الإسراف والتبذير

تركي المطيري
1446/10/17 - 2025/04/15 08:21AM

الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ،  الْمُحْسِنِ بِفَضْلِهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْأَنَامِ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا،  وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ،  وَنَهَى أَنْ يُبَذَّرَ الْمَالُ تَبْذِيرًا،  وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ،  وَأَفْضَلُ رُسُلِهِ الْكِرَامِ،  أَرْسَلَهُ رَبُّهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،  وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا،  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللَّهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ من نِعَمِ الله على العِبَادِ نِعمَةُ المالِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ زِينةَ الحياة الدنيا ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ فَكما أمرَ الله تعالى أن يكتسب العبادُ أموالَهم من حلالِ طيبِ كما في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾ فإنه نهاهم عن صَرفِ المالِ وإضاعتِهِ بالإسرافِ والتَّبذِيرِ ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾، فَالإسرافُ: تجاوُزُ الحَدِّ في النَّفَقةِ. والتَّبذيرُ: إنفاقُ المالِ في غَيرِ حَقِّه.

فَالْإِسْرَافُ دَاءٌ قَتَّالٌ، وَمَرَضٌ عُضَالٌ، يَهْدِمُ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُبَعْثِرُ الْأَمْوَالَ وَيُبَدِّدُ الثَّرَوَاتِ،  وَهُوَ تَوْجِيهٌ غَيْرُ سَوِيٍّ لِنِعْمَةِ الْمَالِ الَّتِي اسْتَوْدَعَهَا اللهُ الْإِنْسَانَ وَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، وَاسْتِرْسَالٌ فِي الْمُتَعِ وَاللَّذَّاتِ، وَاسْتِغْرَاقٌ فِي الِانْحِدَارِ وَالشَّهَوَاتِ، وصفةٌ من صفات الشياطين  ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ وَالْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ مِنْ أَعْظَمِ أسْبَابِ زَوَالِ النَّعَمَةِ وَفُقْدَانِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، وقَالَ تعالى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

الإسرافُ يُفضِي إلى الفقرِ والفاقَةِ، الإسرافُ يُنبِتُ في النفوس أخلاقًا مرذولةً؛ من الجُبن، والجَور، وقلَّة الأمانات، والإمساك عن البذل في وجوه الخير؛ لأن شدَّة التعلُّق باللذَائِذ من العيش؛ يُقوِّي الحِرصَ على الحياة، ويُبعِدُ عن مواقِع البذل والفِداء والعطاء.

الإسراف يُسهِّل على النُّفوسِ ارتِكابَ الجَورِ؛ لأن المُنغمِس في الإسراف يحرِصُ على إشباع رغبَاتِه ولا يُبالِي أن يأخُذه من أي طريقٍ، فتمتدُّ يدُه إلى ما في يدِ غيرِه بطُرقٍ مُلتوية ووسائل مُريبة.

الإسراف يدفعُ بصاحبِهِ إلى الإِمسَاكِ عن فعلِ الخيرِ وبذلِ المعروفِ؛ فَمَن أخذَتْ ملذَّاتُهُ بمجامِع قلبِه كَانَ أعظمَ همِّهِ إعطاءَ نفسَهُ مُشتهاها في مطعومِه وملبُوسِه ومركوبِه ومفروشِه.

وَإِنَّ لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ أَسْبَابَاً وَدَوَافِعَ مِنْهَا: جَهْلُ أَوْ تَجَاهُلُ الْمُسْرِفِينَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ، وَحُبُّ الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالرَغْبَةُ فِي التَّسَابُقِ وَالتَّكَاثُرِ فِي مَظَاهِرِ الدُّنْيَا الزَائِفَةِ، وَالتَّقْلِيدُ وَاتِّبَاعُ الْعَادَاتِ، وَمُصَاحَبَةُ الْمُسْرِفِينَ؛ لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَتَأَثَّرُ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَيَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِ، وَالتَّأَثُّرُ بِمُحْتَوَى مَشَاهِيرِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِي، وَمُسَايَرَتُهُم فِي حَيَاةِ الْبَذَخِ وَالْإِسْرَافِ، حَتَّى أُصِيبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسُعَارِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَالْمَظَاهِرِ الْمُثِيرَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ الْجَوْفَاءِ بِلَا تَمْحِيصٍ وَلَا بَصِيرَةٍ.

وَمِنْ مَظَاهِرِه: الْإِسْرَافُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ؛ فَتُوضَعُ أَطْعِمَةٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرِبَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ ثُمَّ يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْ أَكْثَرِهَا تَارِكِينَ سَبِيلَهَا إِلَى حَاوِيَاتِ النُّفَايَاتِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَعْرَاسِ وَالْحَفَلَاتِ، مِنَ  السَّرَفِ وَالْبَذَخِ إِلَى حَدِّ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرِ، وَالسُّمْعَةِ وَالتَّكَاثُرِ؛ وَلَقَدْ تَسَابَقَ أُنَاسٌ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْوَلَاَئِمِ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَتَحَمَّلُوا مِنَ الدُّيُونِ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ؛ حَتَّى أَرْهَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَغَلُوا ذِمَمَهُمْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، وَكَمْ تُهْدَرُ مِنْ أمْوَالٍ بِلَا دَاعٍ، وَكَمْ تَضَيعُ مِنْ نفَقَاتٍ بِلَا مُسَوِّغٍ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " إنِّي لَأُبْغِضُ أَهْلَ بَيْتٍ يُنْفِقُونَ رِزْقَ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ".

فاتَّقُوا اللهَ، وَحَافِظُوا عَلَى النِّعْمَةِ مِنَ الزَّوَالِ، وَاعْمَلُوا فِيهَا بِالْحَلَالِ؛ تُؤْجَرُوا وَتُرْزَقُوا وَيُبَارَكْ لَكُمْ فِيهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ، وَاحْذَرُوا الْإِمْسَاكَ وَالتَّقْتِيرَ، فَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بِما فِيهِ منِ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، إِنِّه تَعَالى جَوادٌ كَرِيْمٌ، ملك برٌّ رءوفٌ رَحِيمٌ، فاسْتَغْفِروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى جنته وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وملائكتهُ والصالحون من خَلقِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَعْوَانِهِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتُّقُوا اَللَّهَ -عِبَادَ اَللَّهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ من جَالِباتِ الهُمومِ والغُمومِ للبيوت تَصْوِيرِ الْوَلَاَئِمِ وَنَشْرِهَا فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ وَالَّتِي أَخَرَجَتِ الْوَلَاَئِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْكَرَمِ إِلَى الرِيَاءِ وَالْمُبَاهَاةِ، والتفاخُرَ في الإنفاق؛ وَفِي هَذَا كَسْرٌ لِنُفُوسِ الْفُقَرَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ الْمَمْقُوتِ وَالتَّبْذِيرِ الْمُسْتَقْبَحِ الَّذِي نَهَى الشَرْعُ عَنْهُ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ، وَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي أَوْقَاتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا وَأَزْوَاجِنَا.

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِين، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّيِّبِينَ وَصَحَابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ وَتَابِعِيَّهِمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطْمَئنَاً وَسَائرَ بِلادِ المُسلمينَ.اللَّهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرَمينَ الشَريفينَ، وَوليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ. عِبَادَ اللَّهِ: اذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللَّهُ يَعلَمُ ما تَصْنَعُوْنَ.

 

المرفقات

1744694495_الإسراف والتبذير.docx

1744694502_الإسراف والتبذير.pdf

المشاهدات 461 | التعليقات 0