الإيمان بالقضاء والقدر.. آثار وثمار
مريزيق بن فليح السواط
1433/06/12 - 2012/05/03 23:11PM
إن الحمد لله .....
فإن من أركان الإيمان التي يجب الإيمان بها، والتصديق بكل ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطائك لم يكن ليصيبك.
هذا الإيمان بالقضاء والقدر: هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأن جميع ما يجري في الأفاق والأنفس من خير وشر فهو بتقدير الله "إنَّا كل شيء خلقنه بقدر" قال طاووس: أدركت أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال وسمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس أو الكَيْس والعجز" _الكَيْس هو النشاط والحذق بالأمور_ أوصى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أبنه فقال: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول ما خلق الله القلم فقال أكتب؟ فقال: يا رب وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، يا بني أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا فليس مني".
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الدين، وقاعدة من قواعد الإيمان برب العالمين، ثبت في الحديث الصحيح لما سأل جبريل عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" وما كان بهذه المنزلة فأهميتة عظيمة قال إبن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض توحيده. والقدر هو قدرة الله كما قال الأمام أحمد. قال ابن عقيل: وهذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين. قال بن القيم: وهو كما قال أبو الوفاء بن عقيل، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها.
أخوة الإيمان:
الإيمان بالقضاء والقدر يقوم على أربعة أركان، لا يتم إلا بها جميعاً. أول هذه الأركان: الإيمان بعلم الله الأزلي وأنه أحاط بكل شئ علما، وأنه سبحانه علم ما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، علم خَلْقه قبل أن يَخْلُقهم، وعلم أرزاقهم وأجالهم، وأقولهم وأعمالهم، وأهل الجنة وأهل النار منهم، قال تعالى: "ألم تعلم أن الله يعلم مافي السموات ومافي الارض"ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من نفس الا وقد عُلِم منزلها من الجنة والنار".
وثاني أركان الإيمان بالقضاء والقدر: الكتابة. فنؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شئ قال تعالى: "وكل شئ فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر" وقال سبحانه: "وما أصاب من مصيبة في الأرض إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" وقال جل وعلا: "وكل شئ أحصيناه في كتاب مبين" كل شئ مكتوب قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه وعرشه على الماء".
أما الركن الثالث: فهو المشئية، فنؤمن بمشئية الله النافذة، وقدرتة الكاملة، وأنه لا يكون شئ في السموات والأرض إلا بإرادته ومشئيته فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لاحركة ولا سكون، ولا هداية ولا ضلال الا بمشئية الله قال تعالى: "وربك يخلق مايشاء ويختار" وقال سبحانه: "وما تشأؤن إلا أن يشاء الله" وقال جل من قائل: "من يشأء الله يضلله ومن يشاء يجعله على صراط مستقيم ".
والركن الرابع: الخلق فنؤمن بأن الله خالق كل شئ قال سبحانه: "وخلق كل شئ فقدرة تقديراً" وقال تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" فكل الحوادث مخلوقه، وكل ماسوى الله مخلوق،موجود من العدم، كان بعد أن لم يكن، وليس من مخلوق الا ويمر بهذه المراتب الأربع. وللشافعي رحمه الله أربعة أبيات يقول عنها ابن عبد البر إنها من أثبت ما نسب للشافعي ومن أحسن ما قيل في القدر:
ما شئتَ كان وإن لم أشاء
وما شئتُ إن لم تشـاء لم يكـن
خَلقتَ العبادَ على ماعلمتَ
وفي العلمِ يجري الفَتَى والمُسِن
على ذا منَنْتَ وهذا خَذَلتَ
وهـذا أَعنـتَ وذا لـم تُعِنْ
فمنهم شَقيٌّ ومنهم سَعيد
ومنهم قبيحٌ ومنهم حَسَن
قال النووي رحمه الله: لقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدرة الله تعالى. وقال بن حجر رحمه الله: ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى. قال تعالى: "وكان أمر الله قدراً مقدورا" وقال تعالى: "ليقضي الله أمراً كان مفعولا" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام إني أعلمك كلمات أحفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سئلت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك الا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الاقلام وجفت الصحف".
