الإيجابية.. الشيخ مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي

الفريق العلمي
1440/12/03 - 2019/08/04 14:05PM

لم أقرأ حديثاً في الإيجابية كما قرأت حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"؛ فتأمل هذه الدعوة العريضة للإيجابية، وكيف يدعو إليها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عامة المسلمين في مثل هذا الوقت الحرج من حياتهم؟!

 

تأمل هذه اللحظة التي أخذ الإنسان فيها فسيلة النخلة ليغرسها في الأرض فما راعه إلا تغيّر الكون وتحول الأحداث، فإذا بالدنيا كلها تصرّمت من حياته وانتهت لحظاتها كلها وبدأت أيام الآخرة وأحداثها ..

 

إننا إذا تصوّرنا هذه اللحظات بدقة أدركنا حجم الخبر في حياة الإنسان، وهول المفاجأة، وصاعقة اللحظة بزوال الدنيا واستقبال الآخرة، ومع ذلك يؤكّد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على قضية الإيجابية في حياة الإنسان، فكأنه يقول: لا يروعك خبر القيامة، ولا يؤثّر على عملك، وتقدم لغرس الفسيلة!

 

وإن العجب ليأخذ بقلبي وأنا أتأمل أننا حين نغرس الشجرة في الأرض إنما نغرسها لنأكل من ثمرها أو نستطل بظلها أو ننتفع بها في حياتنا في يوم من الأيام، فما ينفع هذا الغرس الآن والدنيا قد آذنت بالرحيل؟ ولو كانت ثمرة هذه الفسيلة التي نغرسها الآن ستخرج في بضع دقائق ونأكل منها لما كان هناك داع أبداً إلى أن نغرسها لأنه انتهى زمن العمل ورحلت دقائق الدنيا، وما يصنع الإنسان بشجرة في عرض حياة زائلة راحلة؟ فكيف إذا قيل لك إن هذه فسيلة نخل وعادة النخل ألا يثمر إلا بعد سنوات طوال؟! إنها الإيجابية في الحياة تأتي بما يوجب التأمل في ثمراها وآثارها.

 

إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يؤكّد في هذا الحديث على ضرورة أن يكون الإنسان إيجابياً في حياته وألا تشغله الأحداث عن زراعة فيما في يده حتى لو كانت أحداث القيامة ولحظاتها، وأن يبادر إلى غرس تلك الفسيلة قبل لحظات الساعة، فليس المهم أن يستظل بظل هذه الشجرة، أو يأكل من ثمرها .. المهم أن يكون إيجابياً في لحظته التي يعيشها ولا تشغله الأحداث عن ذلك في شيء.

 

إن معنى هذا الحديث يتملك قلبي هذه اللحظة، ويستثير دوافع نفسي للعمل، ويدفعني كثيراً للتعلّق بهذا المعنى الكبير في الحياة، ويدعوني ألا أنظر لعاجل الأرض بقدر ما أنظر إلى معناه وروحه وأثره في الحياة.

 

إن مما يعلمنا هذا الحديث أن الإنسان يعمل ويقدم رسالته في الحياة، ويكتب في عرض التاريخ ما يمكن أن يقدمه، وليس له أن يتوقف في لحظة ما لأن الثمرة التي يرجوها لن يسمح الوقت برؤيتها مكتملة مورقة الثمار.

 

إنني أجد هذا الحديث يأسرني ويؤثّر في رسالتي، فيأخذ بيدي يعلمني قائلاً: عليك أن تؤمن أنه لا أثمن من العمل في الحياة كلها، وعليك أن تقدم ما يمكنك، وأن تستفرغ طاقاتك كلها في العمل، وألا تقف عن العمل خوفاً من عدم تحقيق النتائج التي ترجوها، وألا يشغلك الواقع مهما كان عن أداء رسالتك في الأرض، فقيمتك الحقيقية تكمن في عملك ومشاركتك في البناء، وأداء واجبك دون التطلع إلى الثمار أو التلفت للمعوقات أو تصوّر المسافة الفاصلة بينك وبين النتائج.

 

إن الإيجابية معنى عزيز في النفس، كبير في الحياة، عظيم في الواقع، وكل من تخلّق بهذا الخلق حقه أن يكون كبيراً على قدر ما فيه من هذا المعنى.

 

إنني كلما قرأت سورة النمل قام هذا المعنى في نفسي حاضراً، وتملكني شعور بأهمية العمل، وأدركت أن روح الحياة ولحظاتها الجميلة في إيجابيتها فحسب .. يقوم هذا المعنى في نفسي وأنا أقرأ قول الله -تعالى- على لسان نملة من النمل قوله الله: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[النمل: 18].

