الإسراء والمعراج (5) الهداية للأحسن والأيسر

الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ (5)
الْهِدَايَةُ لِلْأَحْسَنِ وَالْأَيْسَرِ
25/7/1433

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ رَحِمَ عِبَادَهُ، فَدَلَّهُمْ عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَاخْتَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِرَحْمَتِهِ، فَأَلَانَ قُلُوبَهُمْ لِلْحَقِّ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَأَيْقَنُوا وَأَذْعَنُوا، [يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] {لقمان:4}، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَصْرِيفُ الْقُلُوبِ بِيَدَيْهِ، وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ؛ [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {القصص:56}، فَمَنْ أَيْقَنَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ؛ زَادَهُ هُدًى وَتَوْفِيقًا؛ [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] {محمد:17}، وَمَنْ أَعَرْضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ هِدَايَتَهُ فَإِنَّ إِعْرَاضَهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا رِجْسًا وَمَرَضًا؛ [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا] {البقرة:10} [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {الصَّف:5}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى وَهَدَى بِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ هُدِيَ وَنَجَا، وَمَنْ عَصَاهُ ضَلَّ وَغَوَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا فِي يَوْمِكُمْ تَجِدُوهُ ذُخْرًا لَكُمْ، وَاعْمُرُوا دُنْيَاكُمْ بِطَاعَةِ رَبِّكُمْ تُفْلِحُوا فِي آخِرَتِكُمْ؛ [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] {النساء:124}.
أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ نِعْمَةٍ تُسْدَى لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا هِدَايَتُهُ لِمَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ مُهِمَّةً يَقُومُ بِهَا هِدَايةُ الخَلْقِ لِمَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُحْصَى تَقْصُرُ دُونَ نِعْمَةِ الهِدَايَةِ؛ فَإِنَّ الهِدَايَةَ سَبَبُ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الانْصِرَافَ عَنْهَا يَهْوِي بِالمُنْصَرِفِ إِلَى دَرَكِ الشَّقَاءِ الأَبَدِيِّ، وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَرِيرٍ البُجَلِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَدَعَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ : «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأُمَّةُ الْإِسْلَامِ أُمَّةٌ مَهْدِيَّةٌ لِلْحَقِّ، لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْبَاطِلِ أَبَدًا؛ لَأَنَّ نَبِيَّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْدِيٌّ؛ قَدْ هَدَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهَدَى بِهِ، [وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى] {الضُّحى:7}، وَحِينَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ هِدَايَةُ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي الْغَارِ قِبِلَهَا فَلَمْ يَرْفُضْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنْهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ بَعْدَ تَنَزُّلِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى، حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَأْخُّرِهِ؛ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَرَغَبْةً فِيهِ.
ثُمَّ ظَهَرَتْ هِدَايَةُ اللهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ حِينَ خُيِّرَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، تِلْكَ اللَّيْلَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا لَمْ يُكْرِمْ أَحَدًا قَبْلَهُ، وَلَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَدًا بَعْدَهُ؛ فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، وَبَلَغَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى، فَكَلَّمَهُ مَبَاشَرَةً، وَأَلْقَى إِلَيْهِ أَوَامِرَهُ، وَفَرَضَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ؛ فَيَا لَهَا مِنْ لَيْلَةٍ عَاشَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُكْرِمَ بِهَا، وَتِلْكَ كَرَامَةٌ لِأُمَّتِهِ!
وَأَمَّا اخْتِيَارُهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ حِينَ خُيِّرَ لِمَا فِيهِ هِدَايَتُهُ وَهِدَايَةُ أُمَّتِهِ فَقَدْ جَاءَ خَبَرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ - أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ - أَمَّا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ، فَقَالَ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ: أَخَذْتَ الفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
