الإخلاص الإخلاص تثبتوا على الهدى/نماذج من إخلاص السلف
أسامة كمال ساحلي
فإن أعظم ما يسعى إليه المؤمن في الحياة أن يهديه الله إلى صراطه المستقيم ويثبته على دينه القويم، ذالك أن القلوب كثيرة التقلب في مقاصدها ونياتها ولذالك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"
وما سمي الإنسان إلا لنسيه... ولا القلب إلا أنه يتقلب
عباد الله: إن أعظم الأصول على الإطلاق ورأسها بالاتفاق التي تعين العبد على الثبات على دينه تحقيقُ الإِخلاص لله تعالى في جميع العبادات.
فالمعاملة الخالصة الصادقة مع الله رب العالمين مثبتة على الدين. /فالنيةَ اجعل لوجه الله خالصة..إن البناء بدون الأصل لم يقمِ / وقد تنوعت عبارات السلف...
قال بعضهم: الإِخلاص هو ألا تطلب على عملك شاهدًا غير الله تعالى، ولا مجازٍ سواه.
قال أبو عثمان النيسابوري: صدق الإخلاص هو نسيان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق،
وقال سهل بن عبد الله "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركته لله تعالى خاصة"
فلب الإخلاص_عباد الله_: هو تنقية العمل بصالح النية عن إرادة غير الله تعالى، فإذا حصل ذالك للعبد فليتذكر منّة الله عليه إذ هو الذي وفقه لذلك وأعانه على العمل لوجهه حتى يذهب العجب من قلبه والله لولا الله ما اهتدينا ...
فإذا فرغ من عمله وجل قلبه خوفًا من الله أن يردّ عليه عمله فلا يقبله منه. قال الله تعالى: } وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {، ومن جمع هذه الخصال الثلاث كان مخلصًا في عمله إن شاء الله تعالى.
والإِخلاص هو حقيقة الدِّين، ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام، قال تعالى: } وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ {.
وقال تعالى: } قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي { وقال سبحانه: } الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {. قال الفضيل: } أَحْسَنُ عَمَلاً {: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السُّنَّة
فمن كان فيما بينه وبين الله في داخل نيته التي لا يطلع عليها إلا الله صادقا في معاملته مع الله ثبته وأسعده في الدنيا والآخرة. {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
من تعامل مع الله بإخلاص وصدق مريدا للآخرة شكر الله له سعيه وثبته، {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يفترق المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت».
وقال أيضًا: ولو نفع العمل بغير إخلاص لما ذم الله المنافقين.
وفقدان الإِخلاص سبب لرد العمل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةt: أن النبي r قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْـمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» صحيح مسلم
ولما بلغ هذا الحديثُ معاوية بكى بكاءً شديدًا، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله: } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {(رواه ابن حبان في صحيحه)
وروى النسائي في سننه من حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ t: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «لاَ شَيْءَ لَهُ». فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ r: «لاَ شَيْءَ لَهُ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»(رواه النسائي وجود إسناده النووي.
الإخلاص معاشر المؤمنين من أشق الأمور على النفوس وهذه المشقة لا يجدها عوام الناس فحسب بل كثير من العلماء والصالحين لاقوا هذه المعاناة
وقيل لسهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإِخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي، إنها تتقلب عليَّ.
وقال بعض السلف: من سلم له من عمره لحظة خالصة لوجه الله، نجا وذلك لعزة الإِخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب؛ فإن الخالص هو الذي لا باعث له إلا طلب القرب من الله تعالى.
وهذه قصة فيها عبرة وموعظة لأولى الالباب هذا أشْعب بن جبير المدني يقول: خرجت يوما في أحد أزقة المدينة وإذا مناد: ياأشعب!قلت لبيك! قال : كم عدد عيالك؟ فأخبرته. قال: إني أُمِرْت أن أجري عليك وعلى عيالك في كل شهر كذا وكذا ما دمت حيا. قال أشعب: فمن أمرك؟ قال: لا أخبرك. قال: هذا معروف يُشكر. "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه". فقال الرجل: إن الذي أسداه إليك لا يريد شكرك.
قال: فكان يأتيني في كل شهر ما وعدني به. فلما مات خالد بن عبد الله بن عمر بن عثمان حفَل الناس في تشييعه، فكنت فيمن شيَّعه ضمن جمع كبير،
قال أشعب: وبينا أنا في الجموع، وإذا بصاحبي الذي يأتيني بما وعدني يقول: ياأشعب؟ قلت لبيك. قال: أتريد أن تعرف صاحبك الذي كان يُجري عليك ما آتيك به؟ قلت: إي والله! قال: هو صاحب هذه الجنازة.
فاعل الخير من وراء حجاب، خالد بن عبد الله. فلسان حال أشعب: اللهم إنه قد كفانا مؤونة الدنيا، فاكفه مؤونة الآخرة.
معشر الأحبة: ما أثبت وأنعم النفوس التي تسعى للبذل لله، وتتوارى من الخلق، وحالها: "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا"
المعاملة الخالصة مع الله مثبتتة باقية لا تضمحل
ما كان لله فهو الخالد النَّضِرُ....والزيف يفنى ويفنى من له عبدوا
المعاملة الخالصة المثبتة تقتضى أن توقن أن الله ينظر إلى ما يقوم بقلبك فتستحي أن يلتفت إلى غيره "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". إن أردت أن تثبت فلا يَرَيَنَّ الله في قلبك إلا ما يحب.
فقد يعبد المرء أهواءه....فتسطو به في تعال وهيت
المعاملة الخالصة المثبتة على دين الله تقتضي أن توقن أن الخلق من لدن آدم إلى يومك هذا إلى قيام الساعة لو وقفوا ورائك ليقدموك إلى الجنة خَطوة أو يأخروك عن النار خطوة لعجزوا.
وليكن حالك ومقالك: يارب!
ألا ليت الذي بيني وبينك عامر....وبيني وبين العاملين خرابُ
وليتك ترضى والأنام غضابُ
إذا صح مني الوُد فالكل هين.....وكل الذي فوق التراب ترابُ.
المعاملة الخالصة مع الله وسيلة ناجحة في الشدة والضراء، إذا اختلطت عليك الأمور، والتبس الحق بالباطل، وعظُم الخطب، واشتد الكرب. فما بينك وبين الله إلا أن تقول كما قال أصحاب الغار: اللهم إني فعلت كذا يوم كذا، اللهم إن كنت فعلته ابتغاء مرضاتك فافرج عني ما أنا فيه. تجد أثر تلك الوسيلة بَيِّنا.
والخلاصة كما قال ابن القيم رحمه الله: إن الإخلاص لله تعالى وإرادة وجهه رأس مال العبد وملاك أمره، وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه، وقرة عينه، ولذلك خُلق وبه أُمر، وبذلك أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلَّا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده، ومن كان كذلك كفاه الله كل مهمٍّ، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه ما لا يستطيع دفعه عن نفسه، ووقاه وقاية الوليد، وصانه من جميع الآفات. ومن كان لله كان الله له، حيث لا يكون لنفسه.