الإسلام وعنايته بالأسرة 

عبد الله بن علي الطريف
1446/03/23 - 2024/09/26 16:14PM

عناية الإسلام بالأسرة    1446/3/24هـ  موافقة للتعميم

أيها الإخوة: مِنْ آيَاتِ اللهِ الدالَةِ على رحمتِهِ وفضله وعنايته بعباده، وحكمته العظيمة وعلمه المحيط، التي قلما نتذكرها.. أن خلقَ لنا من أنفسِنا أزواجًا، وأودعَ في نفوسِنا عواطفَ ومشاعرَ تجاه الطرف الآخر، وجعل في تلك الصلةِ سكنًا للنفسِ والأعصاب، وراحةً للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأُنسًا للأرواحِ والضمائر واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء.. ويصورُ الباري تبارك وتعالى هذه العلاقة تصويرًا بديعًا لعلمِه التام بأعماقِ القلب وأغوارِ الحس فيقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21] فيدركون حكمة الخالق في خلقِ كلٍ من الجنسين على نحو يجعلُه موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: النفسية والعقلية والجسدية.. فيجدُ عنده الراحةَ والطمأنينة والاستقرار.. ويجدان في اجتماعهما السكنَ والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي خلقه الله تعالى ملبيًا لرغائب كل منهما في الآخر، فلا تجد بين فردين من الناس في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة والائتلاف والامتزاج، الذي يُنشئُ في النهايةِ حياةً جديدةً تتمثلُ في جيلٍ جديدٍ..

أيها الإخوة: الزواج عقد شراكة بين رجل وامرأة أجنبيين عن بعضهما، وجلالة هذا العقد وأهميته توجب على الزوجين أن يجعلاه نصب أعينهما، وأنَّه عقدُ شراكةِ سماه اللهُ تعالى لأهميتِهِ وقوتَه بــــ "المِيثَاقُ الغَلِيظُ" فقال: «وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا» [النساء: 21] وهذه التسمية إشارةٌ منه تعالى إلى قوةِ ومتانةِ هذا العقد الذي يَعْسُرُ نقضَه، وهو عقدٌ جليلٌ ورباطٌ قويمٌ.. وَوَصْفُ اللهِ لهذا العقدِ بــــ "المِيثَاقُ الغَلِيظُ" يُضفي عليه جَلالًا وهيبةً، وتقديرًا واحترامًا، وينبّه الزوجين إلى أن هذا العقدَ مستمرٌ ومقاومٌ للعواصف الأسرية والأزماتِ الحياتية والصعابِ المختلفة، ومحفزًا للزوجين _وخصوصًا الزوج لأثره الكبير_ أن يأخُذا على نفسيهما العهد والميثاق بأن يُحَسِنا العشرة امتثالًا لقوله عز وجل: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا» [سورة النساء:19]. وهذا الميثاق الغليظ يحتم على من عقده إن تعثرت العشرة أن يتعامل بالمعروف..

وإنَّ عقدًا هذه منزلته في الإسلام لا يتهاون به، بأن يُجعلُ حَلُه تلزيمًا على ضيف، أو إنفاذًا لطلب أو نهيًا عن فعل أو غيره من التصرفات.!

إن علينا أن نستحضر تقوى الله في تعاملنا مع أزواجنا.. وإذا وفقنا لذلك وفقنا لخير كثير، ويسرَ اللهُ لنا من الأمورِ ما لا يخطرُ لنا على بالٍ، يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]، ووعد سبحانه المتقين أن يجعلَ لهم من كلِ ضيقٍ مخرجًا، ويرزقَهم من حيث لا يحتسبون فقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.) [الطلاق:3،2]..

أحبتي: ما أجمل التعامل اللطيف بين الزوجين وما أعظم أثره، على الحياة الزوجية.. فإذا وجدت الزوج يحترم زوجته ويتلطف بها ويقدر صنيعها ويظهر حبَهُ لها، ويشكرها إذا أحسنت ويدعو لها، ويتزين لها كما يحب أن تتزين له، ويعذرها إن قصرت أو عجزت، ويصبر عليها إذا غضبت واشتدت.. فلا يهجرها أمام أهله وأهلها وأولاده، ولا يقصر في نفقتها، بل ينفق عليها بلا من ولا أذى ويحتسب ذلك عند الله فهو من المعروف، وخير منْ يقتدى به في ذلك النَّبِيُّ ﷺ فَقَدْ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» رواه البخاري ومسلم. أي فمها..