بل حتى العرب في جاهليتهم كانوا يثبتون القدر، قال عنترة بن شداد:
يا عبْلُ أين من المنية مهربي
إن كان ربي في السماء قضاها
وقال طرفة بن العبد:
فإن كنتَ لا تستطـيع دفع منيتي
فـدعني أُبادرها بما ملكـت يدي
فلو شاء ربي كُنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
وقال عمرو بن كلثوم:
وإناسوف تُدركُنا المنايا*مُقدرةً لنا ومقدّرينا
وهاني بن مسعود الشيباني يقول: في خطبة ذي قار لما خطب بقومه: إن الحذر لا ينجي من القدر، تجري المقاديرُ على غرز الإبر ما تنفذ الإبرة الا بقدر.
عباد الله:
إذا أمن الانسان بالقدر إيمانا كاملا، ربح وفاز، وحصل له ثمرات عديدة، وفوائد جميلة، يجدها العبد ممزوجة في حياته، ظاهرة في أعماله وتصرفاته، فمن ثمرات الإيمان بالقدر أنه يدعوا إلى العمل والنشاط، ويحفز على الإعمار والبناء، فيقدم المؤمن على العطاء ويستسهل والمشاق، أخذا بالأسباب المحسوسة، والأساليب الملموسة، في ثبات وعزم ويقين، وتوكل على رب العالمين، فتقوم الحضارات، ويرتفع الإنتاج، وتزدهر الدول، ويهنأ الناس بحياتهم، ويسعدون بواقعهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل :قدر الله وما
شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم.
الإيمان بالقدر يورث الشجاعة والإقدام ويبعث على التضحية والفداء، ومواجهة الشدائد والصعاب، فيثبت الموقن به في ساحات الجهاد، لعلمه أنه لن يموت قبل وقته، فالأجال محدودة، والأنفاس معدودة، وأنه لن يناله إلا ما كتب الله له، فيقدم في المعركة غير هياب ولا وجل، لما رسخت هذه العقيدة في قلوب المؤمنين، ثبتوا في القتال، وعزموا على مواصلة الجهاد فسطروا أعظم الملاحم، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والصمود، ومواجهة العدو مهما كانت قوته، ومهما بلغ عدده وعُدته، فهذا خالد بن الوليد يقول : ما من ليلة يهدي الي فيها عروس أنا لها محب، أحب ألي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أُصبح فيها العدو، ولقد طلبت الموت مظانه فلم يكتب لي، وما من شبر من جسدي الا فيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، والأن أموت على فراشي كما يموت البعير. قال عبد الله بن عمر : رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين: أمن الجنة تفرون؟؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إلي، وأنا أنظر الى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال. وقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس، وأشتد القتال، أقرب الناس للعدو. وقف يوم حنين على بغلة لا تستطيع الكر ولا الفر وقد انسحب من معه وهو يقول بأعلى صوته: "أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب".
الإيمان بالقدر يقضي على الأمراض التي تعصف بالمجتمع، وتزرع الأحقاد بين الناس، فتفرق بينهم وتوغر صدورهم، فإذا تمكن الإيمان بالقدر من القلب تخلص من الحسد والحقد، تعلم أن الله كتب لهذا كذا ولهذا كذا وكتب لك كذا فلا تحسدهم ولا تحقد عليهم وتقنع بما أتاك الله " أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله" "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" فلا تتسخط وما تقول لماذا فلان مرتبته آعلى مني؟؟ وأنا أذكى منه!! ولماذا فلان أغنى مني؟؟ وأنا أقوى منه!! قضاء وقدر فتقنع وتستريح وتترك الحقد والحسد.