 

لقد كان النمل كله خارج مقره ومسكنه وما راع هذه النملة إلا وسليمان -عليه السلام- مقبل عليهم بجنوده، وكان يمكنها تلك اللحظة أن تتوارى في مسكنها وتبادر إلى مقرها وتنجو بنفسها فالحياة ثمينة في حس الأحياء، لكنها آثرت التأخر وإبلاغ بقية النمل خبر قدوم سليمان -عليه السلام- فوعظت وذكرت وطلبت وكان يكلّفها التأخر ربما حياتها، لكنها آثرت العمل في حياتها، وقامت الإيجابية في نفسها، وتنزهت عن معنى البخل والأنانية حين تولي بنفسها إلى مسكنها.

 

لقد كان يمكنها أن تدع كل ما قامت به وتصل إلى مسكنها آمنة مطمئنة، وتضمن بذلك الحياة في أقرب صورها وأسهل طرقها، ولو كانت كذلك لما أخذت هذه المساحة من القرآن اليوم وهو يتحدث عن إيجابيتها وروعة العمل في حياتها وحدبها على الإصلاح، ويا لله ما ألطف عبارتها وهي تعتذر عن سليمان في ذوق وأدب (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)؛ إن كان شرف الحيوان والطير والدواب بهذا المعنى في الحياة فكيف يكون شرف الإنسان به وعزه بمعناه؟!

 

لقد بلغت سورة العصر (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1 - 3] مكانة كبيرة في قلوب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان أحدهم إذا لقي صاحبه قرأ عليه هذه السورة، وقال الشافعي كلمته المشهورة متمماً لأثرها: "لو لم ينزل الله -تعالى- على الناس إلا هذه السورة لكفتهم". لهذا المعنى فيها، (معنى الإيجابية) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)؛ لأن هذه المعاني هي قيم الإنسان الكبرى في الحياة، وروحه التي يسري بها في معالم الأرض، وبدون هذه المعاني لا قيمة ولا معنى له في الحياة.

 

وذات المعنى ـ الإيجابية ـ هو الذي يحمي أهله من عذاب الله تعالى وهلاكه وغضبه إذا حل بأمة من الأمم؛ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117]؛ بل في اللحظة التي يتجرد فيها الإنسان من هذا المعنى في حياته يصبح عرضة للهلاك، وقد قالت زينب زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم: "إذا كثر الخبث"؛ إذا كثر الخبث ولا يسعه في مجتمعه وأمته إلا الفرجة فحقه أن يهلك ويذهب في لجج الظالمين. هكذا تقوم المعاني حية مؤثرة في حياة أصحابها، ألا فلا نامت أعين المنكفئين على نفوسهم المتفرجين على واقعهم، القاعدين على الأرض، والمترفهين على الأرائك!

 

وهي ذات المعنى الذي عاشه قلب نبيك -صلى الله عليه وسلم- وأمضه وهو يجد آثاره في نفسه كما حكى الله -تعالى- عنه ذلك بقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6]؛ كاد يهلك نفسه حسره وألماً لفرط إيجابيته وحبه في هداية قومه، وروحه تنزعه إلى هذا المعنى الكبير في الحياة.

 

لقد حاول -صلى الله عليه وسلم- أن يبثها في حياة الناس، ويجهد في بنائها في نفوسهم في مثل قوله: -صلى الله عليه وسلم- "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه".

 

إن آثار الإيجابية في حياة الإنسان أكبر مما يصفها قلمي في أسطر كهذه التي يكتبها الآن، يكفيها من ذلك قول نبيها -صلى الله عليه وسلم- وهو يؤججها في حياتنا بقوله: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء"؛ فتأمل عظمتها وآثارها تجري عليك دون توقف وليس لها زمن يوقفها إلا اللحظات التي تنتهي فيها الدنيا كلها وتستقبل الآخرة بما فيها!.

 

يا أيها القرّاء ..! أدعوكم إلى تقليب هذا المعنى في نفوسكم .. إلى إثارته من جديد .. إلى توسيع مساحته .. بيوتكم وأسركم أحوج شيء إلى هذا المعنى. مجتمعاتكم تنتظر ذلك منكم .. أمتكم أمضها الانتظار وهي تستشرف هذا المعنى الكبير في حياتكم .. !

 

أما آن أن تقفوا على أقدامكم، وتبدؤوا رحلة العمل الكبير في حياتكم. بهذا المعنى تكونون كباراً في التاريخ، وبهذا المعنى تكونون عظماء في رحلة الحياة، وبهذا المعنى تنتسبون لهذه الأمة بصدق !

 

لله ما أروع رجالاً ونساءً نراهم وهم يدفعون بأسرهم، ومجتمعاتهم، وأمتهم إلى المكانة التي تنتظرهم ! أما إنهم بهجة الحياة وروحها ونسيمها البارد على القلب .. أما إني ما كتبت هنا إلا حين رأيتهم يجهدون في البناء ويعيشون من أجل الإصلاح.

 

أما إني أحوج منكم إلى مثل هذه الأحرف .. ولولا شوقي إليها لما دفعت بها إليكم هذه اللحظات .. وغداً في ساحات القيامة، وبين يدي الله -تعالى- سترون النتائج بهذا المعنى أبهج ما تكون ..!

المشاهدات 543 | التعليقات 0