الإِصْلاحُ بين النَّاس: فَضَائِلُه وآدابُه
د. محمود بن أحمد الدوسري
الإِصْلاحُ بين النَّاس: فَضَائِلُه وآدابُه
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعدُ: الخلاف بين الناس أمر طبيعي؛ لاختلاف أخلاقِهِم, وتَبايُنِ أفكارِهِم, وقُوَّةِ مَدارِكِهِم مِنْ ضَعْفِها, فيقع النِّزاعُ بين الأبَ وأولادِه, وبين المَرْءِ وَزَوْجِه, وبين الأخِ وإِخْوَتِه, وبين الجِيران, وبين الشُّرَكاءِ في التجارة, وبين الموظفين في العمل, وبين الكفلاء ومكفوليهم, سواء كان ذلك في الأموالِ, أو الأقوالِ, أو الأفعالِ, أو الدِّماءِ, وسائِرِ التَّصَرُّفات. وَرُبَّما تَطَوَّرَ النِّزَاع إلى خِلافٍ حادٍّ لا تُحْمَدُ عُقْباه؛ بسبب سعي الوُشَاةِ والنَّمَّامين.
والإسلامُ يَسْعَى إلى تَضْييقِ نِطاقِ الخِلاف, ورَفْعِه إنْ أَمْكَنَ: فشَرَعَ الإصلاحَ بين الناس, وحثَّ عليه, ورغَّب فيه, فهو خَيْرُ ما يتناجى فيه المُتناجون: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. قال الطبري رحمه الله: (هُوَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَيْنِ أَوِ الْمُخْتَصِمَيْنِ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِيَتَرَاجَعَا إِلَى مَا فِيهِ الْأُلْفَةُ وَاجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ, عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ).
ولأهمية الإصلاح بين الناس: أُبِيحَ فيه الكَذِبُ؛ لإزالَةِ الوَحْشَةِ بين المُتخاصِمِين, وعَوْدَةِ المَوَدَّةِ والأُلْفَةِ بينهم؛ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ, فَيَنْمِي خَيْرًا, أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» رواه البخاري ومسلم. وقال أيضًا: «لاَ يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ, وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ, وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» صحيح – رواه الترمذي.
قال الخطابي رحمه الله: (هذه أُمورٌ قد يَضْطَرُّ الإنسانُ فيها إلى زِيادَةِ القَول, ومُجاوَزَةِ الصِّدْقِ؛ طَلَباً للسَّلامَةِ, ودَفْعًا لِلضَّرَرِ، وقد رُخِّصَ في بَعْضِ الأحوال في اليَسِير مِنَ الفساد؛ لِمَا يُؤَمَّلُ فيه مِنَ الإصلاح).
وضَرَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المَثَلَ الأَعْلَى في الصُّلْحِ بين المسلمين: فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ, فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» رواه البخاري.
وكثيرًا ما يكون بين الناس مُنازَعاتٌ وخُصومَاتٌ؛ نتيجةً لاختلاف الأهواء, والرَّغَبات, والاتِّجاهات, فينتج عن ذلك عَدَاوَاتٌ, ونِزاعٌ وخِصَامٌ, وَتَغاَضُبُ يُوجِبُ مِنَ الشَّرِّ والفُرقَةِ ما لا يُمْكِنُ حَصْرُه؛ فلذا حَثَّ الشَّارِعُ الحكيمُ على الإصلاح بين الناس في الدِّماءِ والأموالِ والأعْراض؛ بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]؛ وقال أيضًا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]: (هَذَا تَحْرِيجٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ, وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ).
فمِنْ فضائل الإصلاح: أنَّ اللهَ تعالى رَتَّبَ على القيامِ به, والتزامِ التقوى فيه؛ الدُّخولَ في رحمته: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وإذا حَصَلَت الرَّحمةُ؛ حَصَلَ خَيْرَي الدنيا والآخرة، فإنَّ عدمَ القيامِ بحقوق المؤمنين، مِنْ أعْظَمِ حَواجِبِ الرَّحمة.