الإيمان بالقدر يجعل العبد قنوع، عزيز نفس، متحرر من رق المخلوقين، يعلم أنه لن يموت حتى يستكمل رزقه وأجله، وأن الله كافيه من كل سوء، وأنا ما كتب له سيصل إليه، فلا يستطيع أحد أن يقطع رزقك!! أو يضرك في بدنك!! فلا تلتفت إلى أحد، ولا تذل نفسك إلى أحد، ولا تقف على باب أحد، قنوع بما أتاك الله، مطمئن النفس، مرتاح البال، كما قال الشافعي يرحمه الله:
رأيتُ القناعةَ كنزُ الغنى
فصرتُ بأذيالها مُمتسك
فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به مُنهمك
وصرت غنيا بلا درهم
أمرّ على الناس شبه الملك
الإيمان بالقدر يحفظ الدين، ويقوي الإيمان، ويثبت على طاعة الرحمن، ويصرف عن العمل الرياء، فإذا تحققت أن الناس لا ينفعونك بشيء، ولا يدفعون عنك شيء، إستوى عندك مدحهم وذمهم، ولم تبالي في عطائهم ومنعهم. فتحقق الإخلاص الذي هو طريق الفلاح، وسبيل النجاح.
الحمد لله على إحسانه ...
إذا تمكنت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر من القلب، إنشرح الصدر، وانتعشت النفس، وصلحت الحياة قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور الا في مواضع القضاء والقدر. فالهداية أعظم مطلوب وأشرف مرغوب أثر من أثارها وثمرت من بستانها قال تعالى: "وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه" قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم.
الإيمان بالقدر يقي من الحُزن والجزع والتسخط، ويقود إلى الرضا والصبر والتسليم، قال إبراهيم الحربي رحمه الله: من لم يؤمن بالقدر لم يهنئا بعيشه، "إن الإنسان خُلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا" فالمصائب لا تتعاظمها القلوب، ولا تضيق بها الصدور، ألا حين يغيب عنها الإيمان بالقضاء، ويضعف فيها التصديق بالقدر، عندها تجنح إلى ممارسات خاطئه، وسلوكيات مشينة، فيسكنها القلق، ويصيبها الحزن، وتنزل بها الصدمات العصبية، وتتعرض للإكتئاب النفسي، وربما أدى بها إلى الجنون، أو ألجئها إلى تعاطي المخدرات والمسكرات، أو قادها إلى الإنتحار، والتخلص من الحياة، كم نسمع عن حالات الإنتحار وفي بلاد غنية ولأسباب تافهة فهذا انتحر لأن عشيقته تركته!! وهذا شنق نفسه لأن مغنيه المفضل
مات!! وآخر أحرق نفسه، ورابع رامى بها من مكان عالي فرارا من واقعهم المُزري، وحالهم المُردي.
كم يتألم البعض حين لا يجد وظيفة مناسبة، أو زوجة جميلة، أو يُحرم الولد؟؟؟ وكم يصيبه الهم حين لا يجد قوت يومه، أو حين يتسلط عليه عدوه،؟؟ كم يتمنى من الأماني السعيدة؟؟ وكم يحلم بواقع أفضل؟؟ أو عودة إلى الزمن الأجمل؟؟ ولو أمن بالقدر لسُرَّ قلبه، وانشرح صدره، وذهب همه وغمه، ولقد أحسن من قال:
صـغـيرٌ يشتـهـي الكِبـرا*وشـيـخٌ ودَّ لـو صَـغُـرا
وربُّ الـمـال فـي تـعـبٍ*وفـي تعـبٍ مـن افـتقـرا
وخـالٍ يـبـتـغـي عـمـلا *وذو عـمـلٍ بـه ضَـجُـرا
ومن فقد الجمالَ شكى *وقد يشـكوا الذي بَـهُـــرا
وذو الأولاد مــهــمــومٌ*وطـالبـُهُـم قـد انـْفَــطـرا
شُـكـاةٌ ما لهـا حـكـمٌ *سوى الخصمين إن حَضُرا
ويبغي المجدَ في لهفٍ* فإن يـَظْـــفَـر بـه فَــتـُـرا
ويشقى المـرءُ مُنهـزما*ولا يــرتــاحُ مُـنتــصــرا
فـهل حـاروا مع الأقـدار*أم هم عـارضـوا القـدرا
وهـم لـو أمـــنـوا بــالله*رزاقـــــا ومُــــقــتــدرا
لما لاقوا الذي لاقــــوه*لا هَـــــــــمًّا ولا كَـــدرا
