الِإصْلَاحُ

مبارك العشوان 1
1442/02/29 - 2020/10/16 02:22AM

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ( اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

عِبَادَ اللهِ: الإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ عَمَلٌ جَلِيلٌ؛ جَاءَتْ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ بِفَضْلِهِ، وَالحَثِّ عَلَيهِ؛ وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهِ، وَوَعَدَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيهِ بِعَظِيمِ الأُجُورِ؛ يَقُولُ تَعَالَى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } النساء114   

شَأْنُ الإِصْلَاحِ فِي الإِسْلَامِ عَظِيْمٌ، وَمَنْزِلَتُهُ بَيْنَ العِبَادَاتِ رَفِيعَةٌ؛ رُخِّصَ فِي الكَذِبِ عَلَى قُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ؛ إِذَا كَانَ الإِصْلَاحُ هُوَ الدَّافِعُ لَهُ؛ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا ) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ) رَوَاهُ مُسْلمٌ.

وَمِنْ عِنَايَةِ الإِسْلَامِ بِهَذَا العَمَلِ الجَلِيلِ أَنْ أَبَاحَ المَسْأَلَةَ لِمَنْ تَحَمَّلَ لِأَجْلِهِ؛ وَجَعَلَهُ مَصْرِفًا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ؛ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ( يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ، تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ... ) إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ.  وَالحَمَالَةُ هِيَ: المَالُ الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الإِنْسَانُ وَيَدْفَعُهُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ.

بِالإِصْلَاحِ - عِبَادَ اللهِ - تَتَحَقَّقُ الأُخُوَّةُ، وَتَجْتَمِعُ الأُمَّةُ، وَتَتَآلَفُ الأُسَرُ، وَتُعْمَرُ البُيُوتُ وَتُقْمَعُ الفِتَنُ، وَتُحْقَنُ الدِّمَاءُ، وَتُحْفَظُ الأَمْوَالُ.

أَلَا فَاسْعَوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - بِالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، اِسْعَوا بِالإِصْلَاحِ بَيْنَ المُتَخَاصِمَينِ مِنَ الأَفْرَادِ أوِ الزَّوجَينِ أوِ الأُسَرِ أوِ القَبَائِلِ؛ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِمَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية: 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ

أَمَّا بَعْدُ: وَقَدْ تَذَاكَرْنَا بَعْضَ فَضَائِلِ الإصْلَاحِ؛ فَإنَّ لَهُ آدَبًا يَنبَغِي لِكُلِّ مُصْلِحٍ أنْ يَعْلَمَهَا وَيَعْمَلَ بِهَا.

أوَّلُهَا: الإِخْلَاصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَقْصُدْ بِإِصْلَاحِهِ مَالًا وَلَا رِيَاءً وَلَا جَاهًا وَلَا مَكَانَةً عِنْدَ النَّاسِ؛ قَالَ تَعَــــــالَى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } النساء114

وَهَكَذَا يَكُونُ قَصْدُهُ الإِصْلَاحُ؛ قَالَ تَعَالَى: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بينهما }النساء35 فَنِيَّةُ الْإِصْلَاحِ سَبَبٌ لِلتَّوْفِيقِ.

وَمِنْ ذَلكَ: أَنْ يَكُونَ المُصْلِحُ صَاحِبَ عِلْمٍ؛ خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الخُصُومَةِ الَّتِي سَيُصْلِحُ بَيْنَ أهْلِهَا.

وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أنْ يَكُونَ السَّاعِي بِالصُلْحِ عَالِمًا، لَكِنْ لَا بُدَّ أنْ يَكُونَ صُلْحُهُ شَرْعِيًا لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُحَرَّمٍ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

فَإِذا أشْكَلَ عَلَى المُصْلِحِ  شَيءٌ مِنْ شُرُوطِ المُتَصَالِحِينَ فَلْيَسْألْ أَهْلَ العِلْمِ.

وَمِنْ ذَلكَ: أَنْ يَكُونَ المُصْلِحُ عَادِلًا بَيْنَ المُتَخَاصِمِيْنَ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الحجرات 9 يَقُولُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا أَمْرٌ بِالصُّلْحِ، وَبِالعَدْلِ فِي الصُّلْحِ، فَإِنَّ الصُّلْحَ، قَدْ يُوجَدُ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِالعَدْلِ، بَلْ بِالظُّلمِ وَالحَيْفِ عَلَى أحَدِ الخَصْمَينِ، فَهَذَا لَيْسَ هُوَ الصُّلحُ المَأمُورُ بهِ، فَيَجِبُ أنْ لَا يُرَاعَى أحَدُهُمَا، لِقَرابَةٍ، أوْ وَطَنٍ، أوْ غَيرِ ذَلِكَ مِنَ المَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، الَّتِي تُوجِبُ العُدُولَ عَنِ العَدْلِ... الخ

وَمِنَ الآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا المُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ: الحِكْمَةُ، وَالحِلْمُ، وَالْأنَاةُ، وَالرِّفْقُ، وَعَدَمُ العَجَلَةِ، وَأَنْ يَسْتَمِعَ لِكُلٍّ مِنَ المُتَخَاصِمَينِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ آدَابِ المُصْلِحِ أَنْ يَكُونَ صَبُورًا؛ يَصْبِرُ عَلَى مَا يَنَالُهُ فِي سَبِيْلِ الْإِصْلَاحِ؛ فَقَدْ تُرَدُّ شَفَاعَتُهُ وَقَدْ يُسَاءُ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَتَّهِمُهُ أحَدُ الخَصْمَينِ بِمَيْلِهِ مَعَ الآخَرِ؛ فَعَلَيهِ أنْ يَصْبِرَ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَصَّى بِهَا لُقْمَانُ ابْنَهُ؛ يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ.

وَمِنْ آدَابِ المًصْلِحِ: حِفْظُ الْأَسْرَارِ؛ فَبَعْضُ الْأَسْرَارِ لَا يُبْدِيْهِ الخُصُومُ إِلَّا لِلسَّاعِي بِالإِصْلَاحِ؛ فَمِنَ الخَطَأِ نْشُرَهُ.

عِبَادَ اللهِ: وَيَنْبَغِي لِلمُصْلِحِ أَنْ يَرْبِطَ الخُصُومَ بِالآخِرَةِ، وَيُذَكِّرَهُم بِأنَّ مَا عِندَ اللهِ تَعَالَى خيرٌ وَأَبْقَى، يُذَكِّرَهُمْ بَالآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الصُّلْحِ وَالعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَهَكَذا يُذَكِّرَهُمْ بِالنُّصُوصِ الَّتِي تُحَذِّرُ مِنَ التَّشَاحُنِ وَالقَطِيعَةِ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ المُسْلِمِينَ، وَيَجْمَعَ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ.

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.

عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

 

المرفقات

الإصلاح-4

الإصلاح-4

المشاهدات 836 | التعليقات 0