الإِقْبَالُ عَلَى الْقُرْآَنِ فِي رَمَضَان.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ، وجَعَلَهُ هُدَىً وذكرى لأولي الألبابِ، وأَوْدَعَهُ الحكمةَ وفَصْلَ الْخِطَابِ، أحمدُهُ سُبْحَانَهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأنعام:155].
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ الصِّيَامَ عن المفطراتِ، والإقلاعَ عنِ المنكراتِ سَبِيلًا لِتَحْقِيقِ التَّقْوَى، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: [183] ومِنْ أَهَمِّ مَا يُعِينُ على تَحْقِيقِ التَّقْوَى أَيْضًا الإِقْبَال على الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ؛ ولِذَا رَبَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَينَ الصِّيَامِ والقُرْآَنِ بِقَوْلِهِ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة: [185] فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ القرآنَ جملةً واحدةً في اللوحِ المحفوظِ في ليلةٍ مباركةٍ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) الدخان: [3] وعيَّنَ اللهُ عزّ وجلّ هذه الليلةَ بِأَنَّهَا ليلةُ القَدْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: [1].
عِبَادَ اللهِ: وقد جمعَ رسولُ اللهِ ﷺ بين الصيامِ والقرآنِ بقولِهِ: (الصِّيَامُ والقرآنُ يَشفعانِ في العبدِ يومَ القيامةِ يقولُ الصيامُ: أيْ ربِّ منعْتُهُ الطعامَ والشهوةَ فشفعْني فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآَنُ: منعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فيشفعان) أخرجه أحمد (6626).
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: ولأنَّ الْهَدَفَ مِنَ الصِّيَامِ تهذيبُ النَّفْسِ وتزكِيةُ الْقَلْبِ، فإنَّ القرآنَ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ في تَحْقِيقِ هَذَا الْهَدَفِ، فَأَثَرُهُ عَلَى الْقَلْبِ عَجِيبٌ، وَوَقْعُهُ عَلَى النَّفْسِ شَدِيدٌ، وإنَّمَا حُرِمَ كثيرٌ مِنَ المسْلِمِينَ الْيَومَ هَذَا الأثَرَ بِسَبَبِ مَا رَانَ عَلَى الْقُلُوبِ مِنَ المَعَاصِي والذُّنُوب، وبِسَبَبِ تِلْكَ العُجْمَة الَّتِي أَصَابَتْ أَلْسِنَةَ وَعُقُولَ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ فَأَصْبَحُوا لا يَفْهَمُونَهُ إذَا قَرَأوهُ، فَأَنَّى لَهُمْ أنْ يَتَدَبَّرُوهُ! قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) طه: [113].
أيُّهَا المؤمنُونَ: وَمِنَ الْعَجِيبِ أنَّكَ تَرَى المرْءَ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ كَيْ يَتَدَبَّرَ الْقُرْآَنَ وَيَتَأَثَّرَ بِهِ بَيْنَمَا كَانَ المُشْرِكُونَ زَمَن النَّبِيِّ ﷺ يَتَحَرَّزُونَ، كَيْ لا يَتَأَثَّرُوا بِالْقُرْآَنِ، فَكَانُوا يَمْنَعُونَ المسْلِمِينَ مِنَ الْجَهْرِ بالقُرْآنِ، وإذَا سَمِعُوهُ أَلْغَوْا فِيهِ بِالْمُكَاءِ والتَّصْفِيرِ، قَالَ تعالَى(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت: [26].
عِبَادَ اللهِ: وقدْ سَاقَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا المعنى في تشبيهٍ قرآنِيٍّ، يَصِفُ فيهِ أثرَ القرآنِ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلاءِ بقولِهِ:(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) البقرة: [19] قَالَ جُمْهُورُ المفَسِّرِينَ: مثَّلَ اللهُ تَعَالى القُرْآنَ بِالصَّيِّبِ (المطر) والظُّلُمَاتُ: أي المُتَشَابِهَاتُ، والرَّعْدُ: آياتُ الوعيدِ والزَّجْرِ، والْبَرْقُ: مَا في الْقُرْآنِ مِنَ النُّورِ والحِجَجِ الْبَاهِرَةِ، يَكَادُ هذا النُّورُ مِنْ شِدَّتِهِ أَنْ يَخْتَرِقَ قُلُوبَ هؤلاءِ المنَافِقِينَ ويَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ويَذْهَبُ بِلُبَابِ عُقُولِهِمْ، لَوْلا فَسَاد نِيَّتِهِم، وسُوء طويَّتِهِم بِأَنْ حَالُوا بينَ النُّورِ وبينَ قُلُوبِهِمْ فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ، فَأَعْمَى اللهُ قُلُوبَهُمْ وَأَصَمَّ آَذَانَهُمْ.
أيَُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وإذَا كَانَ هَذَا هو أَثَرُ القُرْآَنِ على قُلُوبٍ لَمْ تَسْطُعْ فِيهَا شمسُ الإيمانِ فكيفَ يكونُ أَثَرُهُ على قلوبِ الصَّائِمِينَ الموَحِّدِينَ؟! وهلْ يليقُ بالمسلمِ أنْ يَقْرَأَهُ قِرَاءَةً عَجْمَاء، وتِلاوَةً صَمَّاءَ، لا يتحَرَّكُ لهَا قَلْبُهُ، ولا تَذْرِفْ لهَا عَيْنُهُ، وهَلْ يَلِيقُ بالمسْلِمِ أنْ يَقْرَأَ آيَاتِ الجنَّةِ ونعيمِهَا فلا تَرْنُوا إلَيْهَا رُوحُهُ، أو يَسْمَعَ آياتِ النِّارِ ووعيدِ اللهِ للكافرينَ، فلا يَئِنُّ منهَا قَلْبُهُ؟!
عِبَادَ اللهِ: أنَّ إِقْبَالَ المُسْلِمِ على الْقُرْآَنِ في رَمَضَان ينبغي أنْ يكونَ إِقْبَالًا خَاصًّا، لا يهدِفُ إلى عَدِّ السُّوَرِ والأَجْزَاءِ والْخَتمَاتِ، وإنَّمَا الْهَدَفُ منهُ القراءةُ بتدبُّرٍ وحُضُورِ قلبٍ، وصفاءِ ذِهْنٍ، وإقبالِ نَفْسٍ، فإذا خَلَّيْتَ بينَ القرآنِ وبينَ قَلْبك، خلا قَلْبُكَ منْ كُلِّ الأَسْقَامِ والأَمْرَاضِ، وأصَابَتْهُ بَرَكَةُ القُرْآَنِ، فانْتَفَعْتَ بِمَا تَقْرَأُ، قالَ تعالَى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الحشر: [21].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ومِمَّا يَقَعُ فيهِ كَثِيرٌ منَ المسلمينَ في هذا الشَّهْرِ، خَتْمُ القرآنِ في سرعةٍ عجيبةٍ، وقراءَتُهُ في عجلَةٍ شديدةٍ، قَالَ رَجُلٌ لابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ: إنِّي لأَقْرَأُ المُفَصَّلَ في رَكْعَةٍ، فَقالَ عبدُ اللهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ في القَلْبِ فَرَسَخَ فيه نَفَعَ) أخرجه مسلم (822) وقالَ أيضًا: (اقْرَأُوا الْقُرْآنَ وحَرِّكُوا به القلوب، وقِفُوا عندَ عجائِبِهِ، ولا يكُنْ هَمُّ أحَدِكُم آَخِرَ السُّورَةِ).
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر: [23].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ في الْقُرْآَنِ والسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآَيَاتِ والْحِكْمَةِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُم، فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ، وتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثانية:
الحمدُ للهِ رب العالمين، وَأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على بِلادِنَا أنْ سَخَّرَهَا لِخَدْمَةِ الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ دَاخليًا وخَارِجيًا، بِدَعْمٍ سَخِيٍّ وحَشْدٍ مُجْتَمَعِيٍّ لِلْعِنَايَةِ بِالْقُرْآِنِ وَأَهْلِهِ وَتَعْلِيمِهِ للنَّاشِئَةِ وَتَرْبِيَتِهم عَلَيْهِ لِيَتَحَلَّقُوا عَلَى مَأْدُبَتِهِ، وَيَتَخَلَّقُوا بِأَدَبِهِ وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ المسْؤُولِيَّةَ الآن عَلَى عَاتِقِ وَلِيِّ الأَمْرِ، أَنْ يُلْحِقَ أَبْنَائَهُ وَبَنَاتِهُ بِحَلَقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ، والدُّورِ النِّسَائِيَّةِ، الَّتِي تَعْمُرُ أَرْجَاءَ مُحَافَظَتِنَا -وَللهِ الْحَمْدُ- عَبْرَ بَرَامِجَ مُتْقَنَة وخِطَطٍ مُحْكَمَةٍ، وَتَطَوّرٍ تِقَنِيٍّ، وَحَلَقَاتٍ حُضُورِيَّةٍ، وافْترَاضِيَّةٍ، يَسَّرَتْ تِلاوَةَ الْقُرْآَنِ وَحِفْظِهِ ومُرَاجَعَتَه مَعَ حُفّاظٍ متُقْنِيِنَ، وأَسَاتِذَةٍ مُتَخَصِّصِينَ، وتِلْكَ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ يَنْبَغِي اسْتِغْلالها وَالْحِرْص عَلَيْهَا. وَإِنِّي في مَقَامِي هَذَا أَتَوَجَّهُ بِجَزِيلِ الشُّكْرِ والْعِرْفَانِ لِجَمْعِيَّةِ تَحْفِيظِ الْقُرْآَنِ في مُحَافَظَتِنَا، والَّتِي تَبَوَّأَتْ مَكَانَةً سَامِيَةً بَينَ نَظِيرَاتِهَا؛ لما تَقُومُ بِهِ مِنْ جهدٍ مُضَاعَفٍ، وَعَمَلِ لا يُقَارَن في خِدْمَةِ الْقُرْآَنِ وَأَهْلِهِ. فَجَزَاهُم اللهُ خَيرًا. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَنْفَعَنَا بِالْقُرْآَنِ، وأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ الْعَامِلِينَ بِهِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمسْلِمِينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الْجَنَّاتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. الجمعة: 14 /9/ 1446هـ