كم نسمع بأمور مدهشة؟؟ وكم نرى من حوادث غريبة؟؟ نذهل منها، ونعجب من وقوعها، ونتسأل كيف حدث هذا؟؟ ولما وقع ذاك؟؟ فإذا أمنَّا بالقدر ذهب عنا الذهول، وعلمنا عِظَم قدرة الله تعالى مُصرِّف الأمور، قال عكرمة رحمه الله: سئل بن عباس رضي الله عنهما كيف تفقد سليمان عليه السلام الهدهد من بين الطير؟؟ فقال بن عباس: إن سليمان نزل منزلا فلم يدري ما بُعد الماء، وكان الهدهد مهندسا-أي عنده خاصية وهبها الله له يعرف بها مكان الماء تحت الأرض- فأراد أن يسأله عن الماء ففقده!! قال عكرمة فقلت لابن عباس: كيف يكون مهندسا والصبي ينصب له المصيدة فيصيده؟؟ فقال بن عباس: إذا جاء القدر حال دون البصر. يقع الإنسان في حادث فيصطدم بعمود!! أو يسقط في حفرة في عز الظهيرة!! فيسأله من حوله "ما تشوف"؟؟ وهي قضاء وقدر إذا جاء القدر عمي البصر، قال الحسن البصري رحمه الله: أن الله خلق خلقا فخلقهم بقدر، وقسَّم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر. فمكنوا هذه العقيدة من قلوبهم ورسخوها في صدوركم ، وسلكوا فيها مسلك أهل السنة والجماعة دون إفراط ولا تفريط.
فإن من أركان الإيمان التي يجب الإيمان بها، والتصديق بكل ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطائك لم يكن ليصيبك.
هذا الإيمان بالقضاء والقدر: هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأن جميع ما يجري في الأفاق والأنفس من خير وشر فهو بتقدير الله "إنَّا كل شيء خلقنه بقدر" قال طاووس: أدركت أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال وسمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس أو الكَيْس والعجز" _الكَيْس هو النشاط والحذق بالأمور_ أوصى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أبنه فقال: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول ما خلق الله القلم فقال أكتب؟ فقال: يا رب وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، يا بني أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا فليس مني".
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الدين، وقاعدة من قواعد الإيمان برب العالمين، ثبت في الحديث الصحيح لما سأل جبريل عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" وما كان بهذه المنزلة فأهميتة عظيمة قال إبن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض توحيده. والقدر هو قدرة الله كما قال الأمام أحمد. قال ابن عقيل: وهذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين. قال بن القيم: وهو كما قال أبو الوفاء بن عقيل، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها.
أخوة الإيمان:
الإيمان بالقضاء والقدر يقوم على أربعة أركان، لا يتم إلا بها جميعاً. أول هذه الأركان: الإيمان بعلم الله الأزلي وأنه أحاط بكل شئ علما، وأنه سبحانه علم ما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، علم خَلْقه قبل أن يَخْلُقهم، وعلم أرزاقهم وأجالهم، وأقولهم وأعمالهم، وأهل الجنة وأهل النار منهم، قال تعالى: "ألم تعلم أن الله يعلم مافي السموات ومافي الارض"ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من نفس الا وقد عُلِم منزلها من الجنة والنار".
وثاني أركان الإيمان بالقضاء والقدر: الكتابة. فنؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شئ قال تعالى: "وكل شئ فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر" وقال سبحانه: "وما أصاب من مصيبة في الأرض إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" وقال جل وعلا: "وكل شئ أحصيناه في كتاب مبين" كل شئ مكتوب قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه وعرشه على الماء".
