الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة([1])

 

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الإنسان، وعَلَّمهُ البيان، ووَهَبَ له العقلَ ليَعْقِلَ عن ربِّهِ ما شَرَعهُ وأبان، وأنزلَ القرآنَ تَبصرةً للعُقُولِ والأذهان، أحمدُهُ حَمْدًا يَمْلأُ الميزان، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأن﴾([2])، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، المبعوثُ إلى الناسِ كافَّةً بالدليلِ والبرهان، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على عبدِكَ ورسُولِكَ محمد، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن تَبِعَهُم بإحسان.

أما بعد:

فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المسلمون- حَقَّ تَقواه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾([3]).

عبادَ الله:

القرآنُ الكريمُ هو دُستُورُ الأمة، وقد نُصَّ فيه على أصولٍ هي قاعدةُ الدينِ الحقِّ المُنَزَّلِ من عندِ اللهِ جَلَّ جَلالُه، فالأصلُ الأولُ هو التوحيد، والثاني الإيمان، والثالثُ الإسلام، فالتوحيدُ هو الأصلُ الأعظمُ في الدين، فهو مِفتاحُ دعوةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاةُ والسلام، وهو أولُ ما يَدخُلُ به المَرْءُ الإسلام، وآخِرُ ما يَخرُجُ به من الدنيا؛ كما جاء ذلك في الأحاديثِ الصحيحة، وهو الغايةُ التي من أجْلِها خَلَقَ اللهُ الخَلْق، وأرسلَ الرُّسُل، وهو النِّعمةُ الكُبرى، والمِنَّةُ العُظمى التي امتَنَّ اللهُ بها على العِباد، وهو سببُ سعادةِ العبدِ في الدنيا والآخرة.

ويتضَمَّنُ التوحيدُ ثلاثةَ أقسام: توحيدَ الرُّبُوبيَّة، وتوحيدَ الأُلُوهيَّة، وتوحيدَ الأسماءِ والصِّفات.

ثم يأتي بعد ذلك الأصلُ الثاني في القرآنِ الكريمِ وهو الإيمان، وله سِتَّةُ أركان، وهي: الإيمانُ بالله، وملائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِر، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشَرِّه.

والإيمانُ هو قولٌ باللِّسان، واعتقادٌ بالجَنَان، وعملٌ بالأركان، يزيدُ بالطاعة، ويَنقُصُ بالعصيان.

وقد وَرَدَ لفظُ الإيمانِ في القرآنِ في أحَدَ عَشَرَ وثمانِ مِئةِ مَوضِع، وهذا من أهمِّيَّتِه؛ لقولِه تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([4])، ومن أركانِ الإيمان: الإيمانُ بالملائكة، وأنهم كما قال سُبحانه: ﴿ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾([5])، خَلَقَهُمُ اللهُ من نور، فقاموا بعبادتِه، وانقادُوا لطاعتِه: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾([6])، حَجَبَهُم اللهُ عَنَّا فلا نراهُم، ورُبَّما كَشَفهُم لبعضِ عبادِه، فقد رأى النبيُّ ﷺ جبريلَ على صورتِه، له سِتُّ مِئةِ جناحٍ قد سَدَّ الأُفُق؛ كما ورد في صحيحِ البخاريِّ([7]) ومسلم([8])، وتَمَثَّلَ جبريلُ لمريمَ بَشَرًا سَوِيَّا، فخاطَبتْهُ وخاطبها، وأتى إلى النبيِّ ﷺ وعنده الصحابةُ بصورةِ رجلٍ لا يُعْرَف، ولا يُرى عليه أثرُ السفر، شديدِ بَياضِ الثياب، شديدِ سَوادِ الشَّعْر، فجلس إلى النبيِّ ﷺ، فأسندَ رُكبتَيْهِ إلى رُكبَتَيْه، ووضع كَفَّيْه على فَخِذَيْه، وخاطَب النبيُّ ﷺ أصحابَه أنَّ هذا جبريلُ جاءكم يُعَلِّمُكم دينَكُم([9]).