ولقد ضرب النَّبِيُّ ﷺ في حسن معاشرته لأزواجه وتلطفه وتودّده لأهله المثل الأعلى رغم مكانته وكثرة مسؤولياته ولم يمنعه ذلك من مجالسة نسائه ومآكلتهن رضي الله عنهن أجمعين نذكر جانبًا من هديه. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ» [هو العظم الذي عليه بقية من لحم] رواه مسلم.. وتقول: «كَانَ ﷺ يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ القُرْآنَ» رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ، قَالَتْ لَهَا: ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: «وَمَا يُبْكِيكِ؟» قَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لِنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَبِمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟» ثُمَّ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ يَا حَفْصَةُ» رواه ابن حبان وصححه الألباني.

وكان ﷺ يتودد إلى نسائه ويتفقد أحوالهن كل يوم فَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» رواه أبو داود وقال الألباني حسن صحيح.

ومن تفقده لأحوالهن ما رواه أَنَسٌ قَالَ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَهَا فَأَبْطَأْتُ فِي الْمَسِيرِ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهِيَ تَبْكِي وَتَقُولُ: «حَمَلْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ بَطِيءٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْسَحُ بِيَدَيْهِ عَيْنَيْهَا وُيُسْكِتُهَا. رواه النسائي بالكبرى وهو حديث حسن الإسناد..

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ أَظُنُّهَا عَائِشَةَ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْكَسَرَتْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ الْكِسْرَتَيْنِ، فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ قَالَ: كُلُوا فَأَكَلُوا ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا" رواه البخاري ومسلم وأحمد.

وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ «كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟» قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا» رواه أبو داود وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. ولو ذهبت استقصي المواقف في سنته ﷺ لطال بي الحديث، وكتب السنة والشمائل مليئة بدرر من هديه..

وعلى الزوجة أن تكون قائمة بخدمة زوجها، حريصة على ما يرضيه تحترم قوله وتسدده بلطف وحسن قول، وتتهيأ له وتحسن استقباله، وتسمع أمره إلا بمعصية الله.. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خُمُسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ» رواه ابن حبان وقال الألباني صحيح لغيره.

 

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العليُ الأعلى.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد أيها الإخوة: واعلموا أن من رجاحة العقل ونضج التفكير توطينُ النفس على قبول المضايقات والغضُ عن بعض المنغصات.. فإذا اختلت مصالح الزواج، وفسدت النوايا، وتنافرت الطباع، وذهبت المودة والمحبة، ونمت الكراهية والبغضاء، وتعقدت الحياة الزوجية، وساءت العشرة بين الزوجين بسبب تباين الأخلاق، أو غيرها، وحل الشقاق المستمر الذي تصعب معه الحياة الزوجية، ولم تنفع جميع وسائل الإصلاح بين الزوجين، واستعصى حل الخلافات الزوجية، ووصل الأمر إلى هذا الحد، فقد شرع الله الطلاق؛ ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة، وصلة موجعة، وارتباط مؤلم،  ووعد الكريم الزوجين بعد الفراق خيراً فقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء:130]. وللطلاق أحكامٌ يجب على من أراده معرفتها..

وجعل الطلاق آخر العلاج، بحيث لا يصار إليه إلا عند تفاقم الأمر، واشتداد الداء وحين لا يجدي علاج سواه.

وحذر النَّبِيُّ ﷺ الزوجات من طلب الطلاق من غير ما بأس فَقَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ، لَمْ تُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي عَنْ ثَوْبَانَ وصححه الألباني.. وليحذر الوالدان بعد طلاقهما من الإضرار بأولادهما وألا يجعلا الأولاد وسائل ضغط وأداة إضرار وحري بهما ألا يجمعا على الأولاد ألم افتراقهما وألم الخصومة وهذا الفعل من أشنع الأعمال وأسوئها، فحري بالطليقين أن يكونا مثالًا في التعامل ولا يدريان ربما صلحت حالهما وعادت الحياة بينهما فكيف يكون موقفهما أمام أولادهما وأهليهما..

المرفقات
المشاهدات 469 | التعليقات 0