أما الركن الثالث: فهو المشئية، فنؤمن بمشئية الله النافذة، وقدرتة الكاملة، وأنه لا يكون شئ في السموات والأرض إلا بإرادته ومشئيته فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لاحركة ولا سكون، ولا هداية ولا ضلال الا بمشئية الله قال تعالى: "وربك يخلق مايشاء ويختار" وقال سبحانه: "وما تشأؤن إلا أن يشاء الله" وقال جل من قائل: "من يشأء الله يضلله ومن يشاء يجعله على صراط مستقيم ".
والركن الرابع: الخلق فنؤمن بأن الله خالق كل شئ قال سبحانه: "وخلق كل شئ فقدرة تقديراً" وقال تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" فكل الحوادث مخلوقه، وكل ماسوى الله مخلوق،موجود من العدم، كان بعد أن لم يكن، وليس من مخلوق الا ويمر بهذه المراتب الأربع. وللشافعي رحمه الله أربعة أبيات يقول عنها ابن عبد البر إنها من أثبت ما نسب للشافعي ومن أحسن ما قيل في القدر:
ما شئتَ كان وإن لم أشاء
وما شئتُ إن لم تشـاء لم يكـن
خَلقتَ العبادَ على ماعلمتَ
وفي العلمِ يجري الفَتَى والمُسِن
على ذا منَنْتَ وهذا خَذَلتَ
وهـذا أَعنـتَ وذا لـم تُعِنْ
فمنهم شَقيٌّ ومنهم سَعيد
ومنهم قبيحٌ ومنهم حَسَن
قال النووي رحمه الله: لقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدرة الله تعالى. وقال بن حجر رحمه الله: ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى. قال تعالى: "وكان أمر الله قدراً مقدورا" وقال تعالى: "ليقضي الله أمراً كان مفعولا" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام إني أعلمك كلمات أحفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سئلت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك الا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الاقلام وجفت الصحف".
بل حتى العرب في جاهليتهم كانوا يثبتون القدر، قال عنترة بن شداد:
يا عبْلُ أين من المنية مهربي
إن كان ربي في السماء قضاها
وقال طرفة بن العبد:
فإن كنتَ لا تستطـيع دفع منيتي
فـدعني أُبادرها بما ملكـت يدي
فلو شاء ربي كُنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
وقال عمرو بن كلثوم:
وإناسوف تُدركُنا المنايا*مُقدرةً لنا ومقدّرينا
وهاني بن مسعود الشيباني يقول: في خطبة ذي قار لما خطب بقومه: إن الحذر لا ينجي من القدر، تجري المقاديرُ على غرز الإبر ما تنفذ الإبرة الا بقدر.
عباد الله:
إذا أمن الانسان بالقدر إيمانا كاملا، ربح وفاز، وحصل له ثمرات عديدة، وفوائد جميلة، يجدها العبد ممزوجة في حياته، ظاهرة في أعماله وتصرفاته، فمن ثمرات الإيمان بالقدر أنه يدعوا إلى العمل والنشاط، ويحفز على الإعمار والبناء، فيقدم المؤمن على العطاء ويستسهل والمشاق، أخذا بالأسباب المحسوسة، والأساليب الملموسة، في ثبات وعزم ويقين، وتوكل على رب العالمين، فتقوم الحضارات، ويرتفع الإنتاج، وتزدهر الدول، ويهنأ الناس بحياتهم، ويسعدون بواقعهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل :قدر الله وما
شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم.
