الإسفار عن حقوق ومنزلة الجار
الشيخ محمد بن حسن القاضي
الإسفار عن حقوق ومنزلة الجار 3 ربيع الأول 1446
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [سورة آل عمران:102].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء:1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [سورة الأحزاب:70-71].
أما بعد:
اعلموا أنَّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد معاشر المسلمين! عنوان هذه الخطبة، الإسفار عن حقوق ومنزلة الجار، تعلمون أيها الناس أن الله عز وجل أوصى في كتابه الكريم، بالجار وصية عظيمة، قال ربنا في كتابه الكريم: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [سورة النساء:36] هذه الآية الكريمة أصل في الوصية بالجار، وهي الوحيدة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، صريحة في باب الوصية بالجار، فالله عز وجل أوصى بالجار، قال ربنا في كتابه الكريم: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}[سورة النساء:36] وهذه الآية أيضا أصل في بيان أقسام الجيران، وأن من الجيران ما هو جار قريب، ومن جيران ما هو جار بعيد، وقد قسم العلماء رحمهم الله، الجيران إلى ثلاثة أقسام، جار قريب لك وأيضا مسلم ومجاور، وهذا له ثلاثة حقوق، حق الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة، وجار مجاور لك وهو مسلم وليس من أقاربك ولا من أرحامك، وهذا الجار له حقان، حق الإسلام وحق الجوار، الجار الثالث هو الجار الكافر، وله حق واحد، وهو حق الجوار، فانظروا إلى هذا التقسيم العظيم، الذي استنبطه العلماء والمفسرون من هذه الآية الكريمة.
كذلك أيضا حد الجوار، من هو الذي يطلق عليه جارا، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، واختلفوا في حد الجوار، فجاء عن علي رضي الله عنه، أنه قال: هو من سمع النداء، وجاء عنه، أنه قال: هو من صلى معك الفجر في نفس المسجد، أي الحارة الواحدة، والحي الواحد، يعتبرون جميعا جوارا، وقالت عائشة رضي الله عنها: الجار أربعون بيتا من كل جهة، والصحيح أن الجار هو ما كان جارا في العرف، فما يطلق عليه الناس جارا فهو جار، والجار يختلف، فكلما كان أقرب كان حقه أعظم، وكانت منزلته أجل، فيتنبه لهذه المسألة.
كذلك أيضا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في سنته المطهرة أوصى بالجار، وبين حقوق الجار، ودعا إلى الإحسان إلى الجار، في أحاديث كثيرة، بل إن الأحاديث الواردة في حقوق الجار، وحسن الجِوار، وفضل هذا العمل، بالغة مبلغ التواتر في الجملة، ولله الحمد والمنة، فالأحاديث الصحيحة، والحسنة، والمقبولة، عند أهل العلم فيما يتعلق بالجوار، تربو عن ثمانين حديثا، ولله الحمد والمنة، من ذلك ما رواه الإمام مسلم، من حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وروى الإمام الترمذي وغيره، بسند صححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى، من حديث عبدالله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» وروى الإمام الترمذي أيضا بسند صححه الألباني، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا» فمن أراد كمال الإيمان فليحسن إلى جاره، وروى الإمام مسلم، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه اله وصحبه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر مائها وتعاهد جيرانك» وهكذا روى الإمام البخاري ومسلم، من حديث ابن عمر، ومن حديث عائشة رضي الله عنهم جميعا، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» انظروا إلى هذه الأحاديث التي شرحت، وبينت، حقوق الجيران، ومنزلة الجيران، ووجوب الإحسان إلى الجيران.
وهكذا جاءت الشريعة الإسلامية في التحذير غاية التحذير من إيذاء الجيران، ومن الوقوع في الأذية للجيران، فليكن المسلم وقافاً عند حدود الله، وعاملاً بشرع الله سبحانه وتعالى.
ألا وإن سوء الجوار من علامات قيام الساعة، روى الإمام أحمد، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «ومن أماراتها أن يظهر الفحش والتفحش، وقطيعة الرحم، وأذية الجار» فأذية الجار من العلامات التي تدل على قرب قيام الساعة.
أستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم
*الخطبة الثانية*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد معشر المسلمين:
سمعتم جملة من الأحاديث التي دعا فيها رسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إلى إحسان الجوار، وإلى معرفت حق الجيران، ألا فلتسمعوا إلى شيء مما جاء في التحذير من أذية الجار، من ذلك ما قاله سيد الأنام عليه صلاة والسلام: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا من يا رسول الله? قال من لا يأمن جاره بوائقه» فإذا كان الجار لا يأمن بوائقك، ولا يأمن دواهيك، ومصائبك، فهذا يدل على أنك من الأشرار، وسمعتم في حديث عبد الله بن عمرو، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «خير الجيران عند الله خيرهم لجاره» فإذا لم يكن فيه خير لجاره فهل فيه خير، هل يكون من الأخيار عند الله? الجواب لا.
وكذلك أيضا الرسول عليه الصلاة والسلام، حذر غاية التحذير، من أذية الجار ولو باحتقار شيء يعطيك إياه الجار، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا معشر المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو أن تهديها فرسن شاة» فإذا أعطاك الجار شيئا تقبل، ولو كان هذا الشيء ليس ذا ثمن، على سبيل المثال، بعض الناس يريد أن يطبق هذا الحديث الذي دعا فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى إهداء الجار مرق فربما أنه أخذ له قطعة صغيرة من اللحم، ما عنده المقدرة على شراء اللحم الكثير، فاشترى قطعة وكثر المرق، وأراد أن يعطي لجاره، وربما يعطي الجار شيئا من المرق، فيقول ما أعطاني إلا المرق، هذا الذي أقدره الله عليه فيقبل منه ولا يستهزأ بهذا، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، نهى عن احتقار فرسن الشاة وهو حافرها، فما بالك بمن يحتقر ما هو أعظم وأجل من ذلك.
وكذلك أيضا جاء من حديث عقبة بن عامر، عند الطبراني، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إن أول خصمين يوم القيامة جاران» فما أكثر ما تنتشر الخصومات بين الجيران إما على طريق، وإما على مسيل ماء، وإما على شجرة، وإما على فتحة باب، وإما على نافذة، وإما على الإزعاج، وإما وإما، المطلوب أن تحسن الجوار، فلا تزعج الجار بصوت المذياع، أو بصوت التلفزيون، أو بالأصوات والصياح، فتراعي حال جارك، وكذلك أيضا تحسن إلى جارك في الطريق والممر الذي بينكما، فهذا حق مشترك، ينبغي أن تراعي هذا الأمر، فبعض الناس ربما يعمد إلى الطريق التي بينه وبين جاره فربما يضيقها، خصوصا إذا أراد أن يبني أو يوسع أو أو إلى آخره، فيضيق الطريق على جاره، هذا لا ينبغي، وكذلك أيضاً بعضهم يجعل في هذه الطريق وفي هذا الممر الذي بينه وبين جاره يجعل فيها سيارته أو يجعل فيها ما يجعل من الأشياء التي تتعطل بها مصلحة الطريق، وهذا خطأ، كذلك أيضا الخلافات أيام البناء ما أكثر ما تكون بين الجيران، جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم، احذروا الخلافات، تآخوا، الدنيا أيام أنتم راحلون إلى الله عز وجل، ألا وإن من أعجب ما ورد في هذا الباب ما جاء عند الإمام أحمد بسند صحيح، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «ما تقولون في الزنا قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى أن تقوم الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: فلأن يزني الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يزني بحليلة جاره، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في السرقة، قالوا حرام حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: فلأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره» انظروا إلى هذا البيان الواضح وإلى هذا الزجر، والتحذير من أذية الجار بشيء من ذلك، المجورة تقتضي الدفاع عن العِرض والمال والنفس، هذا مقتضى المجورة، فإذا كان الجار يسعى لكشف عرض جاره، أو للتطلع إلى بنات جاره، أو للزنا ببنات جاره، أو زوجة جاره، أو يسعى إلى سرقة جاره، بحيث أنه يرى ما دخل وما خرج، ويرى ويطلع على ما لا يطلع عليه الناس، فربما يطمع في شيء من مال جاره، فيسعى إلى سرقة جاره، عياذاً بالله، فالرسول صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم، شدد في هذه القضية، فقال: «لأن يزني الرجل بالعشرة أبيات أيسر وأهون من أن يزني بحليلة جاره» افهموا هذا، وعوا هذا، واعقلوا هذا، ولهذا ينبغي البعد عن أسباب الزنا، وعن كل ما يجلب الضير، بعض الجيران يصعد على سطح بيته، فيطلع على بيت جاره، هذا زنا النظر، وهو أمين على عرض جاره، لا يجوز له أن يتطلع على عرض جاره، وربما أنه يسمع أن البنت ستخرج، أو المرأة ستخرج، فيخرج وراءها، أو يتبعها، أو يزاحم في أماكن الماء، أو أو إلى غير ذلك، لا يصلح، أنت جار، وأنت مؤتمن، وأنت مسؤول أمام الله رب العالمين، أصرت دنيئاً إلى هذا المستوى? أنزلت إلى هذا الحضيض? أصرت سافلاً إلى هذا الحد? أعاذك الله، أجارك الله، صانك الله، حماك الله، أنت شهم، أنت رجل، أنت تعرف ما قال الله وما قال رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فقف عند حدود الله، ومن طرق باب الناس طُرق بابه، ومن زنى يزنى ولو بجداره، فانتبه، واعلم أن المسألة دَين وأنك إذا فعلت شيئا سيقضى يوماً من الأيام في دارك وفي بيتك، فعامل الناس بما تحب أن تعامل به.
وكذلك السرقة، احذر من السرقة من بيت جارك، أو من سطح جارك، بعضهم قد يسرق إما الواح الطاقة الشمسية، أو أو إلى غير ذلك، بحجة أن السطح مشترك خصوصاً في العمائر وغير ذلك، وربما يبحث مع الناس، ويقول ما أدري من هذا الذي فعل، الله مطلع، والله عز وجل يرى كل صغيرة وكل كبيرة، فيا أيها المسلم! راقب الله واعمل شيئا يبيض وجهك لا شيئا يسود وجهك، لو تسترت في الدنيا هل يمكنك أن تتستر وتختفي يوم لقاء رب العالمين، يوم يظهر المخبى، وينكشف المغطى، وتنفضح في ذلك اليوم على رؤوس العباد.
أسأل الله بمنه وكرمه، وفضله وإحسانه، أن يوفقنا لما يحب ويرضا، وأن يأخذ بنواصينا بالبر والتقوى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ يمن الإيمان والحكمة، ونجنا من كل ضائقة وفتنة، اللهم رحماك بأهل اليمن، اللهم ادفع الضر عن المتضررين، اللهم كن للفقراء والمشردين والنازحين والأيتام والأرامل والضعفاء يا رب العالمين، اللهم أنقذ بلادنا من هذه الفتن، وأخرج بلادنا من هذه المحن، إلى شاطئ الأمان وبر السلام، اللهم اجمع كلمة قادة اليمن على ما تحب وترضى، اللهم أصلح الحال والمآل، اللهم أخرج بلادنا من هذه المحن يا رب العالمين، اللهم يسر بفتح الطرق والمنافذ والمطارات، اللهم هيئ لهذا البلد رجالاً صادقين مخلصين يسعون لنفع البلاد يا أكرم الأكرمين،
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، وراقدين، وأقم الصلاة.
المرفقات
1728235836_الإسفار عن حقوق ومنزلة الجار خطبة في مسجد الأنوار بحارة النصر بمعبر 3 ربيع الأول 1446هـ.pdf