ومِنْ فضائل الإصلاح: أنه نَجاةٌ لِلْمُصْلِحِين من الهَلاك, قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. فإنَّ الهَلاكَ لا ينزل بِقَومٍ فيهم مُصْلِحون. والمُصْلِحون غَيْرُ الصالحين, فشَتَّانَ بين الصَّالِحِ في نفسِه - الذي لا يتعدَّى نفعُه إلى غيره؛ وبين المُصْلِحِ - الذي هو صَالِحٌ في نفسِه, ساعٍ للإصلاح بين الناس, قال اللهُ تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
ومن فضائل الإصلاح: البراءَةُ من النِّفَاق؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ - مِنْ أوصافِ المنافين, وأهلِ الزَّيغِ والفَسادِ: أنهم مُفْسِدون في الأرض, مع ادِّعائِهِم الإصلاحَ, وهُمْ على النَّقِيضِ من ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]. فالسَّاعِي في الإفساد لا يُصْلِحُ اللهُ عَمَلَه, ولا يَتِمُّ له مُرادُه؛ مِصْدَاقًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
فمِنَ الناس مَنْ يكون مِفتاحًا للخير, مِغْلاقًا للشر, ومنهم مَنْ يكون مِفتاحًا للشر, مِغْلاقًا للخير, وشَتَّانَ بين الفريقين, وسَيُجَازِي اللهُ كُلاًّ بِعَمَلِه وسَعْيِه, ويُوَفِّيه حَسابَه, وهو سبحانه يَعْلَمُ المفسدين من المُصْلِحين: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
والذي يَتَمَسَّكُ بالكتاب والسُّنة, ويُؤدِّي ما أَوْجَبَ اللهُ عليه, ويقوم به – قولاً وعملاً, واعتقادًا – يُسَمَّى "مُصْلِحًا", ولن يَضِيعَ أجرُه عند الله, وسيجزيه أَحْسَنَ الجزاء, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
ومن فضائل الإصلاح: أنه من أفْضَلِ الأعمال؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ, فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» صحيح – رواه الترمذي. وفي رواية: «لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ, وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» صحيح – رواه الترمذي.
ومن فضائل الإصلاح: أنه مِنَ الصَّدَقات؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ, كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ» رواه البخاري ومسلم. ومعنى: يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ: أي: يُصْلِحُ بينهم.
فواجِبٌ عَلَينا: أنْ نَسْعَى إلى الإصلاح بِكُلِّ الوسائل والإمكانات, قال اللهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]. فهذا عَقْدٌ، عَقَدَهُ اللهُ بين المؤمنين؛ والأُخُوَّةُ الإِيمانِيَّة تُوجِبُ التَّآلُفَ والتَّعاونَ والتَّعاضُدَ والتَّوادَّ والتَّواصُلَ فيما بينهم؛ وتَأمَّلْ قولَه صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ؛ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا, وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» متفق عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. وللإصلاح آدابٌ مُهِمَّةٌ:
فمِنْ أهَمِّ آدابِ الإصلاح: أنْ يكون خالِصًا لِوَجْهِ الله؛ فكَمالُ الأَجْرِ وتَمامُه بحسب النَّيَّةِ والإخلاص، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. فينبغي للعبد أنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللهِ تعالى في الإصلاح بين الناس, ويُخْلِصَ العملَ له؛ لِيُحَصِّلَ الأجْرَ العظيم، سواءٌ تَمَّ مَقْصودُه, أم لا؛ لأنَّ النِّيَّةَ حَصَلَتْ, واقْتَرَنَ بها ما يُمْكِنُ من العمل.
ومن آدابِ الإصلاح: أنْ يكونَ بالعدل؛ قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. فهذا أمْرٌ بالصُّلْحِ، وبالعدلِ في الصُّلْحِ، فإنَّ الصُّلْحَ قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظُّلْمِ والحَيْفِ على أحَدِ الخَصْمَين، فهذا ليس هو الصُّلْح المأمور به، فيجب ألاَّ يُراعَى أحدُهما لِقَرابَةٍ، أو لِمَصْلَحَةٍ تُوجِبُ العُدولَ عن العَدْلِ؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ العادِلِين في حُكْمِهم بين الناس.
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (الصُّلْحُ الْجَائِزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ فِيهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ, ثم رِضَا الْخَصْمَيْنِ؛ فَهَذَا أَعْدَلُ الصُّلْحِ وَأَحَقُّهُ، وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ؛ فَيَكُونُ الْمُصْلِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْلِ، فَدَرَجَةُ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ).
وفي أَرْضِ المَحْشَرِ يكون المُصْلِحون العادِلُون على مَنابِرَ من نور: تَشْرِيفًا لهم وتَعْظِيمًا؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ, عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ, الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ, وَأَهْلِيهِمْ, وَمَا وَلُوا» رواه مسلم.
ومن فوائد الإصلاح: أنه يَغْرِسُ في نفوس الناس فَضِيلَةَ العَفْوِ والمَغْفِرَة, فتَحُلُّ المَوَدَّةُ مَحَلَّ القَطِيعة, والمَحَبَّةُ مَحَلَّ الكراهية, وفيه اكْتِسابُ الحَسَناتِ ورَفْعُ الدَّرَجات, وبه تَسْتَقِيمُ حَياةُ الناس, ويُتَفَرَّع لِلعَمَلِ المُثْمِرِ, ويُثْمِرُ المَغْفِرَةَ للمُتخاصِمِين عند المُصالَحَة, وفيه سعادَةُ القلوب, وراحَةُ النفوس من الشَّحْناءِ والغِلِّ, والحِقْدِ والحَسَد.
وعَدَمُ الإصلاحِ يُؤَدِّي: إلى اسْتِشْراءِ الفساد, وقَسْوَةِ القلوب, وزِيادةِ الإِثم, والقَطِيعةِ بين الأَحِبَّة, وضَيَاعِ القِيَمِ الرَّفِيعَةِ, والأخلاقِ الحَمِيدة.
المرفقات
1653442349_الإصلاح بين الناس فضائله وآدابه.docx