لَاحِظُوا تَوْفِيقَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ بِهِدَايَتِهِ لِمَا يَنْفَعُ أُمَّتَهُ، وَبُعْدِهِ عَمَّا يَضُرُّهَا، مَعَ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدْ وَلِعُوا بِشُرْبِهَا، لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هَدَى نَبِيَّهِ لِمُجَانَبَتِهَا، فَسَلِمَتْ أُمَّتُهُ مِنَ الْغِوَايَةِ، وَسَلَكَتْ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ؛ وَلِذَا لَا تُجْمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ حَرْفُ مَجْمُوعِ أَفْرَادِهَا عَنِ الدِّينِ، فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتِيَارَ اللَّبَنِ لِمَا أَرَادَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ تَوْفِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاللُّطْفِ بِهَا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ، الْمُخْتَارُ مِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ جِبْرِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اخْتَارَ اللَّبَنَ كَانَ كَذَا، وَإِنِ اخْتَارَ الْخَمْرَ كَانَ كَذَا، وَأَمَّا الْفِطْرَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْإِسْلَامُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: اخْتَرْتَ عَلَامَةَ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَجُعِلَ اللَّبَنُ عَلَامَةً؛ لِكَوْنِهِ سَهْلًا طَيِّبًا طَاهِرًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، سَلِيمَ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا الْخَمْرُ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَجَالِبَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّبَن قِيلَ لَهُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَة... وَحَيْثُ جَاءَتِ الْفِطْرَةُ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُرَادُ بِهَا: فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ لَا غَيْرَ.
وَكَانَ لِهِدَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِلْفَطْرَةِ حِينَ خُيِّرَ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ آثَارٌ فِيمَا بَعْدُ، فَوَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَحْسَنِ الدِّينِ؛ [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا] {النساء:125}، وَهَدَاهُ لِأَحْسَنِ الْقَوْلِ؛ [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}، وَهَدَاهُ لِأَحْسَنِ الْحُكْمِ؛ [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}، وَهَدَاهُ لِأَحْسَنِ الْحَدِيثِ؛ [اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ] {الزُّمر:23}.
وَحِينَ وُفِّقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اخْتِيَارِهِ لِلْأَحْسَنِ، وَأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى الْأَحْسَنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ وُفِّقَ أَيْضًا لِاخْتِيَارِ الْأَيْسَرِ؛ إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْحُسْنِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْسَنُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ هُوَ الْأَشَقَّ، وَظَهَرَ ذَلِكَ جَلِيًّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ رَاجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِرَارًا يَسْأَلُهُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَخَفَّفَ الصَّلَوَاتِ مِنْ خَمْسِينَ صَلَاةً إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَكَانَ اخْتِيَارُ الْأَيْسَرِ قَانُونًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا قَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاس مِنْهُ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
تَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ تَوْفِيقَ اللهِ تَعَالَى لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُسْنِ الاخْتِيَارِ، وَهُوَ تَوْفِيقٌ يَعُودُ عَلَيْكُمْ وَعَلَى كُلِّ أَفْرَادِ الأُمَّةِ جَمْعَاءَ بِالْخَيْرِ العَظِيمِ، حِينَ يَخْتَارُ لَكُمُ الأَحْسَنَ مِنْ أَهَمِّ شَيْءٍ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ وَهُوَ الدِّينُ، وَيَكُونُ هَذَا قَانُونًا فِي الاخْتِيَارِ، وَمَعَهُ اخْتِيَارُ الأَيْسَرِ؛ لِيَجْتَمِعَ لَكُمُ الحُسْنُ وَالْيُسْرُ كَمَا لَمْ يَجْتَمِعَانِ لِأُمَّةٍ قَبْلَكُمْ.
وَلِكَيْ تَتَّضِحَ صُورَةُ ذَلِكَ أَجْرُوا هَذَا القَانُونَ فِي أُمُورِكُمُ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِ النَّاسِ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَحْسَنَهَا، وَمِنَ البُيُوتِ أَحْسَنَهَا، وَمِنَ المَزَارِعِ أَحْسَنَهَا، وَمِنَ السَّيَّارَاتِ أَحْسَنَهَا، وَمِنَ المَتَاعِ وَالأَثَاثِ أَحْسَنَهُ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُهُ يَنَالُ الأَحْسَنَ مِنْهُ، وَمَعَ نَيْلِهِ لِلْأَحْسَنِ يَحْصُلُ عَلَيْهِ بِأَيْسَرِ الطُّرُقِ، وَأَقَلِّ العَمَلِ، وَأَنْقَصِ المُؤَنِ! لاَ شَكَّ أَنَّهُ سَيَكُونُ المُتَمَيِّزَ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ مَحَلُّ غِبْطَتِهِمْ وَحَسَدِهِمْ، وَيَتَمَنَّى النَّاسُ مَا أُعْطِيَ، وَمَا قِيمَةُ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ عِنْدَ الدِّينِ الَّذِي يَبْقَى لِلْإِنْسَانِ أَثَرُهُ فِي النَّعِيمِ إِلَى الأَبَدِ، وَقَدْ حَبَاكُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ الأَحْسَنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فِي شَرِيعَتِهِ وَحُكْمِهِ وَكِتَابِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاتِهِ وَحُدُودِهِ وَرُخَصِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنُدْرِكَ بِذَلِكَ مِنَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا، وَنَعْرِفَ حَقَّ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ أَنْ نَسْتَمْسِكَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي هُدِينَا إِلَيْهِ، وَلاَ نَحِيدُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَرِيعَتِهِ؛ لِأَنَّهَا الأَحْسَنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَا لَرِبْحَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا فَنَالَ الأَحْسَنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَا لَخَسَارَةَ مَنْ عَرَفَهَا ثُمَّ جَانَبَهَا إِلَى مَنَاهِجِ العَمَى وَالضَّلاَلِ، فَتَرَكَ الأَحْسَنَ إِلَى الأَسْوَأِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الضَّلالِ وُالخُسْرَانِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الهِدَايَةَ وَالفَلاَحَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {الأعراف:35}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ اخْتَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا مِنَ الدِّينِ أَحْسَنَهُ، وَمِنَ الشَّرِيعَةِ أَحْسَنَهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ إِحْدَاثٍ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ نُزُولٌ مِنَ الأَحْسَنِ إِلَى الأَسْوَأِ، وَصَاحِبُهُ يَسْتَدْرِكُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ لَوْ رَضِيَ بِمَا اخْتَارَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا أَحْدَثَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ.
وَفِي هَذِهِ الأَيَّامِ يَحْتَفِلُ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ بِلَيْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ تَحْدِيدُ عَامِهَا وَلاَ شَهْرِهَا، فَكَيْفَ إِذَنْ بِتَحْدِيدِ لَيْلَتِهَا؛ فَالنَّاقِلُونَ لِلسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ اخْتِلافًا كَثِيرًا، وَلَوْ كَانَ لِمَا يُوافِقُ اللَّيْلَةَ الَّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيَالِي أَهَمِّيَّةٌ، لَحَفِظَ اللهُ تَعَالَى تَعْيِينَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَمَا أَضَاعَتِ الأُمَّةُ حِفْظَهَا، وَلَكَانَتْ مُعْتَنِيَةً بِمَعْرِفَتِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَفِظَ القُرْآنَ وَالدِّينَ، وَلَوْ كَانَ لِلَيْلَةِ الإِسْرَاءِ أَهَمِّيَّةٌ لَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِمَا يُوافِقُهَا مِنْ كُلِّ عَامٍ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، وَلَحَفِظَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، كَمَا حَفِظُوا القُرْآنَ وَأَحْكَامَ الدِّينِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِمَا يُوافِقُهَا مِنْ كُلِّ عَامٍ أَيُّ أَهَمِّيَّةٍ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى ضَاعَ تَحْدِيدُهَا، وَلَمْ يُحْفَظْ، فَكَانَتْ كَسَائِرِ اللَّيَالِي.
وَكُلُّ زَمَنٍ يُخَصُّ بِشَعَائِرَ وَعِبَادَاتٍ، أَوْ بِتَعْظِيمٍ وَاحْتِفَالاَتٍ فَهُوَ عِيدٌ وَلَوْ لَمْ يُسَمَّ عِيدًا، إِذَا كَانَ التَّعْظِيمُ لِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَنِ أَوْ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَهَذَا ابْتِدَاعٌ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى يُخَالِفُ اخْتِيارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا هُوَ أَحْسَنُ وَأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ البِدْعَةَ سَيِّئَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَعِنْدَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا مِنَ المَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا يَصْنَعُونَهُ مِنَ احْتِفَالاتٍ، وَمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ أَطْعِمَةٍ وَزِينَاتٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَهِيَ مَشَقَّةٌ بِوِزْرٍ وَإِثْمٍ وَبِلاَ أَجْرٍ، فَكَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْهَدْيِ النَّبَوِيِّ.
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ لَمْ تُعَظَّمْ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلاَمِ، وَاتَّخَذُوهَا أَعْيَادًا يُضَاهُونَ بِهَا العِيدَيْنِ الشَّرْعِيَّيْنِ هُمْ بَنُو عَبِيدٍ البَاطِنِيُّونَ الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مِصْرَ وَبَعْضِ الشَّامِ فِي المِئَةِ الرَّابِعَةِ الهِجْرِيَّةِ، وَهُمْ أَجْدَادُ مَنْ يَذْبَحُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ الآنَ فِي بِلادِ الشَّامِ مِنْ النُّصَيْرِيِّينَ القَرَامِطَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَا يَسْتَحِقُّونَ.
وَإِحْيَاءُ مَا يَظُنُّونَهُ يُوَافِقُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ، وَفِيهَا مَشَاقَّةٌ للهِ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ، واتِّهَامٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتْمَانِ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ المَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ بِلاَ أَجْرٍ، فَكَانَتْ مُبَايِنَةً لِمَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الحُسْنِ وَاليُسْرِ، واللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِطَاعَتِهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {آل عمران:132}، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ طَاعَةَ نَبِيِّهِ مِنْ طَاعَتِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ] {النساء:80}، وَأَمَرَنَا بِأَخْذِ مَا أَتَانَا بِهِ، وَمُجَانَبَةِ مَا نَهَانَا عَنْهُ، [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الحشر:7}، فَالْحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ البِدَعِ وَإِنْ تَلَبَّسَ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الحَقَّ عَزِيزٌ، وَأَهْلُهُ فِي أهْلِ البَاطِلِ قَلِيل، [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {الأنعام:116-117}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
المرفقات

الإسراء والمعراج (5).doc

الإسراء والمعراج (5).doc

الإسراء والمعراج5.doc

الإسراء والمعراج5.doc

المشاهدات 2490 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


شكر الله تعالى لك أيها الأخ الكريم شبيب مرورك وتعليقك واستجاب دعاءك ونفع بك.. آمين