الإيمان بالقدر يورث الشجاعة والإقدام ويبعث على التضحية والفداء، ومواجهة الشدائد والصعاب، فيثبت الموقن به في ساحات الجهاد، لعلمه أنه لن يموت قبل وقته، فالأجال محدودة، والأنفاس معدودة، وأنه لن يناله إلا ما كتب الله له، فيقدم في المعركة غير هياب ولا وجل، لما رسخت هذه العقيدة في قلوب المؤمنين، ثبتوا في القتال، وعزموا على مواصلة الجهاد فسطروا أعظم الملاحم، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والصمود، ومواجهة العدو مهما كانت قوته، ومهما بلغ عدده وعُدته، فهذا خالد بن الوليد يقول : ما من ليلة يهدي الي فيها عروس أنا لها محب، أحب ألي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أُصبح فيها العدو، ولقد طلبت الموت مظانه فلم يكتب لي، وما من شبر من جسدي الا فيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، والأن أموت على فراشي كما يموت البعير. قال عبد الله بن عمر : رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين: أمن الجنة تفرون؟؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إلي، وأنا أنظر الى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال. وقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس، وأشتد القتال، أقرب الناس للعدو. وقف يوم حنين على بغلة لا تستطيع الكر ولا الفر وقد انسحب من معه وهو يقول بأعلى صوته: "أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب".
الإيمان بالقدر يقضي على الأمراض التي تعصف بالمجتمع، وتزرع الأحقاد بين الناس، فتفرق بينهم وتوغر صدورهم، فإذا تمكن الإيمان بالقدر من القلب تخلص من الحسد والحقد، تعلم أن الله كتب لهذا كذا ولهذا كذا وكتب لك كذا فلا تحسدهم ولا تحقد عليهم وتقنع بما أتاك الله " أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله" "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" فلا تتسخط وما تقول لماذا فلان مرتبته آعلى مني؟؟ وأنا أذكى منه!! ولماذا فلان أغنى مني؟؟ وأنا أقوى منه!! قضاء وقدر فتقنع وتستريح وتترك الحقد والحسد.
الإيمان بالقدر يجعل العبد قنوع، عزيز نفس، متحرر من رق المخلوقين، يعلم أنه لن يموت حتى يستكمل رزقه وأجله، وأن الله كافيه من كل سوء، وأنا ما كتب له سيصل إليه، فلا يستطيع أحد أن يقطع رزقك!! أو يضرك في بدنك!! فلا تلتفت إلى أحد، ولا تذل نفسك إلى أحد، ولا تقف على باب أحد، قنوع بما أتاك الله، مطمئن النفس، مرتاح البال، كما قال الشافعي يرحمه الله:
رأيتُ القناعةَ كنزُ الغنى
فصرتُ بأذيالها مُمتسك
فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به مُنهمك
وصرت غنيا بلا درهم
أمرّ على الناس شبه الملك
الإيمان بالقدر يحفظ الدين، ويقوي الإيمان، ويثبت على طاعة الرحمن، ويصرف عن العمل الرياء، فإذا تحققت أن الناس لا ينفعونك بشيء، ولا يدفعون عنك شيء، إستوى عندك مدحهم وذمهم، ولم تبالي في عطائهم ومنعهم. فتحقق الإخلاص الذي هو طريق الفلاح، وسبيل النجاح.
الحمد لله على إحسانه ...
إذا تمكنت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر من القلب، إنشرح الصدر، وانتعشت النفس، وصلحت الحياة قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور الا في مواضع القضاء والقدر. فالهداية أعظم مطلوب وأشرف مرغوب أثر من أثارها وثمرت من بستانها قال تعالى: "وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه" قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم.
الإيمان بالقدر يقي من الحُزن والجزع والتسخط، ويقود إلى الرضا والصبر والتسليم، قال إبراهيم الحربي رحمه الله: من لم يؤمن بالقدر لم يهنئا بعيشه، "إن الإنسان خُلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا" فالمصائب لا تتعاظمها القلوب، ولا تضيق بها الصدور، ألا حين يغيب عنها الإيمان بالقضاء، ويضعف فيها التصديق بالقدر، عندها تجنح إلى ممارسات خاطئه، وسلوكيات مشينة، فيسكنها القلق، ويصيبها الحزن، وتنزل بها الصدمات العصبية، وتتعرض للإكتئاب النفسي، وربما أدى بها إلى الجنون، أو ألجئها إلى تعاطي المخدرات والمسكرات، أو قادها إلى الإنتحار، والتخلص من الحياة، كم نسمع عن حالات الإنتحار وفي بلاد غنية ولأسباب تافهة فهذا انتحر لأن عشيقته تركته!! وهذا شنق نفسه لأن مغنيه المفضل
مات!! وآخر أحرق نفسه، ورابع رامى بها من مكان عالي فرارا من واقعهم المُزري، وحالهم المُردي.
كم يتألم البعض حين لا يجد وظيفة مناسبة، أو زوجة جميلة، أو يُحرم الولد؟؟؟ وكم يصيبه الهم حين لا يجد قوت يومه، أو حين يتسلط عليه عدوه،؟؟ كم يتمنى من الأماني السعيدة؟؟ وكم يحلم بواقع أفضل؟؟ أو عودة إلى الزمن الأجمل؟؟ ولو أمن بالقدر لسُرَّ قلبه، وانشرح صدره، وذهب همه وغمه، ولقد أحسن من قال:
صـغـيرٌ يشتـهـي الكِبـرا*وشـيـخٌ ودَّ لـو صَـغُـرا
وربُّ الـمـال فـي تـعـبٍ*وفـي تعـبٍ مـن افـتقـرا
وخـالٍ يـبـتـغـي عـمـلا *وذو عـمـلٍ بـه ضَـجُـرا
ومن فقد الجمالَ شكى *وقد يشـكوا الذي بَـهُـــرا
وذو الأولاد مــهــمــومٌ*وطـالبـُهُـم قـد انـْفَــطـرا
شُـكـاةٌ ما لهـا حـكـمٌ *سوى الخصمين إن حَضُرا
ويبغي المجدَ في لهفٍ* فإن يـَظْـــفَـر بـه فَــتـُـرا
ويشقى المـرءُ مُنهـزما*ولا يــرتــاحُ مُـنتــصــرا
فـهل حـاروا مع الأقـدار*أم هم عـارضـوا القـدرا
وهـم لـو أمـــنـوا بــالله*رزاقـــــا ومُــــقــتــدرا
لما لاقوا الذي لاقــــوه*لا هَـــــــــمًّا ولا كَـــدرا
كم نسمع بأمور مدهشة؟؟ وكم نرى من حوادث غريبة؟؟ نذهل منها، ونعجب من وقوعها، ونتسأل كيف حدث هذا؟؟ ولما وقع ذاك؟؟ فإذا أمنَّا بالقدر ذهب عنا الذهول، وعلمنا عِظَم قدرة الله تعالى مُصرِّف الأمور، قال عكرمة رحمه الله: سئل بن عباس رضي الله عنهما كيف تفقد سليمان عليه السلام الهدهد من بين الطير؟؟ فقال بن عباس: إن سليمان نزل منزلا فلم يدري ما بُعد الماء، وكان الهدهد مهندسا-أي عنده خاصية وهبها الله له يعرف بها مكان الماء تحت الأرض- فأراد أن يسأله عن الماء ففقده!! قال عكرمة فقلت لابن عباس: كيف يكون مهندسا والصبي ينصب له المصيدة فيصيده؟؟ فقال بن عباس: إذا جاء القدر حال دون البصر. يقع الإنسان في حادث فيصطدم بعمود!! أو يسقط في حفرة في عز الظهيرة!! فيسأله من حوله "ما تشوف"؟؟ وهي قضاء وقدر إذا جاء القدر عمي البصر، قال الحسن البصري رحمه الله: أن الله خلق خلقا فخلقهم بقدر، وقسَّم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر. فمكنوا هذه العقيدة من قلوبهم ورسخوها في صدوركم ، وسلكوا فيها مسلك أهل السنة والجماعة دون إفراط ولا تفريط.
المشاهدات 5285 | التعليقات 2
أسعدني مرورك أخي شبيب بارك الله فيك ووفقك لخيري الدنيا والآخرة
وجزاك خير الجزاء
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق