الإسلام دين الأخلاق-6-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1436/02/05 - 2014/11/27 18:31PM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطْهُ أحدٌ، ومن قنِع بعطاءِ مولاه لم يَدْخُلْهُ حسَدٌ، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه.
واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةَ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين: [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون].
إخواني الأعزاء: قواعدُ السلوكِ ومعاييرُ الأخلاقِ وآدابُ التعامُل مقياسُ جلِيٌّ واضح من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها القواعدُ والآدابُ التي تحكُم العلاقاتِ بين الناسِ من كلِّ فِئاتِهم وطبقاتِهم، قواعدُ وآدابٌ تبعَثُ على الشعورِ بالأمانِ والمحبَّةِ، وحُسنِ المعاشَرةِ وسعادةِ المُجتمعِ، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه.
حُسْنُ الخُلُقِ هو اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريمُ، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيمُ.
الوجهُ البشوشُ الصَبوحُ خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسْنُ البِشْر يُذهِبُ السَّخِيمةَ والحقدَ مِنَ القلوبِ، وذو المُروءةِ الحكيمُ من يُخاطِبُ الناسَ بأفعالِه قبل أن يُخاطِبَهم بأقوالِه.
وفي دينِنا مِنَ التوجيهاتِ والتعليماتِ ما يَبْني شبكةً واسعةً من العلاقاتِ المَتينةِ مع الأُسْرةِ، ثم مع المُجتمعِ، ثم مع كلِّ المسلمينَ، ثم مع كلِّ الناسِ.
يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا"، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُم منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق".
ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويَدْخُلَ الجنةَ فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أنْ يُؤتَى إليه".
والناسُ معادنُ وطبقاتٌ ومنازلُ، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر.
والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخٍ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريعِ الفَهمِ وبطيئِهِ، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبِها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوالٍ؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة.
وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السمك فضع في سِنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدانُ لا فاخرُ اللحومُ".
إخواني الكرام: وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به سيرةُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلف الطبقات والشخصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله-عزَّ شأنُه: [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم]، وقال-جل وعلا-: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين].
وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلَ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهلِهِ، وسلُوكُه في بيته-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-.
لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم-بشرًا من البشر؛ يخيط ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله وخدمتهم، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة.
وكان يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي".
ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجهِ، وتقطيبِ الجبينِ، وإصدارِ الأوامرِ والنواهي، وتجنُّبِ المُباسَطةِ في الحديثِ مع الأهلِ، ومُبادلَةِ المسرَّاتِ وحُسنِ الإصغاءِ.
وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين أمِنا عائشةَ-رضي الله عنها-وزوجِها محمدٍ رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلَّم- مُؤانسةً ومُباسطَةً.
ومِنْ حُسْنِ المعاملِة: المُشاوَرةُ في الشؤونِ الأُسْريَّة وغيرِها: [فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا]، وشاورَ النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم-زوجَهُ أمَنا أمَّ سلَمَة-رضي الله عنها-في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأَخَذَ بمشُورتِها.
وشاوَرَ بريرَةَ-رضي الله عنها-في قصةِ الإِفكِ-وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل-.
بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه-عليه وآله الصلاة والسلام- مع أخطاءِ الناس وغيرةِ النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتِها المملوءةَ طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم-عليه وآله أفضل الصلاة وأزكَى التسليم-إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلا: "غارَت أمُّكم"، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وأمر بشراء إناء جديد، وقال: "طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ"، يقول الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة".
يا أخي الحبيب: القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُحُ فليس إلا لِذوي الإراداتِ القويةِ، والمُروءاتِ العاليةِ، والأخلاقِ الرفيعةِ، "وما ضربَ الرسولُ-صلى الله عليه وآله وسلم- امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله".
أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد-صلى الله عليه وآله وسلم-في ذلك ولا حرَج:
ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقاتِ الجِدِّ وأوقاتِ الْلَّعِبِ؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّهُ له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها.
والحسنُ أو الحُسين-رضي الله عنهما-يرتحِلُ النبيَّ-صلى الله عليه وآله وسلم-ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه.
بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ-رضي الله عنه-، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم- ومسحَ رأسَه وقال: "ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديْهِ بين فئتينِ عظيمتينِ من المسلمينَ".
أيها الكرام: والطريقُ الأيسرُ والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفالُ والصغارُ هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسنُ رعايتِهمْ ومنحُهمُ الحنانَ والاهتمامَ، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وزحمةُ الواجباتِ وكثرةُ المسؤولياتِ لا يجوزُ أن تَشْغَلَ عن مثلِ هذا، فهذا من جُملةِ المسؤولياتِ والواجباتِ.
يقول أنسٌ-رضي الله عنه-: "كان إبراهيمُ ابنُ الرسولِ-صلى الله عليه وآله وسلم- مُسْتَرْضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع".
مُفردات التعامُل مع الصغار: قُبلةٌ حانيةٌ، وحِضنٌ دافِئٌ، ولَعِبٌ بريءٌ، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفِها، عظيمةٌ في تأثيرِها.
مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي الذي رأى رسولَ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-يُقبِّلُ سِبطَه الحسن-رضي الله عنه-فقال: أوَ تُقبِّلون أطفالَكم؟! إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فقال له النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: "من لا يرحَمُ لا يُرحَم"،"أوَ أملِكُ أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم".
بل إنه-عليه الصلاة والسلام-إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّهِ أنْ تَفْتَتِنَ به.
أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُوضحه قول أنس-رضي الله عنه-مع رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-: "خدمتُ رسولَ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-عشرَ سنين، فما قال لي أفٍ قطُ، و لا لشيءٍ صنعتُهُ لم صنعتَهُ؟، ولا لشيءٍ تركتُهُ لمَ تركتَهُ".
وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسِهِ-رضي الله عنه-: خرجَ أنسٌ في حاجةٍ لرسولِ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم-، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوقِ فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبيُ-صلى الله عليه وآله وسلم-، فخرجَ يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان.
يقول أنس: فإذا رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلَّم- قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: "يا أُنيس: أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟!". فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله!
هذا هو الدرس؛ إنسانيةٌ، وتلطُّفٌ، ورِقَّةٌ في النداء: "يا أُنيس"، من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، ولا صُّراخٍ و لا ضربٍ و لا تعنيفٍ.
وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-قائلا: إنه يُسيءُ ويَظلِمُ، أفأضرِبُه؟! فقال: "تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة".
نعم، أيها الأحباب: إن مِنْ أعظمِ ما يتجلَّى فيه آدابُ التعامُل وكريمُ الأخلاق: مواقفَ الناسِ في مُعاملاتِهم وبيوعاتِهم ومُدايناتِهم: يقول ربنا-جل وعلا-: [وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون]، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-"رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى"، "ومن سرَّه أن يُنَجِيَهُ اللهُ من كُرَبِ يومِ القيامةِ فليُنفِّسْ عن مُعسِرٍ أو ليضَع عنه".
أما التعامُلُ أمامَ مكرِ الماكرينَ، وخياناتِ الخائنينَ، وكُفرِ الكافرينَ؛ فقد قال الله لنبيِهِ محمدٍ-صلى الله عليه وآله وسلم-: [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين].
ولو نظرَ المسلمُ إلى المُعاهَدات التي عقدَها النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- مع غيرِ المسلمينَ، لرأى فيها من صُنوفِ التسامُحِ وحُسنِ الجِدالِ وضُروبِ العفوِ والصفحِ ما لا ينقضِي منه العجَب: "من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن".
وقال لقريشٍ يومَ الفتحِ، وهُمْ من هُمْ في ماضِيهم الأسودِ، وتاريخِهم المُظلِمِ مع رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابِه، وتعذيبِ المُستضعَفينَ، وإيذاءِ المؤمنينَ، لقد قال لهم: "ما تظنونَ أني فاعلٌ بكم؟!". قالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: "أقولُ كما قال أخي يوسف:[لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين]، اذهبُوا فأنتمُ الطُّلَقاء".
وحين قيل له: ادعُ على المشركين، فقال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثت داعيًا ورحمةً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
وبعد: عباد الله: فإليكم ميزانًا لا يختلف، ومِعيارًا لا يُطفِّف، أحِبُّوا لغيرِكم ما تُحبُّون لأنفسِكم، واكرهوا لغيرِكم ما تكرهون لأنفسِكم، وأحسِنوا كما تُحبُّون أن يُحسَن إليكم، وارضَوا من الناس ما ترضَونَه لأنفسكم، ولا تقولوا ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، ولا تَظْلِموا كما لا تُحبُّون أن تُظلَموا، وافعلوا الخيرَ مع أهلِهِ ومع غيرِ أهلِهِ؛ فإن لم يكونوا من أهلِهِ فأنتمْ مِنْ أهلِهِ.
يا أخي المبارك: كم من بلِيَّةٍ مُقبِلةٍ دفعَها معروفٌ لمسلمٍ بَذَلْتَهُ، أو همٌّ لمهمومٍ فرَّجتَه، أو مُحتاجٌ في ضائقةٍ أعنتَه، ومن قاسَى هجيرَ صنائعِ المعروفِ في الدنيا استظلَّ في ظلال النعيم في الآخرةِ في الجنَّةِ، وخيرُ الناس أتقاهُم، وآمَرُهُم بالمعروف، وأنْهَاهُم عن المنكر، وأوصلُهم لذي رحِمِه، ومن يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لم يُخالِطِ الناس ولا يصبِرُ على أذاهم، [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم*وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
أما بعد: ومن حُسن التعامُل وآدابه: اليقين الجازم بأنه لا أحد يخلو من العيوب؛ يقول سعيد بن المُسيّب-رحمه الله-: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيوبٌ".
لكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضله، وكم من الناس تنقُدُهم، فإذا رأيتَ غيرَهم حمِدتَّهم ومدحتهم، وقد قال نبيُّنا-صلى الله عليه وآله وسلم-في العلاقات الزوجية: "لا يفرَكُ(لا يُبْغِضُ)مؤمنٌ مُؤمِنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخَر".
والناسُ-رحمك الله-يكرهون من لا ينسَى زلاَّتِهم، ويُذكِّرهم بأخطائِهم، ومُواجهةُ الناس بأخطائِهم هي أقصرُ طريقٍ للعداوة، ومن سترَ مسلمًا ستَرَه الله، والمُتَّقون هم الكاظِمونَ الغيظَ والعافونَ عن الناس.
وقدِّر غيرَك تَفُزْ بتقديرِهِ، وابتسِمْ للناسْ يبتسِموا لك، وتبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ، إن استثارةَ العواطفِ النبيلةِ منِ نفوسِ الناسِ طريقٌ كريمٌ حكيمٌ لكسبِهم والتأثير فيهم.
وفي التعامُل-حفظك الله-اجتنِب الحديثَ عن نفسك ونَسْبَ الفضائلِ لها، وإلقاء التبِعَةِ والمسؤوليةِ على الآخرين، فما تتفاخَرُ به قد يراه الناسُ نقصًا وعيبًا، وأحسِن الإنصاتَ، والمُقاطَعةُ في الحديثِ تجرحُ المشاعِرَ، ومن لم يشكُرِ الناسَ لم يشكُرِ اللهَ، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجَت من أحدٍ سُوءًا وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلا.
وبعد: فإن الناسَ-وأنت منهم-عواطفُ أولا، ثم عقولٌ ثانيًا.
فاتقوا الله-رحمكم الله-؛ فمن حسُنَ خُلُقُه بلغَ درجةَ الصائم القائم، والمؤمنُ يألَفُ ويُؤلَف، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.
[/align]
فيا أيها الإخوة، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطْهُ أحدٌ، ومن قنِع بعطاءِ مولاه لم يَدْخُلْهُ حسَدٌ، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه.
واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةَ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين: [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون].
إخواني الأعزاء: قواعدُ السلوكِ ومعاييرُ الأخلاقِ وآدابُ التعامُل مقياسُ جلِيٌّ واضح من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها القواعدُ والآدابُ التي تحكُم العلاقاتِ بين الناسِ من كلِّ فِئاتِهم وطبقاتِهم، قواعدُ وآدابٌ تبعَثُ على الشعورِ بالأمانِ والمحبَّةِ، وحُسنِ المعاشَرةِ وسعادةِ المُجتمعِ، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه.
حُسْنُ الخُلُقِ هو اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريمُ، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيمُ.
الوجهُ البشوشُ الصَبوحُ خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسْنُ البِشْر يُذهِبُ السَّخِيمةَ والحقدَ مِنَ القلوبِ، وذو المُروءةِ الحكيمُ من يُخاطِبُ الناسَ بأفعالِه قبل أن يُخاطِبَهم بأقوالِه.
وفي دينِنا مِنَ التوجيهاتِ والتعليماتِ ما يَبْني شبكةً واسعةً من العلاقاتِ المَتينةِ مع الأُسْرةِ، ثم مع المُجتمعِ، ثم مع كلِّ المسلمينَ، ثم مع كلِّ الناسِ.
يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا"، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُم منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق".
ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويَدْخُلَ الجنةَ فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أنْ يُؤتَى إليه".
والناسُ معادنُ وطبقاتٌ ومنازلُ، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر.
والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخٍ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريعِ الفَهمِ وبطيئِهِ، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبِها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوالٍ؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة.
وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السمك فضع في سِنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدانُ لا فاخرُ اللحومُ".
إخواني الكرام: وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به سيرةُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلف الطبقات والشخصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله-عزَّ شأنُه: [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم]، وقال-جل وعلا-: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين].
وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلَ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهلِهِ، وسلُوكُه في بيته-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-.
لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم-بشرًا من البشر؛ يخيط ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله وخدمتهم، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة.
وكان يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي".
ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجهِ، وتقطيبِ الجبينِ، وإصدارِ الأوامرِ والنواهي، وتجنُّبِ المُباسَطةِ في الحديثِ مع الأهلِ، ومُبادلَةِ المسرَّاتِ وحُسنِ الإصغاءِ.
وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين أمِنا عائشةَ-رضي الله عنها-وزوجِها محمدٍ رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلَّم- مُؤانسةً ومُباسطَةً.
ومِنْ حُسْنِ المعاملِة: المُشاوَرةُ في الشؤونِ الأُسْريَّة وغيرِها: [فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا]، وشاورَ النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم-زوجَهُ أمَنا أمَّ سلَمَة-رضي الله عنها-في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأَخَذَ بمشُورتِها.
وشاوَرَ بريرَةَ-رضي الله عنها-في قصةِ الإِفكِ-وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل-.
بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه-عليه وآله الصلاة والسلام- مع أخطاءِ الناس وغيرةِ النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتِها المملوءةَ طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم-عليه وآله أفضل الصلاة وأزكَى التسليم-إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلا: "غارَت أمُّكم"، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وأمر بشراء إناء جديد، وقال: "طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ"، يقول الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة".
يا أخي الحبيب: القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُحُ فليس إلا لِذوي الإراداتِ القويةِ، والمُروءاتِ العاليةِ، والأخلاقِ الرفيعةِ، "وما ضربَ الرسولُ-صلى الله عليه وآله وسلم- امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله".
أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد-صلى الله عليه وآله وسلم-في ذلك ولا حرَج:
ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقاتِ الجِدِّ وأوقاتِ الْلَّعِبِ؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّهُ له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها.
والحسنُ أو الحُسين-رضي الله عنهما-يرتحِلُ النبيَّ-صلى الله عليه وآله وسلم-ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه.
بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ-رضي الله عنه-، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم- ومسحَ رأسَه وقال: "ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديْهِ بين فئتينِ عظيمتينِ من المسلمينَ".
أيها الكرام: والطريقُ الأيسرُ والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفالُ والصغارُ هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسنُ رعايتِهمْ ومنحُهمُ الحنانَ والاهتمامَ، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وزحمةُ الواجباتِ وكثرةُ المسؤولياتِ لا يجوزُ أن تَشْغَلَ عن مثلِ هذا، فهذا من جُملةِ المسؤولياتِ والواجباتِ.
يقول أنسٌ-رضي الله عنه-: "كان إبراهيمُ ابنُ الرسولِ-صلى الله عليه وآله وسلم- مُسْتَرْضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع".
مُفردات التعامُل مع الصغار: قُبلةٌ حانيةٌ، وحِضنٌ دافِئٌ، ولَعِبٌ بريءٌ، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفِها، عظيمةٌ في تأثيرِها.
مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي الذي رأى رسولَ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-يُقبِّلُ سِبطَه الحسن-رضي الله عنه-فقال: أوَ تُقبِّلون أطفالَكم؟! إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فقال له النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: "من لا يرحَمُ لا يُرحَم"،"أوَ أملِكُ أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم".
بل إنه-عليه الصلاة والسلام-إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّهِ أنْ تَفْتَتِنَ به.
أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُوضحه قول أنس-رضي الله عنه-مع رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-: "خدمتُ رسولَ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-عشرَ سنين، فما قال لي أفٍ قطُ، و لا لشيءٍ صنعتُهُ لم صنعتَهُ؟، ولا لشيءٍ تركتُهُ لمَ تركتَهُ".
وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسِهِ-رضي الله عنه-: خرجَ أنسٌ في حاجةٍ لرسولِ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم-، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوقِ فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبيُ-صلى الله عليه وآله وسلم-، فخرجَ يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان.
يقول أنس: فإذا رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلَّم- قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: "يا أُنيس: أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟!". فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله!
هذا هو الدرس؛ إنسانيةٌ، وتلطُّفٌ، ورِقَّةٌ في النداء: "يا أُنيس"، من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، ولا صُّراخٍ و لا ضربٍ و لا تعنيفٍ.
وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-قائلا: إنه يُسيءُ ويَظلِمُ، أفأضرِبُه؟! فقال: "تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة".
نعم، أيها الأحباب: إن مِنْ أعظمِ ما يتجلَّى فيه آدابُ التعامُل وكريمُ الأخلاق: مواقفَ الناسِ في مُعاملاتِهم وبيوعاتِهم ومُدايناتِهم: يقول ربنا-جل وعلا-: [وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون]، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-"رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى"، "ومن سرَّه أن يُنَجِيَهُ اللهُ من كُرَبِ يومِ القيامةِ فليُنفِّسْ عن مُعسِرٍ أو ليضَع عنه".
أما التعامُلُ أمامَ مكرِ الماكرينَ، وخياناتِ الخائنينَ، وكُفرِ الكافرينَ؛ فقد قال الله لنبيِهِ محمدٍ-صلى الله عليه وآله وسلم-: [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين].
ولو نظرَ المسلمُ إلى المُعاهَدات التي عقدَها النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- مع غيرِ المسلمينَ، لرأى فيها من صُنوفِ التسامُحِ وحُسنِ الجِدالِ وضُروبِ العفوِ والصفحِ ما لا ينقضِي منه العجَب: "من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن".
وقال لقريشٍ يومَ الفتحِ، وهُمْ من هُمْ في ماضِيهم الأسودِ، وتاريخِهم المُظلِمِ مع رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابِه، وتعذيبِ المُستضعَفينَ، وإيذاءِ المؤمنينَ، لقد قال لهم: "ما تظنونَ أني فاعلٌ بكم؟!". قالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: "أقولُ كما قال أخي يوسف:[لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين]، اذهبُوا فأنتمُ الطُّلَقاء".
وحين قيل له: ادعُ على المشركين، فقال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثت داعيًا ورحمةً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
وبعد: عباد الله: فإليكم ميزانًا لا يختلف، ومِعيارًا لا يُطفِّف، أحِبُّوا لغيرِكم ما تُحبُّون لأنفسِكم، واكرهوا لغيرِكم ما تكرهون لأنفسِكم، وأحسِنوا كما تُحبُّون أن يُحسَن إليكم، وارضَوا من الناس ما ترضَونَه لأنفسكم، ولا تقولوا ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، ولا تَظْلِموا كما لا تُحبُّون أن تُظلَموا، وافعلوا الخيرَ مع أهلِهِ ومع غيرِ أهلِهِ؛ فإن لم يكونوا من أهلِهِ فأنتمْ مِنْ أهلِهِ.
يا أخي المبارك: كم من بلِيَّةٍ مُقبِلةٍ دفعَها معروفٌ لمسلمٍ بَذَلْتَهُ، أو همٌّ لمهمومٍ فرَّجتَه، أو مُحتاجٌ في ضائقةٍ أعنتَه، ومن قاسَى هجيرَ صنائعِ المعروفِ في الدنيا استظلَّ في ظلال النعيم في الآخرةِ في الجنَّةِ، وخيرُ الناس أتقاهُم، وآمَرُهُم بالمعروف، وأنْهَاهُم عن المنكر، وأوصلُهم لذي رحِمِه، ومن يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لم يُخالِطِ الناس ولا يصبِرُ على أذاهم، [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم*وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
الخطبة الثانية
لكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضله، وكم من الناس تنقُدُهم، فإذا رأيتَ غيرَهم حمِدتَّهم ومدحتهم، وقد قال نبيُّنا-صلى الله عليه وآله وسلم-في العلاقات الزوجية: "لا يفرَكُ(لا يُبْغِضُ)مؤمنٌ مُؤمِنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخَر".
والناسُ-رحمك الله-يكرهون من لا ينسَى زلاَّتِهم، ويُذكِّرهم بأخطائِهم، ومُواجهةُ الناس بأخطائِهم هي أقصرُ طريقٍ للعداوة، ومن سترَ مسلمًا ستَرَه الله، والمُتَّقون هم الكاظِمونَ الغيظَ والعافونَ عن الناس.
وقدِّر غيرَك تَفُزْ بتقديرِهِ، وابتسِمْ للناسْ يبتسِموا لك، وتبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ، إن استثارةَ العواطفِ النبيلةِ منِ نفوسِ الناسِ طريقٌ كريمٌ حكيمٌ لكسبِهم والتأثير فيهم.
وفي التعامُل-حفظك الله-اجتنِب الحديثَ عن نفسك ونَسْبَ الفضائلِ لها، وإلقاء التبِعَةِ والمسؤوليةِ على الآخرين، فما تتفاخَرُ به قد يراه الناسُ نقصًا وعيبًا، وأحسِن الإنصاتَ، والمُقاطَعةُ في الحديثِ تجرحُ المشاعِرَ، ومن لم يشكُرِ الناسَ لم يشكُرِ اللهَ، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجَت من أحدٍ سُوءًا وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلا.
وبعد: فإن الناسَ-وأنت منهم-عواطفُ أولا، ثم عقولٌ ثانيًا.
فاتقوا الله-رحمكم الله-؛ فمن حسُنَ خُلُقُه بلغَ درجةَ الصائم القائم، والمؤمنُ يألَفُ ويُؤلَف، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.
[/align]
المرفقات
الإسلام دين الأخلاق-6-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc
الإسلام دين الأخلاق-6-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc