الإنتباهْ - منْ سوءِ الظّنِ باللهْ

خالد علي أبا الخيل
1439/08/01 - 2018/04/17 11:44AM

الإنتباهْ - منْ سوءِ الظّنِ باللهْ

التاريخ: الجمعة: 27 رجب 1439هـ

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، أكرم الأكرمين وأجود الأجودين جعل دائرة السوء على من أساء الظن برب العالمين، وأن هذا من صفات المنافقين والمشركين، وأشهد أن لا إله إلا الله أرحم الراحمين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نهى عن إساءة الظن بمن خلق الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 أما بعد...

فاتقوا الله حق التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

أيها المسلمون: مضى معنا في جمعتنا الماضية حُسن الظن برب العالمين، وواجب المسلم تجاه هذا الخلق النبيل والتعبد الجليل، ولما كان الشيء يظهر بضده، ويتبين بمعاكسه.

وبضدها تتبين الأشياء         عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر                 من الشر يقع فيه

وقد قال حذيفة ﭬ: كانوا يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.

وكما قال ابن القيم $: لا يُتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.

ناسب أن نذكر في خطبتنا هذه أصناف وأنواع الظانين بالله ظن السوء من ساء ظنه بربه وسوء الظن بالله يقع في توحيده وحُكمه وتشريعه، وحِكمه وخَلقه وتدبيره، وقد يقع الإنسان في مثل ذلك وهو لا يشعر لا سيما في هذه الأزمان التي كثر فيها المحن، وتوالت الفتن، وانتشرت المصائب، وتتابعت المعائب، فتسمع النبرات وخلجات الكلمات فيعترض على قضاء الله وقدره، وأمره ونهيه وشرعه، خصوصًا من تراكمت عليه الديون وتوالت عليه الأمراض، وقَل نصيبه، وضعف حظه، وساءت حاله، وتواصلت همومه وغمومه.

وقد كفانا الخطبة والمؤونة ابن القيم الجوزية أجزل الله له الأجر والمثوبة حيث ذكر في كتابه الفذ الجليل والسَّفر النبيل الذي لا يستغني عنه مسلمٌ فضلًا عن طالب علم، بل عالم وهو (زاد المعاد في هدي خير العباد) فاجعله من أساسياتك ومطالعاتك ومقتنياتك، فيكفي من اسمه دلالةً عليه، وإليك كلامه بنصه ولفظه وليس لي منه إلا تلخيصه ونقله.

فلما مر على قوله: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154) قال $ في المجلد الثالث: وقد فُسِّر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يُسلمه للقتل، وفُسِّر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففُسِّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويُظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به كما في سورة الفتح (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (الفتح:6).

وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المُبرأة من كل عيبٍ وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يُخلفه، وبكلمته التي سبقت لرُسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن به بأنه لا ينصر رسوله، ولا يُتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويُعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجماله وصفاته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته ومُلكه وعظمته.

وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوَّز عليه أن يُعذِّب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوى بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه يترك خلقه سُدى، مُعطَّلين عن الأمر والنهى، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا يُنزل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلًا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء.

 ومن ظن أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يُجازى المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويُبيِّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويُظهر للعالمين كلِّهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه يُضيِّع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويُبطله عليه بلا سببٍ من العبد، أو أنه يُعاقبه بما لا صُنع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يُعاقبه على فعله، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيهٌ وتمثيل، وترك الحق لم يُخبر به، وإنما رمز إليه رموزًا بعيدةً، وأشار إليه إشاراتٍ مُلغِزةً لم يُصرِّح به، وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أن يكون في مُلكه ما لا يشاء ولا يَقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه كان مُعطلًا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يُوصف حينئذٍ بالقُدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السماوات ولا النجوم، ولا بنى آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا سمع له، ولا بصر، ولا عِلم ولا إرادة، ولا كلام يقول به، وأنه لم يُكلِّم أحدًا من الخلق، ولا يتكلَّمُ أبدًا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمرٌ ولا نهيٌ يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه‏.‏

ومن ظن به أنه يُحب الكفر والفسوق والعِصيان، ويحب الفساد كما يُحب الإيمان والبِر والطاعة، والإصلاح، فقد ظن به ظن السوء.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين.

ثم قال $: ومن ظن به أنه لا يُحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يُوالي ولا يُعادي، ولا يقرب من أحدٍ من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القُرب من ذاته كذوات الملائكة المقرَّبين وأوليائه المفلحين، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه يُسوي بين المتضادين، أو يفرِّق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحبِط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرةٍ واحدةٍ تكون بعدها، فيُخلِّد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، فقد ظن به ظن السوء.

وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفته به رُسله، أو عطَّل حقائق ما وصفت به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء مِن دونه يتقرَّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه‏.‏

ومن ظن به أنه يُنال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يُنال بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن به خلاف حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.

ومَن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يُعوضه خيرًا منه، ومن فعل لأجله شيئًا لم يُعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه يغضب على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرمٍ، ولا سببٍ من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السَّوء، وظن به خلاف ما هو أهله‏.

ومن ظن به أنه يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.

ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًّا، ودعا من دونه مَلكًا أو بشرًا حيًّا، أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويُخلِّصه من عذابه، فقد ظن به ظن السَّوء، بل ذلك زيادةٌ في بُعدِه من الله وفى عذابه.

ومن ظن أنه يُسلِّط على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا دائمًا في حياته وفى مماته، فقد ظن به ظن السَّوء.

فأكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء، فإن غالب بنى آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول‏:‏ ظلمني ربِّي، ومنعني ما أستحقُه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتَّش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِنًا كُمون النار في الزِّناد، فاقدح زناد من شئت يُنبئك شراره عما في زناده، ولو فتَّشت من فتشته، لرأيت عنده تعتُّبًا على القدر وملامةً له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفتِّش نفسك هل أنت سالمٌ من ذلك‏؟‏

فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ              وَإلاَّ فَإنِّي لاَ إخَالُكَ نَاجِيًّا

فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتُب إلى الله تعالى ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السَّوء، وليظن السَّوء بنفسه التي هي مأوى كل سوءٍ، ومنبع كل شرٍّ، المُركَّبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمةُ التامة، المنزَّه عن كل سوءٍ في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاتُه لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعاله كلها حِكمةً ومصلحة، ورحمةٌ وعدل، وأسماؤه كلها حُسنى‏.

فَـلا تَظْـنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سُوءٍ               فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَــمِيلِ

وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِـكَ قَطُّ خَيْرًا            وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ

وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ          أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ

وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوء تَجِدْهَا            كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ

وَمَـا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ            فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ

وَلَيْسَ بِهَـا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ                مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ 

انتهى كلامه بنصه ولفظه.

هذا وصَلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

إذا شئت أن تبني من السعد منزلًا                     وتبسط في ظل السرور أرائكه

فَصلِّ وسلم كل يومٍ على الذي                           يصلي عليه ربه والملائكة

 

 

المشاهدات 1037 | التعليقات 0