الإسلام وعدالته مع المرأة
د صالح بن مقبل العصيمي
الإسلام وعدالته مع المرأة – الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ مِمَّا يُثِيرُهُ أَعدَاءُ اللهِ الَّذِينَ مَا زَالُوا يَعْتَرِضُونَ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَيُشَاقُّونَهُ كَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنهُ بِخَلْقِهِ، وَأَرْأَفُ مِنْهُ بِعِبَادِهِ، قَولُهُمْ: لِمَاذَا الْقَوَامَةُ لِلْرَّجُلِ؟ مُعْتَرِضِينَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، وَمَا عَلِمُوا بِأَنَّ الْقَوَامَةَ مَسْؤُولِيَّةٌ، وَهِي تَكْلِيفٌ، مَغْنَمٌ وَمُغْرَمٌ؛ فَمَنْ أَدَّاهَا بِحَقٍّ؛ نَالَ الْمَغْنَمَ، وَمَنْ خَانَهَا، وَفَرَّطَ فِيهَا؛ اِسْتَحَقَّ الْمَغْرَمَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَوَامَةِ الْقِيَادَةَ، وَالرِّعَايَةَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وِفْقَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا بِالتَّجَبُّرِ وَالاِسْتِبْدَادِ، هِيَ عِبْءٌ عَلَى الرَّجُلِ، حُمِّلَ إِيَّاهَا، لَيْسَ بِطِلَبٍ مِنْه، وَلَا اِخْتِيَارٍ؛ إِنَّمَا تَشْرِيعٌ إِلَهْيٌّ، نَقُولُ إِزَائِهِ: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، وَعِنْدَمَا نُنَاقِشُ الْقَوَامَةَ بِالْعَقْلِ؛ نَجِدُ أَنَّهُ لَاَبُدَّ لَكُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ قَائِدٍ يُنَظِّمُهُ، وَهُوَ الْمَرْجِعُ؛ فَالْبَلَدُ لاَبُدَّ لَهَا مِنْ حَاكِمٍ، وَالْمَنَاطِقُ لاَبُدَّ لَهَا مِنْ أَمِيرٍ، وَالْقُرَى وَالْمُدُنُ، لَابُدَّ لَهَا مِنْ قَائِدٍ ؛ بَلْ حَتَّى الرِّفْقَةُ فِي السَّفَرِ؛ لاَبُدَّ لَهُمْ مِنْ أَمِيرٍ يَرْجِعُونَ إِلَيهِ؛ حَتَّى تَنْضَبِطَ الْأُمُورُ، فَلَابُدَّ لَكُلِّ بَيْتٍ مِنْ قَائِدٍ، فَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِهَا، فَشُؤُونُ الْبَيْتِ، وَالتُّرْبِيَةُ وَمَسْؤُولِيَاتُهُمَا؛ أَنِيطَتْ بِهَا، وَأُنِيطَتْ مَسْؤُولِيَّةُ إِعْطَاءِ الْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ، وَالْقَوَامَةُ لِلرَّجُلِ؛ حَتَّى لِا تَكُونَ الْأُمُورُ فَوْضَى، وَكَوْنُ الْإِذْنِ بَيْدِ الرَّجُلِ؛ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، وَلَا اِنْتِقاصَ لِلْمَرْأَةِ، فَهَلْ يَجِدُ الْإِنْسَانُ غَضَاضَةً فِي الْاِسْتِئْذَانِ مِنْ رَئِيسِهِ فِي الْعَمَلِ؟ فَالْاِسْتِئْذَانُ لِلْتَنْظِيمِ وَالتَّرْتِيبِ، حَتَّى تَنْضَبِطَ الْأُمُورُ، وَيَنْتَظِمَ الْعَمَلُ، وَتَزُولَ الْفَوْضَى، وَلاَبُدَّ لِلْبَيْتِ مِنْ قَائِدٍ: إِمَّا الرَّجُلُ، وَإِمَّا الْمَرْأَةُ، فَلَوْ كَانَتِ الْقَوَامَةُ لِلْمَرْأَةِ ؛ لَقَالُوا : ظُلِمُ الرَّجُلِ، فَلَنْ يُرْضِيَ أَعْدَاءَ اللهِ شَيْءٌ؛ إِلَّا الْكُفْرَ وَالْمُحَادَّةُ لِلَّهِ؛ فَأَنَاطَ الْإِسْلَامُ الْمَسْؤُولِيَّةَ بِالرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْوَى، وَالْأَقْدَرُ، وَلِأَنَّهُ الْمَسْؤُولُ عَنِ النَّفَقَاتِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَلِّبُ الْجَانِبَ الْعَاطِفِيَّ، وَتَتَأَثَّرُ عِنْدَ تَأَثُّرِ الْأَطْفَالِ، فَقَدْ تَضْعَفُ أَمَامَ عَاطِفَتِهَا، بِعَكْسِ الرَّجُلِ الَّذِي يُغَلِّبُ الْعَقْلَ عَلَى الْعَاطِفَةِ. وَالْأَمْرُ أَوَّلًا وَآخِرًا يَرْجِعُ لِحُكْمِ اللهِ.
عِبَادَ اللهِ، وَ مِمَّا يُشِيعُهُ مُثِيرُو الشُّبُهَاتِ فِي بَعْضِ مُنْتَدَيَاتِهِمْ، وَإِعْلَامِهِمْ؛ بَأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ، وَهَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ حَيْثُ أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ، حَيْثُ قَالَ الْإَمَامُ اِبْنُ الْمُنْذِرِ، رَحِمَهُ اللهُ: " وَأَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْقَصَاصَ فِي النَّفْسِ"، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الرَّأْيِ، فَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَثَبْتَ عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَنَّه أَقَادَ رَجُلًا بِامْرَأَةٍ)، أَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اُلهُ عَنْهُ، مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ- كَمَا قَالَ اِبْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ- بَلْ الثَّابِتُ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، (قَتْلُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ) كَمَا صَحَّ عِنْدَ اِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَالْمَسْأَلَةُ -كَمَا ذَكَرْتُ- مَحَلُّ إِجْمَاعٍ. وَدَلِيلُ قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، قَوْلُ الْحَقِّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، فَتَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ.."، رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَفِعْلُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (حِينَمَا قَتَلَ رَجُلًا بِامْرَأَةٍ)؛ وَلِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً بِالْحِجَارَةِ؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (بِرَجْمِهِ حَتَّى مَاتَ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. أَمَّا مَا فَهِمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) فَإِذَا كَانُوا فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، فَلِمَاذَا لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهُ أَنَّ الْأُنْثَى لَا تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ؟ فَقَدْ نَصَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى؛ إِذًا فَمَا هُوَ مَفْهُومُ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى)؟ فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَا كَانَ يُفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ أَنْ يَقْتُلُوا فَيمَنَ قَتَلَ أُنْثَى؛ إِلَّا رَجُلًا، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَكَّدَ عُقُوبَةَ الْقَصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ، دُونَ النَّظَرِ إِلَى جِنْسِهِ. فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِأَحَدِ النَّوعَيْنِ إِذَا قَتَلَ الْآخَرَ، وَالْآيَةُ فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، فَلَمِ تُفَرِّقْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَكُلُّ حُكْمٍ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ يَنْسَخُ مَا قَبْلَهُ إِذَا عَارَضَهُ.
عِبَادَ اللَّهِ، كَذَلِكَ اِعْتَرَضَ أَعَدَّاءُ الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ ظُلِمَتِ الْمَرْأَةِ بِكَوْنِ دِيَتِهَا نِصْفُ دِيَّةِ الرَّجُلِ. وَهَذَا مِنْ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ؛ فَالْقولُ بِأَنَّ دِيَّةَ الْأُنْثَى بِنِصْفِ دِيَّةِ الذَّكَرِ؛ تُنْقِصُ مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْخَاوِيَةِ الْمَرِيضَةِ. وَاللهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ، وَلْنَنْظُرْ: هَلْ ظَلَمَ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ الْأُنْثَى؛ بِكَوْنِ دِيَتِهَا نِصْفَ دِيَّةِ الرَّجُلِ، أَمْ أَنَّهَ أَنْصَفَهَا؟ فَالْأَنْثَى حِينَمَا تَفْقِدُ عَائِلَهَا؛ حَلَّتْ عَلَيْهَا مُصِيبَةُ فُقْدَانِ الْعَائِلِ؛ فَأَلْزَمَ الإِسْلَامُ الْقَاتِلَ بِتَعْوِيضِهَا بِدِيَّةٍ كَامِلَةٍ، أَمَّا لَوْ قُتِلَتْ هِيَ، فَلَنْ يَنَالَ وَارِثُهَا إلّا نِصفَ الدِّيَّةِ، فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ فَقَدْ الْعَائِلِ، عُوِّضَتْ أَكْثَرَ، وَنَالَتْ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ، أَمَّا الرَّجُلُ فَمَا سَيَنَالُهُ عِنْدَ فَقْدِهَا أَقَلُّ، فَأَيْنَ الظُّلَمُ الَّذِي زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ؟
عِبَادَ اللَّهِ، وَمِمَّا يُثِيرُهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ، الَّذِينَ لَا يَفْتَؤُونَ يُشَاقُونَ اللهَ، وَرَسُولَه؛ اِدِعَاؤُهُمْ حِمَايَةَ الْمَرْأَةِ مِنَ الظُّلْمِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِثَارَتُهُمْ لِمَسْأَلَةِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَفْتَؤُونَ يُرَدِّدُون كَذِبًا بِأَنْ مِيرَاثَ الأنثى نِصْفُ مِيرَاثِ الذَّكَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ حَتَّى صَدَّقَ مَنْ لَا يَعَرِفُ الْأَحْكَامَ هَذَا الْكَذِبَ. فَمَنْ قَالَ بِأَنْ مِيرَاثَهَا نِصْفُ مِيرَاثِ الرَّجُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ هَذَا كَذِبٌ عَظِيمٌ. إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلَّا فِي صُوَرَةٍ واحدَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمِيرَاثِ، عِنْدَمَا يَكُونُ مَعَهَا أَخُوهَا، أَوْ ابْنُ عَمِّهَا الَّذِي فِي دَرَجَتِهَا مَعَ إِلْزَامِهِ بِنَفَقَاتِهَا -وَلَوْ كَانَتْ ثَرِيَّةً- فَمَثَلَا: لَوْ مَاتَ عَنْ اِبْنٍ، وَبِنْتٍ، وَتَرَكَ مَائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا؛ أَخَذَ الْاِبْنُ مَائَةَ أَلْفٍ، وَالْبِنْتُ أَخَذَتْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأُلْزِمَ الْاِبْنُ بِنَفَقَاتِ أُخْتِهِ؛ فَلَوْ كَانَ إِيجَارُ الْمَنْزِلِ خَمْسِينَ أَلْفًا؛ أُلْزِمَ الْاِبْنُ بدَفَعِ الْإِيجَارِ لِوَحَدِهِ، فَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ خَمْسُونَ أَلْفًا كَالَّذِي مَعَهَا، وَأَلْزَمَ بِنَفَقَاتِهَا مِنْ كُسْوَةٍ، وَطَعَامٍ وَغَيْرِهِمَا، وَسَوْفَ نَجِدُ فِي نِهَايَةِ الْعَامِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدِ اِسْتَهْلَكَ مَالَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أُخْتِهِ؛ فَطِبَاعُ الرِّجَالِ تَأْبَى الْأَخْذَ مِنَ النِّسَاءِ؛ لِذَا أُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْهَا، مَعَ إِلْزَامِهِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا. أَمَّا فِي بَاقِيِ الْمَسَائِلِ؛ فَالْأُنْثَى فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ تَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ بِالْفَرْضِ، بِعَكْسِ الرَّجُلِ فَهُوَ وَارِثٌ بَالتَّعْصِيبِ فِي الْغَالِبِ، فَمَثَلًا: لَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَتَرَكَ بِنْتًا، وَبِنْتَ اِبْنٍ، وَزَوْجَةً، وأمًّا، وَعَشَرَةَ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ؛ لَأَخَذَتِ الْبِنْتُ النِّصْفَ، وَبِنْتُ الْاِبْنِ السُّدُسَ، وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، وَالْأُمُّ السُّدُسَ، فَلَاحِظْ أَنَّ الْبِنْتَ -وَهِيَ أُنْثَى- أَخَذَتْ نِصْفَ الْمَالِ، وَالْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ - وَهُمْ رِجَالٌ-لَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا، فَهُمْ وَرَثَةٌ بِالتَّعَصِيبِ يَرِثُونَ الْبَاقِي، وَلَمْ يَبْقَ شَيءٌ. وَخُذْ مِثَالًا آخَرَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ بِنْتًا، وَبِنْتَ اِبْنٍ، وَزَوْجَةً، وَأَبًا؛ لَأَخَذَتِ الْبِنْتُ نِصْفَ مَا تَرَكَ، وَالْحَفِيدِةُ السُّدُسَ، وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، وَالْأَبُ السُّدُسَ -مَعَ الْبَاقِي لَوْ وُجِدَ- وَالْأَبُ أَخَذَ سُدُسَ الْمَالِ فَقَطْ، وَأَخَذَتِ الْبِنْتُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ مَا أَخَذَهُ، فَلَوْ أَنَّهُ تَرَكَ سِتُمَائَةَ أَلْفٍ؛ لَأَخَذَتِ الْبِنْتُ نِصْفَهُ ثَلَاثُمَائَةَ أَلْفٍ، وَحَفِيدَتُهِ مَائَةَ أَلْفٍ، وَالْأَبُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْأَبُ- لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا مَائَةَ أَلْفٍ (فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)( )، وَاُنْظُرْ لِمَسْأَلَةِ أُخْرَى مُسَتَمِعًا لِقَوْلِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ)( )، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)( )، فَاِنْظُرْ إِلَى تَكْرِيمِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِلْإِنَاثِ، فَذَكَرَ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ، وَذَكَر أَن الْوَاِحدَةَ لَهَا النِّصْفُ، بَلْ وَذَكَرَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِ، وَحِينَمَا ذَكَرَ نَصِيبَ الْأَخِ جَاءَ بِالضَّمِيرِ "وَهُوَ يَرِثُهَا". فَأَيُّ تَكْرِيمٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ! عِبَادَ اللهِ، لِنَثِقْ بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ). وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الإسلام وعدالته مع المرأة – الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظم نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
عِبَادَ اللهِ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ لَا يَمَلُّوا مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ، وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ الْمُنْزَلَقَاتِ الْخَطِيرَةِ، وَالِانْحِرَافَاتِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تُبْعِدُهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَعَنِ النَّهْجِ الْقَوِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ أَصْدِقَاءَ السُّوءِ وَالْمَوَاقِعَ الْمَشْبُوهَةَ الَّتِي تَبُثُّ فِي عُقُولِ النَّاشِئَةِ الْأَفْكَارَ الْمُنْحَرِفَةَ، فَمِنْ هَذِهِ الْأَفْكَارِ:
1- تَأْلِيبُ هَؤُلَاءِ الشَّبَابِ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِهِمْ، وَوَضْعُ الضَّغَائِنِ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ، حَتَّى إِنَّنَا نَجِدُ بَعْضَ الشَّبَابِ، لَا يَذْكُرُ لِبِلَادِهِ حَسَنَةً وَاحِدَةً مِنْ مَلَايِينِ الْحَسَنَاتِ، وَيَذْكُرُ لِغَيْرِهَا آلَافَ الْحَسَنَاتِ جُلُّهَا كَذِبٌ! فَمَا الَّذِي دَفَعَهُمْ لِذَلِكَ، وَكَرَّهَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ؟! إِنَّهُمْ أَعْدَاءُ بِلَادِنَا، الَّذِينَ لَا يَأْلُونَ جُهْدًا فِي إِفْسَادِ عُقُولِ الشَّبَابِ، وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ إِمَّا خَوَارِجُ أَوْ جَمَاعَاتٌ حِزْبِيَّةٌ، تَعَدَّدَتْ مُسَمَّيَاتُهَا، وَاتَّفَقَتْ أَفْعَالُهَا عَلَى مُعَادَاةِ بِلَادِ التَّوْحِيدِ، عَامَلَهُمُ اللهُ بِعَدْلِهِ، وَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَحَفِظَ بِلَادَنَا مِنْ شُرُورِهِمْ.
2- حِمَايَةُ الْأَبْنَاءِ مِنْ انْتِشَارِ الْمُخَدِّرَاتِ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَفْسَدُ مِنْهَا، وَمَا دَمَّرَ عُقُولَ الشَّبَابِ، وَأَفْسَدَ عُقُولَ النَّاشِئَةِ، مِثْلُ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ، وَخَاصَّةً أَنَّ تُجَّارَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ يَجْتَهِدُونَ فِي أَيَّامِ الِاخْتِبَارَاتِ فِي جَلْبِ الشَّبَابِ إِلَيْهِمْ! فَعَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَنْ يَكُونُوا شَدِيدِي الْمُرَاقَبَةِ عَلَى أَبْنَائِهِمْ وَفَلَذَاتِ أَكْبَادِهِمْ.
3- كَذَلِكَ عَلَى الآبَاءِ حِمَايَةُ أَبْنَائِهِمْ مِنَ الِانْحِرَافَاتِ الْعَقَدِيَّةِ مِنْ خِلَالِ مَا يَبُثُّهُ أَعْدَاءُ التَّوْحِيدِ، وَدُعَاةُ الْإِلْحَادِ، وَأَصْحَابُ الْمَوَاقِعِ الْإِبَاحِيَّةِ الَّتِي تَسْعَى جَادَّةً؛ لِإِفْسَادِ عَقِيْدَةِ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ وَعُقُولِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَبَادِئِهِمْ، وَقِيَمِهِمْ، فَهَذِهِ الِانْحِرَافَاتُ الْفِكْرِيَّةُ، يَتَحَمَّلُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ، مَعَ الْمَدَارِسِ وَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ، الْمَسْؤُولِيَّةَ الْكَامِلَةَ فِي تَوْجِيهِ النَّاشِئَةِ التَّوْجِيهَ السَّلِيمَ الْمُتَّفِقَ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ. وَبِإِذْنِ اللهِ تُؤْتِي هَذِهِ النَّتَائِجُ ثِمَارَهَا. الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا و ولي عهده لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهما لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُما سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. نَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا بِرَحْمَتِكَ غَيْثًا هَنِيئًا مَرِيئًا، اللَّهُمَّ طَبَقًا سَحًّا غَدَقًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ، وَأَكْرِمْنَا بِخَيْرَاتِكَ الْعِظَامِ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ؛ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، أَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، اللَّهُمَّ أَغِثِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَالْحَاضِرَ وَالْبَادِيَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ؛ اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَلَا تُعَامِلْنَا بِمَا نَحْنُ أَهْلُهُ؛ أَنْتَ أَهْلُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق