الإحسان للوالدين

أنشر تؤجر
1446/05/26 - 2024/11/28 17:21PM

الحَمْدُ للهِ عَمَرَ قُلُوبَ عِبادِهِ بِالإيمَانِ ، وَغَمَرَ صُدُورَهُمْ بِالإحْسَانِ , أَشهَدُ ألَّا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ بَشَّرَ الذين أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى وَزِيَادَة ، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلى آلِهِ وَأصحَابِه أُولِي الفَضْلِ والرِّيادَةِ ، وَمَن تَبِعَهُم بِإحسانٍ وَإيمانٍ إلى يومِ القِيَامَةِ .

أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ وَلا تَعْصُوهُ فَهُوَ القَائِلُ :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ).

أيها المسلمون : حديث القرآن عن الوالدين يكاد يقطر رقةً وعطفًا ، ويفيض نصحًا ولطفًا ، يطرق الموضوع من جميع جوانبه ، ويسير بركب البشرية ليوصلها شاطئ الأمان .                                           

وأكثر ما يلفت الانتباه في موضوع الوالدين ، الأمر بالإحسان لهما ؛ إذ يتكرر في القرآن كثيرًا، لترسيخ هذه القاعدة في وعي كل مسلم ، وتكونُ الأساسَ في التعامل مع كل أب وأم ، حتى يأتي الإحسان لهما في درجة مباشرة بعد عبادة الله عز وجل ، فقال سبحانه :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾

فالإحسان للوالدين هو أقصى درجات البر والتلطف في المعاملة ، ثم يذكر الله في القرآن أدنى درجات البر ، وهو يصور الوالدين وهما في أسوأ حالاتهم ، فقال تعالى :﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، ومع هذا فالابن مأمور ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ .                                         

كما يعتني القرآن بتفاصيل التعامل مع الوالدين، ويعلِّمنا كيفية خطابهم، واختيار ألينِ الألفاظ وأرقِّها، ووضع لنا مثالًا تخفق القلوب عند قراءته ، فكيف بسماعه !

وهي قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه ، قال الله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾.                

يا لله العجب من هذا الأسلوب الأنيق والخطاب الرقيق، والعجب كل العجب أنه كان يخاطب والده الكافر بهذه الكلمات ، فكيف لو كان مسلمًا ! فكيف لو كان شيخًا كبيرًا ! فما عذر الأبناء في مخاطبة والديهم بأغلظ الألفاظ، وقد خبؤوا ألينَها وأطرفها لغيرهم!

عباد الله : لقد نهى الله في القرآن عن ألفاظ قد يستسهلها البعض ، للتنبيه على ما هو أعلى منها ، فقال سبحانه :﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ ، وقرن مع أدب اللغة أدبَ الجسد :﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ ، قال القرطبي رحمه الله:" فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة ، في أقواله وسكناته ونظره ، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب ".. 

ثم يختم الله جل وعلا بأمر الأبناء بالدعاء لأبويهما ، فقال تعالى :﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ ، خص التربية بالذكر ، ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية ، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.

وأثمن ما يقدّمه الولد لوالديه الدعاء ، وهو عبادة ميسورة ، ومن أوفى البر في حياتهما وبعد مماتهما . 

يقول عامر بن عبدالله بن الزبير : مات أبي فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفوعنه.                                                          

إنها – يا عباد الله - لوحة الإرشاد للبر، رَسَمَتْ خطوطَهُ ومعَالِمَهُ ، كما في هذه الآية ؛ إذ جمعوا بين رقة القول ولين الجسد الذي يُختم بالدعاء ، فكيف ستكون سعادةُ الآباء وفرحِهِم ؟وكيف سيكون فوزُ الأبناء ببرهم ورضا ربهم ؟. 

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم مِن كُلِّ ذَنبٍّ وَخَطِيئَةٍ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية :

الحمدُ للهِ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِن عِبادِهِ لِمَكَارِمِ الأَخلاقِ ، وَهدَاهُم لِما فِيهِ فَلاحُهُمْ في الدُّنيا ، وَيومَ التَّلاقِ ، وَأَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاِّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسولُهُ ، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ وَمنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ التَّلاقِ ؛ أما بعد :

عباد الله : إن كل من فقد والديه أو أحدهما ، فإن له أسوة بنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم ، الذي فقد والديه مبكراً وهما على غير دين الإسلام ، فيكفله جده الذي لا يلبث أن يموت ، ثم يكفله عمه العجوز ليضمه مع أسرته الكبيرة مع قلة ذات اليد ،﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾                  

ويا من فقدت والديك أو أحدهما إن اللقاء لا ينتهي هنا ، وإنما يبدأ هناك ، فما أجمل حين تجتمع بوالديك في جنة عدن ، ذاك النعيم الذي استشعرته الملائكة في دعائها :﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، إنه الاجتماع الذي لا تفرُّق بعده ، ولا حزن فيه ، ولا حسد ولا بغضاء بين جهاته ونواحيه ، بل تأمل هذا الفضل من الله على الآباء والأبناء في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ .                                                        

قال ابن كثير رحمه الله :" يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه برفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته "؛ ا.هـ.                                                           

إنه العزاء والتثبيت وترويح القلوب على طريقة القرآن، إنه الأمل بتلاق ليس بعده فراق ، وفرح لا حزن معه ، وسرور لا نكد فيه ،﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.

فاللهمَّ أعنَّا على بِرِّ والدينا أحياءً ومَيِّتينَ , اللهمَّ أسعِدنا بِدُعائِهما وبِرِّهما واجعلهم عنَّا راضينَ ، اللهمَّ من أفضى منهما إلى ما قَدَّمَ فَنَوِّرَ لهُ قَبرَهُ ، واجزهِ عَنَّا خَيرَ الجَزَاءِ وأوفاهُ ، واجمَعنَا بهم في دارِ كرامَتِكَ يا رَبَّ العَالَمِينَ ، ومن كان منهم حياً فأطل في عمره على طاعتك ومده بالصحة والعافية.

اللهم فاغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا ، وما أَسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منَّا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، وانصر عبادك المؤمنين .

اللهم آمنا في أوطاننا ووفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى .

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله ، أنت الغني ونحن الفقراء ، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثًا مُغيثًا ، مريئًا مَريعًا ، نافعًا غير ضار ، عاجلًا غير آجل .

اللهم اسقِ عبادَك وبهائمك ، وانشُرْ رحمتَك ، وأحيِ بلدَك الميت .

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المرفقات

1732803703_الإحسان للوالدين.docx

المشاهدات 119 | التعليقات 0