ونحنُ المسلمون نُؤمِنُ بأنَّ للملائكةِ أعمالًا كُلِّفُوا بها، فمنهم جبريلُ المُوكَّلُ بالوحي، يَنزِلُ به من عندِ اللهِ على مَن يشاءُ من أنبيائِهِ ورُسُلِه، ومنهم ميكائيلُ المُوكَّلُ بالمطرِ والنبات، ومنهم إسرافيلُ المُوكَّلُ بالنفخِ في الصُّورِ حينَ الصَّعْقِ والنُّشُور، ومنهم مَلَكُ الموتِ المُوكَّلُ بقبضِ الأرواحِ عند الموت، ومنهم مَلَكُ الجبالِ المُوكَّلُ بها، ومنهم مالِكٌ خازِنُ النار، ومنهم ملائكةٌ مُوكَّلُون بالأجِنَّةِ في الأرحام، وآخَرونَ مُوكَّلُون بِحفظِ بني آدَم، وآخَرونَ مُوكَّلُون بكتابةِ أعمالِ بني آدمَ لكُلِّ شخصٍ مَلَكان ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾([10])، وآخَرونَ مُوكَّلُون بسؤالِ الميتِ بعد الانتهاءِ من تسليمِهِ إلى مَثواه؛ فيأتيانِهِ ويسألانِهِ عن رَبِّهِ ودِينِهِ ونبِيِّه ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾([11])، ومنهم ملائكةٌ مُوكَّلُون بِأهلِ الجنة ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾([12]).

وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن البيتَ المعمورَ في السماءِ يدخله -وفي رواية: يُصَلِّي فيه- كُلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ مَلَك، ثم لا يعودونَ إليه؛ كما في البخاريِّ([13]) ومسلم([14]).

 

ويتضَمَّنُ الإيمانُ بالملائكةِ أُمُورًا:

فالأولُ: الإيمانُ بوُجودهم، ولذا لا يَشعُرُ المؤمنُ بوحشةٍ أو قِلَّةٍ وهو يُؤمِنُ بوُجودهم، بل يبعثُ هذا مزيدًا من الطُّمَأنينة، والاجتهادِ في الطاعة.

الثاني: الإيمانُ بما ثَبَت بالدليلِ الصحيحِ من صِفاتِهِم وأسمائِهِم، ومَن لم نَعلم اسمَه نُؤمِنُ به إجمالا.

والثالثُ: الإيمانُ بما ثَبَت بالدليلِ من أعمالِهِم، فعلى المسلمِ أن يَتَطَلَّبَ دعاءَ الملائكةِ عليهم السلامُ واستغفارَهُم، والمُكْثَ في الأماكِنِ التي يحضُرُونها، فالملائكةُ تُصَلِّي على أحَدِكُم ما دام في مُصَلاه الذي يُصَلِّي فيه، وتَحُفُّ مَجالِسَ الذِّكرِ والعِلم، ومُدارَسةِ القرآن.

والأمرُ الرابعُ: اجتنابُ لَعنِهِم، وكلِّ ما من شأنِهِ أن يُؤذِيَهُم، كالذنوبِ والمعاصي، وأكلِ الثومِ والبصلِ عند الذهابِ للمسجدِ ومَجالِسِ الذِّكر، ويُقاسُ عليها الروائحُ الكريهةُ كالدُّخَانِ والمُسْكِرات، وكلُّ ما يتأَذَّى منه الإنس، وعلى المسلمِ اجتنابُ ما يمنعُ الملائكةَ من دخولِ منزلِهِ كالتماثيلِ والصُّوَرِ والكِلاب، قال ﷺ: «لا تَدخُلُ الملائكةُ بيتًا فيه كلبٌ أو تِمثال»، أخرجهُ أبو داود([15])، وابنُ حِبان([16])، وصحَّحهُ الألباني([17])، وفي الحديثِ الآخَرِ قال ﷺ: «إن ‌أصحابَ ‌هذه ‌الصُّوَرِ يُعَذَّبونَ يومَ القيامة، يُقالُ لهم: أحْيُوا ما خَلقتُم» أخرجه البخاريُّ([18]) ومسلم([19]).

أمَّا ما تَعُمُّ به البَلْوى من الصُّوَر، كالبطاقاتِ والوثائِقِ والنُّقُود، والصُّوَرِ المُمْتهَنةِ في المَفارِشِ والوَسائِدِ ونحوِها فلا حَرَج، وأما تعليقُ الصُّوَرِ على الجُدْرانِ والأبوابِ فمُنكَرٌ لا يجوز؛ كما قال به العلامةُ الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ رحمه الله([20]).

قال تعالى في مُحْكَمِ التنزيل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([21]).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريم، وفي سنةِ سيدِ المرسَلين، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين.

 


 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، وَلِيِّ المتقين، ولا عُدْوانَ إلا على الظالمين، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، إلهُ الأولينَ والآخِرِين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسُولُهُ المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.

أما بعد:

 فاتَّقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ حَقَّ تُقاتِه، ولا تمُوتُنَّ إلا وأنتم مسلمون.

عبادَ الله:

 من ثمراتِ الإيمانِ بالملائكةِ عليهم السلام:

1- العلمُ بعَظَمةِ اللهِ سُبحانه خالِقِهِم وقُوَّتِهِ وسلطانِه، وهذا يُؤَدِّي إلى خشيتِهِ سُبحانه، وتعظيمِهِ في النُّفوس.

2- شُكْرُهُ سُبحانه على عِنايتِهِ بعبادِه، إذْ وَكَّلَ بهم الملائكةَ يقومونَ بحفظِهِم، وكتابةِ أعمالِهِم، وغيرِ ذلك من مَصالِحِهم.

3- محبةُ الملائكةِ عليهم السلامُ على ما يقومون به من عبادةِ اللهِ  سُبحانه وتعالى على الوَجْهِ الأكمَلِ واستغفارِهِم للمؤمنين، وقد وَرَدَ عن البراءِ أن النبيَّ ﷺ قال: «إذا أتيتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضوءَك للصلاة، ثم اضْطَجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ ثم قُلْ: اللهُمَّ أسلمْتُ وجهي إليك، وفَوَّضْتُ أمْرِي إليك، وألجأْتُ ظَهرِي إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلْجأَ ولا مَنْجى منك إلا إليك، اللهُمَّ آمَنْتُ بكتابِكَ الذي أنزلْت، ونبيِّكَ الذِي أرسَلْت، فإن مِتَّ من لَيلَتِكَ فأنت على الفِطرة، واجعَلْهُم آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ به» أخرجه البخاري([22])، وإذا بات المسلمُ طاهِرًا بات معه مَلَكٌ يدعو له.

4- محاسبةُ النفسِ ويَقَظةُ الضميرِ في كل قولٍ وعمل، فثَمَّةَ كاتبين يُحصيانِ عليك أعمالَكَ ولَفْظَك ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.

صَلُّوا بعد هذا على الرسولِ المُجتبى، والنبيِّ المُصطفى، وقُولُوا كما عَلَّمَكُم: (اللهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد).

 

 

 

 


([1]) أُلقيت في 20/6/1444ه.
([2]) الرحمن: 29.
([3]) الأحزاب: 70-71.
([4]) المائدة: 5.
([5]) الأنبياء: 26-27.
([6]) الأنبياء: 19-20.
(([7] (3232) من حديث عبدالله بن مسعود رضي اللهُ عنه.
([8]) (174) من حديث عبدالله بن مسعود رضي اللهُ عنه.
([9]) أخرجه مسلم (8) من حديث عمر رضي اللهُ عنه.
([10]) ق: 17-18.
([11]) إبراهيم: 27.
([12]) الرعد: 23-24.
([13]) (3207) من حديث مالك بن صعصعة رضي اللهُ عنه.
([14]) (162) من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه.
([15]) (4153) من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي اللهُ عنه.
([16]) (5468) من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي اللهُ عنه.
([17]) "التعليقات الحسان على صحيح ابن حِبان" (5444).
([18]) (7558) من حديث عبدالله بن عمر رضي اللهُ عنهما.
([19]) (2108) من حديث عبدالله بن عمر رضي اللهُ عنهما.
([20]) "فتاوى نور على الدرب" (3/110).
([21]) فاطر: 1.
([22]) (247).

المشاهدات 188 | التعليقات 0