخلق في بدء الحساب، مؤمنِهم وكافرِهم، إنسِهم وجنِّهم.
ولِعِظَم شأن هذه الشفاعة؛ سماها أهل العلم بالشفاعة العظمى، وهي أوَّل الشفاعات التي تكون يوم القيامة.
وبعد عباد الله، فهذه أربعة أمور مما تكون في موقف المحشر يوم القيامة، ينبغي للمسلم أن يستحضرها على الدوام ليكون على وجلٍ من الله، فينبعث للعمل الصالح، ويتوقى ما يُسخط الله تعالى.
· ثم اعلموا رحمكم الله أن من أفضل أعمالكم يوم الجمعة وليلتها الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
· اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
· اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
· اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
· اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
· اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
· اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وعاف مبتلانا.
· اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
· ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
· عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان الرسي، لإلقائها في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة لعام 1442، في مدينة الجبيل، في المملكة العربية السعودية، واتس: 00966505906761، وهي منشورة في صفحة:
www.saaid.net/kutob
https://t.me/jumah_sermons
[1] انظر صحيح مسلم (2864).
[2] روى هذا الحديث البخاري (660) ومسلم (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] انظر «صحيح مسلم» (2302).
[4] الميزاب ويسمى أيضا بالمرزاب، وهو المجرى الذي يُعد ليسيل منه الماء من موضع عال، كسطح البيت وميزاب الكعبة. انظر «تاج العروس».
[5] انظر الأخبار الواردة في الحوض في «صحيح البخاري»، كتاب الرقاق، باب في الحوض، وكذلك «صحيح مسلم»، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وسلم) وصفاته.
[6] رواه البخاري (6590) ومسلم (2296) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[7] رواه الترمذي (2443) عن سمرة رضي الله عنه، وصححه الألباني كما في «الصحيحة» (1589).
المرفقات
1699169185_خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 2.docx
1699169185_خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 2.pdf